مزحة ترامب التي أصبحت واقعا

انتخب الكرادلة المجتمعون في كنيسة سيستينا بحاضرة الفاتيكان، الخميس 8 مايو الجاري، الكاردينال الأميركي، روبرت فرنسيس بريفوست، ليكون الخليفة الـ267 للقديس بطرس الرسول، والذي اتخذ اسم البابا “ليو الرابع عشر”.
هكذا خبر، رغم رمزيته الدينية لدى الطائفة الكاثوليكية في العالم، إلا أنه كاد ليكون طبيعيا لا بل عاديا، لو لم تصادف الشخصية المنتخبة "أميركية"، ولو لم يأت انتخابه بعد أيام من إطلاق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحا على شكل مزحة عندما سئل في البيت الأبيض الاثنين 28 أبريل الماضي، عمّن يفضل أن يكون البابا القادم، ليجيب “أود أن أصبح أنا البابا سيكون هذا خياري المفضل.”
هذا ما وجد فيه البعض بأن المزحة الترامبية ترجمت واقعا ولكنّ السؤال الذي يطرح هل من تدخل أميركي في عملية الانتخاب؟ وهل ستثير تلك الشخصية البابوية الجدل مع القيم الأوروبية وفي قضية غزة والمنطقة كما هو الحال عند الأميركي ترامب؟
لم يخف ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض صراعه مع القيم الديمقراطية الغربية المتطرفة، فهو الذي عُرف منذ إطلاق حملاته الانتخابية بمعارضته الشديدة للأفكار التي تدعو إلى الحرية المطلقة، بما يرتبط بزواج المثليين أو تغيير الجنس أو الإجهاض وغيرها من القيم التي دعا الحزب الديمقراطي المتمثل بالرئيس الأسبق جو بايدن، إلى تكريسها قانونيا في البلاد.
◙ من المؤكد أن الصهيونية التي لن تتسامح مع قرارات ترامب، لن تفعل ذلك حتما مع المسار السلمي للبابا الجديد، هذا ما يؤكد أن المزحة التي أصبحت واقعا
لا شكّ أن ترامب جعل من خلال قراراته التنفيذية في هذا الشأن أعداء له في الداخل الأميركي كما الأوروبي الذي يعتبر أنّها منبثقة من قيمه. هذا ما ترجمه في أرض الواقع، ومن دلالاته ما سمحت به المحكمة العليا الأميركية في 6 مايو الجاري، من سريان الحظر الذي فرضته إدارته على خدمة المتحولين جنسيا في الجيش أثناء نظر القضايا المتعلقة بهذا الشأن.
في الدائرة الأوسع من الصراع الترامبي مع القيم الديمقراطية، وجد ترامب نفسه أمام صراع حقيقي تمثل مع حليفه التاريخي الأوروبي. لقد أكدت نتائج الانتخابات الأوروبية، تحديدا تلك التي أتت باليمين المتطرف إلى السلطة درجة التأثير لترامب ووزيره الملياردير إيلون ماسك فيها، ما حثّ قادة من الاتحاد الأوروبي القيام بحملة تهدف إلى منع تدخلات ترامب وماسك في الشأن الأوروبي. هذا الأمر يؤكد على جدية التصادم بين ما يطرحه ترامب وبين التمسك الأوروبي بقيمه التي يجدها أساسية للاستمرار والحفاظ على الهوية الغربية في ظلّ موجة صدامية بين الشرق والغرب تهدف إلى تغيير أسس النظام الدولي الحالي.
الصدام الأميركي – الأوروبي ستمتد جذوره إلى صدام فاتيكاني – أوروبي، لاسيما وأن البابا الجديد كان الصوت الصارخ في دوائر الفاتيكان بوجع تلك القضايا. في حين كان البابا الراحل فرنسيس أكثر دبلوماسية في مواجهة تلك القيم، فهذا الجديد، على ما يبدو، سيسلك مسار المواجهة خصوصا وأنه أميركي مستندا على ما وصله من تعبير ترامب بعد انتخابه بأنه “شيء رائع.”
