رحالة إسباني يخوض رحلة إلى جزيرة السندباد المفقودة جنوب جزيرة العرب

جوردي استيفا يستكشف أسطورة جزيرة سقطرى كاتبا ومصورا.
الاثنين 2025/03/24
الجزيرة تدفع المرء إلى أن يعيش أحلام يقظة

البعض يعتقد أن كتب الرحلات ليست سوى مخطوطات رحلات حدثت في أزمنة قديمة، خاصة في العصور الوسطى التي سبقت الاكتشافات الجغرافية التي غيرت خريطة العالم، ولعل أبرزها رحلات ابن بطوطة في الشرق العربي، وما سجله ماركو بولو عن رحلاته إلى الشرق، أو الكتب الخاصة بطريق الحرير، لكن هذه الكتب أبعد من ذلك وما زالت تحافظ على سحرها.

يقدم لنا الرحالة الإسباني جوردي إستيفا في السنوات العشر الأخيرة عددا من الكتب التي تندرج ضمن كتب الرحلات، ولعل من أبرزها “عرب البحر.”

في سياق ما قام به استيفا من رحلات عديدة إلى السودان واليمن وسلطنة عُمان والساحل الأفريقي الشرقي متتبعا خرائط وموانئ رحلات السندباد البحري التي قرأها في حكايات “ألف ليلة وليلة”، يأتي كتابه “سقطرى.. جزيرة الجن والأساطير” الذي ضم رحلته الجميلة المؤثرة والمثيرة والغير عادية التي قام بها في بدايات الألفية الثالثة إلى جزيرة سُقطرى، وقد ترجمها الروائي والشاعر طلعت شاهين وصدرت عن مشروع “كلمة” التابع لمركز أبوظبي اللغة العربية.

رحلة بين الأساطير

الكتاب يلقي الضوء على تلك الجزيرة الغامضة والساحرة أو المسحورة ويضعها مجددا على خارطة الواقع المعاصر
◙ الكتاب يلقي الضوء على تلك الجزيرة الغامضة والساحرة أو المسحورة ويضعها مجددا على خارطة الواقع المعاصر

يؤكدا جوردي استيفا أن جزيرة سُقطرى، جزيرة السندباد المفقودة ذات المكانة الإستراتيجية الـواقعة جنوب شبـه الجزيرة العـربية والقـرن الأفـريقي. يأخذنا استيفا إليها مستعيدا أزمنة مضيئة لتاريخ قديم عرفه العالم من خلال الأسـاطير وواقـع مؤلم وحزين.

ويكشف وجوه سكانها المعاصرين الذين يعيشون حياتهم ما بين واقع لا يشبه الواقع بل يشبه الأساطير التي يتناقلونها كجزء من حياتهم اليومية، يصادقون الجن والعفاريت ويسكنون الكهوف، الكثير منهم يتعامل معها على أنها الواقـع رغم رياح الحداثة التي تأتي إليهم من وقت إلى آخـر عبر بعض السُقطـريين العـاملين فـي دبي، وهداياهم إلى أهاليهم من أدوات العصر الحديث، أجهزة التليفزيون والهواتف الجوالة بل وحتى أجهزة صنع القهوة والطبخ.

يقول شاهين “في هذا الكتاب ينقلنا الرحالة الإسباني المعاصر جوردي استيفا عبر كتاباته وصوره الرائعة ورغباته القديمة إلى جزيرة سقطرى المجهولة، المنسية في المحيط الهندي، على بعد أربعمئة كيلومتر من سواحل الجزيرة العربية، فلم يكن الكتاب فقط نتاج خمس رحلات قام بها الرحالة الإسباني إلى سقطرى في الفترة ما بين عامي 2005 و2011، أبدع أيضا فيلما تسجيليا مهما يحمل العنوان نفسه ‘سقطرى… جزيرة الجن’، إضافة إلى مئات الصور الفوتوغرافية الفريدة التي تسجل هذا الواقع الأسطوري الذي بدأت تهب عليه رياح التغيير.”

 في هذه المغامرة في المكان والزمان، يسافر الرحالة إلى جزيرة سقطرى ويراكم القصص والأساطير، وفي هذا التراكم نكتشف سقطرى مكان طائر الرخ الأسطوري الذي تعرف عليه من خلال قراءة “ألف ليلة وليلة”، و”رحلات السندباد البحري”، وأساطير زيوس تريفيليو، ولكنه لا يكتفي برواية واقع الحال الأسطوري، أيضًا يبحث في أثر الثورة الشيوعية في عدن التي قضت على عهد السلاطين وأقامت مكانه لجانها الشعبية، وأيضا يبحث أسرار قاعدة الغواصات الروسية السرية من رموز الحرب الباردة التي لم تذهب من هناك إلا بعد أن تمكن الشمال اليمني من التغلب على الجنوب في حرب أهلية دامية، وإن كانت قد أعادت توحيد البلاد إلا أنها عادت بالتطرف الديني ليسيطر التدين الشكلي ويزيح كل ما تحقق من تطور اجتماعي وما يعنيه من تحرر المرأة ويعيدها إلى الإسدال والنقاب.

ويوضح أن استيفا يتنقل ما بين الماضي والحاضر، مثل أولئك السحرة الذين تعرف على ما تبقى من حكاياتهم على ألسنة كبار السن من سكان الجزيرة، وكان قادرا على التنقل بين الواقع والأسطورة في نشوة تغذيها العاطفة المسكرة. وفي سقطرى، “التي عظمت شهرة ساحراتها،” يجد استيفا عالمًا سحريًا فاتنا يشبه في نواحٍ عديدة عالم كوميان من ساحل العاج، وهم معارفه القدامى الذين أهدى لهم فيلمه الأخير الحائز على عدة جوائز “العودة إلى أرض.”

بين روائح البخور والمر والقات، ومخلفات الجمال وأغاني الواوا يتابع جوردي استيفا في رهبة من الجغرافيا الطبيعية والأسطورية والروحية للجزيرة، ونستمع إلى قصص سكانها، ونتحقق من القصص (مثل أجنحة الثعابين التي تحمي أشجار البخور) أو بشكل أكثر دنيوية البقايا الأثرية لمعبد زيوس وأعاجيب المناظر الطبيعية الخارقة للطبيعة، المليئة بأشجار الدراكو والصبر والأدينيوم الغريبة، وشجرة “وردة الصحراء” الشبيهة بشجرة الباوباب الصغيرة.

ويحكي لنا عن المكان الذي يشير فيه ظل النسور وطيور العنقاء إلى ظلال الطيور الأسطورية وجبال حجهر، ويربط ما بين ملحمة غلغامش السومرية. التي أخذته إليها بحثا عن “الخلود” وكيف أنه غاص إلى أعماق بحر العرب في سقطرى ليحصل على العشبة التي تمنحه الخلود لكن حية زحفت في سكون وسرقت منه العشبة قبل أن يفيق من ذهوله تاركة له جلدها الدنيوي الذي انسلخت منه.

جزيرة التعاويذ

◙ كتاب يضع قراءه على خارطة الواقع المعاصر
◙ كتاب يضع قراءه على خارطة الواقع المعاصر

يؤكد شاهين أن هذا الكتاب/ الرحلة يأتي بعد تجربة طويلة من الرحيل ما بين أفريقيا وجزيرة سقطرى والجزيرة العربية، فإذا كان كتاب استيفا “عرب البحر” مهما للتعرف على زمن مضى لتاريخ البحارة العرب، فإن هذا الكتاب يعتبر مهما أيضا لأنه يلقي الضوء على تلك الجزيرة الغامضة والساحرة أو المسحورة، ويضعها مجددا على خارطة الواقع المعاصر، خارطتها البشرية وتضاريسها الجغرافية، وعادات سكانها القدامى في محاولة للحفاظ على الهوية التي بدأت تتلاشى تحت ضغط الأدوات المعيشية الحديثة.

يقول الرحالة الإسباني “في بعض الليالي، عندما كان يجافيني النوم، أدير بإصبع واحدة الكرة الأرضية وأوقفها. في فجر أحد الأيام أوقفتها عند نقطة صغيرة تقع ما بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. جزيرة سقطرى.. ترى هل هي مأهولة؟ ما الحيوانات التي تعيش فيها؟ أتراها صحراوية جرداء أم عشبية؟ لكني لم أجد في الكتب أي شيء عن هذه الجزيرة أو سكانها.”