دعا البابا ليو الرابع عشر، أول بابا أميركي في التاريخ، إلى “بناء الجسور عبر الحوار” وطالب من أجل تحقيق ذلك للمضي قدما دون خوف، متحدين يدا بيد مع الله وبعضنا مع بعض. جميلة هذه الدعوة “المطلوبة” في أكثر مرحلة زمانية يحتاج فيها العالم إلى مثل هكذا دعوات، لاسيما مع عدم التمكن من إيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ومع عدم التمكن إلى الآن من ردع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن وقف مجازره في غزة، ومنعه من الاعتداءات يوميا على أكثر من بلد عربي تحت ذرائع مختلفة. وفي ظلّ صراع نووي مستجد بدأ يطل في آسيا بين كل من الهند وباكستان، إضافة إلى التوترات في بحر الصين الجنوبي وغيرها من القضايا العالمية ذات الطابع العدائي.
عندما أخبر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، أثناء مؤتمر يالطا في فبراير 1945، بأن بابا الفاتيكان قد أعلن الحرب على هتلر، أجابه ستالين “كم دبابة عند بابا الفاتيكان؟”
◙ ترامب جعل من خلال قراراته التنفيذية في هذا الشأن أعداء له في الداخل الأميركي كما الأوروبي الذي يعتبر أنّها منبثقة من قيمه
نعم دعوة البابا الجديد إلى السلام لا ترتبط بالقوة العسكرية لدى دولة الفاتيكان، بقدر ما ترتكز على الإيمان والصلاة من أجل إحلال السلام العالمي. ولكنّها ترتكز أيضا على غيرة ترامبية للوقوف إلى جانبه لإنجاح مسيرته في فرض الحوار والتلاقي، ومتعكزا على قرارات ترامب الغريبة وتحديدا وقف الضربات على اليمن التي أثارت غضب اليمين الصهيوني المتطرف. فهل سيأخذ البابا قرارات جريئة في إدانة إسرائيل على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني ويجد نفسه في مواجه مع الحركة الصهيونية؟
يتوقف المتابع عند التلاقي بين الرجلين وما حملته أولى كلمات البابا دعوتها إلى السلام العالمي تأكيدا على وحدة الهدف وليس على تدخل ترامب في عملية الانتخاب لما يترافق ذلك من سرية ونفحة قدسية. تتقاطع دعوة ترامب إلى “السلام” مع دعوة البابا، فترامب بدأ ترجمتها عملانيا في اللقاءات التي جمعت مبعوثه ستيف ويتكوف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف تقريب وجهات النظر لوقف الحرب في أوكرانيا.
لم تصل الحرب في أوكرانيا إلى خواتيمها السعيدة، لكنّ الأكيد أن ترامب ماض فيها، والأكيد أيضا أن البابا الجديد سيعمل من أجل إيقافها. ما فعله مع روسيا يفعله مع إيران، حيث كان لقرار ترامب وقف الحرب على اليمن، صدى ليس بجيّد عند الصهيونية العالمية المتمثلة في حكومة نتنياهو، هذا ما يؤكد على احتدام صراع جديد بين اليمينين المتطرفين، الأميركي والإسرائيلي. وهذا ما بدأت ملامحه تترجم من خلال ما أفادت به وسائل إعلام إسرائيلية، يوم الجمعة 9 مايو، بأن وزير الدفاع الأميركي بيتر هيغسيت ألغى زيارة كانت مقررة إلى إسرائيل الأسبوع المقبل.
من المؤكد أن الصهيونية التي لن تتسامح مع قرارات ترامب لن تفعل ذلك حتما مع المسار السلمي للبابا الجديد، هذا ما يؤكد أن المزحة التي أصبحت واقعا لا تقف عند عتبة شخصية البابا “الأميركية”، بل ستترجم واقعيا وتكون لها ارتدادات على سياساتهما إن بقيت الدعوة إلى السلام أحد أبرز خطابات الرجلين.
مع ما ذكرته صحيفة “ هاآرتس” الإسرائيلية الجمعة 8 مايو، من إن إدارة ترامب تشكل قوة ضغط أميركية من أجل إنهاء الحرب في القطاع، بات هناك من يطرح، هل ستكون هناك قوة ضغط فاتيكانية إضافية لتحقيق هذه الغاية؟ أم إن القدرة الإجرامية عند رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو سيكون لها رأي آخر وتذهب بالمنطقة إلى الحرب الكبرى؟