ويضيف “على الرغم من أنه في ذلك الوقت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كانت جامعة أكسفورد قد أسلت للتو رحلة استكشافية من علماء الآثار للبحث عن معبد زيوس تريفيليوس إله السماء والصواعق في الميثولوجيا اليونانية ومعبده الرئيس على جبل الأولمب باليونان المفقود، إضافة إلى فريق آخر من علماء الحفريات للبحث في أصول السكان الأصليين، وأخذوا عينات دم منهم بحثا عن الأصول الغامضة للسقطريين، الذين ظلوا يعبرون عن أنفسهم، على حد قولهم، بلغة مشتقة من لغة مملكة سبأ.”

◙ الرحالة يتنقل ما بين الماضي والحاضر مثل أولئك السحرة الذين تعرف على ما تبقى من حكاياتهم من سكان الجزيرة

ويتابع “عزلة تلك الجزيرة في المحيط الهندي، على بعد مئتين وخمسين كيلومتراً من القرن الأفريقي، وما يقرب من أربعمئة كيلومتر من ساحل شبه الجزيرة العربية، حافظت على نباتات وحيوانات فريدة من نوعها، بأنواع من عصور أخرى. مكان تنمو فيه أشجار البخور والمر، التي كانت تستخدم كثيرا في الطقوس الوثنية ولا غنى عنها في عمليات تحنيط المصريين القدماء. تم العثور على الصبار ‘الصبر السقطري‘ أو ‘السقطريني‘ في الجزيرة، وكان اليونانيون يجلونه كثيرا لنجاعته في شفاء جروح الحروب، ووفقا للأسطورة، قام الإسكندر الأكبر، بتشجيع من أرسطو، بغزو الجزيرة للحصول عليه.

ويواصل “هكذا استقر بي المطاف حتى بداية هذا القرن، حين سافرت بطول سواحل شبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا متتبعا أثر الربابنة والتجار العرب القدامى. في موانئ عمان بعد الاستمتاع بحساء سمك القرش، روى لي البحارة مئات القصص. كانت تتحرج أصواتهم بالحنين وهم يستحرضون ذكريات العواصف. وتضيء عيونهم عندما يتذكرون الصداقات التي كانت تربط البحارة ببعضهم البعض، والصداقات التي كانت تربطهم بزنجبار أو مومباسا. عندما ظهر اسم سقطرى لأول مرة في أحد تلك الحوارات، اندهشت لأنها لم تكن في مخيلتي منذ مدة طويلة كجزيرة حقيقية، وأصبحت مكانا أسطوريا مثل مدينة أوبار، المدفونة تحت الرمال في الربع الخالي. في شبه الجزيرة، أو واحة زرزورة، القريبة من واحة سيوة المصرية، والتي لم يعد منها أحد بكامل قواه العقلية.”

ويتابع أن سقطرى كانت موجودة هناك حقيقة. يتحدث عنها هؤلاء البحارة. يتذكرون الظهور المفاجئ لصورتها الباهتة في العاصفة؛ صورة كانت تثير الرعب في قلوبهم. لأشهر عدة، كانت الريح تمنعهم من الاقتراب من الجزيرة؛ لأنه في حالة الطوارئ لم يكن من الممكن العثور على ملجأ واحد يمكنهم إرساء مراكبهم فيه. الرياح الموسمية التي تساعد على الملاحة في المحيط الهندي، بالقرب من سقطرى، كانت تلك الرياح نفسها التي تدفع المراكب الشراعية إلى الانجراف نحو الجروف التي تبرز من أعماق المحيط. وعلى الرغم من عدم وصول أي من البحارة إلى الجزيرة فإنهم جميعا أكدوا بشكل قاطع أن الحوادث التي تقع في سقطرى كانت ستجعلهم يبتسمون بتفاخر، لو أنها وقعت في أماكن أخرى.

وزعم البحارة أن السقطريين كانوا خبراء في فن السحر والفلك. التصقت بهم الشهرة من زمن بعيد. وطبقا لما ذكره ماركو بولو، فإن سكان سقطرى كانوا “أكثر السحرة حكمة وأبرع مستحضري الأرواح في العالم. لقد سيطروا على الرياح ويمكنهم تغيير مسارها حسب ما يريدون. لو حاول أحد القراصنة السطو على الجزيرة، فإن التعويذات تمنعه.”

12