خيانة ترامب للعقد الاجتماعي لأميركا ومكانتها العالمية

خطاب ترامب وسياساته قادا إلى تفاقم التوتّرات العرقية والإثنية، ما أدى إلى انقسامات وتمزيق النسيج الاجتماعي الأميركي.
الأحد 2025/03/23
ترامب يسرع من تآكل مكانة أميركا وقيمها العالمية

خيانة دونالد ترامب للمُثُل والقيم التي تبنّتها أميركا وجعلتها أمة لا تُضاهى أمرٌ مأساوي. على كل جمهوري ذي ضمير أن ينهض ويضع أميركا في المقام الأول قبل فوات الأوان.

تبنّت أميركا منذ نشأتها مُثُلًا وقيمًا وقامت بنشرها، الأمر الذي جعلها أمة عظيمة وفريدة. ويتميّز تفرّد أميركا بسعيها الدؤوب إلى الحريّة والاستقلال الفردي وتكافؤ الفرص والحكم الذاتي والديمقراطية والتنوع والشمول والعدالة وسيادة القانون والابتكار والفردية والاعتماد على الذات والوطنية والواجب المدني. وعلى الرغم من أن هذه المُثُل السياسية والقيم الأخلاقية قد وجّهت أميركا منذ نشأتها، إلا أن ملايين الأميركيين تُركوا خلف الرّكب، يعانون من الفقر وعدم المساواة والظلم وانعدام الفرص.

ومع ذلك، ظلّ الحلم الأميركي، وهو مفهومٌ راسخٌ في الوعي الوطني، صاغه المؤرخ جيمس تروسلو آدامز خلال فترة الكساد الكبير في كتابه “ملحمة أميركا” الصادر عام 1931 مصدر إلهامٍ للشعوب من قريبٍ وبعيد. لقد تصوّر آدامز الحلم الأميركي كطموحٍ جماعيٍّ لمجتمعٍ يُمكّن الأفراد من تحقيق أقصى إمكاناتهم بغضّ النظر عن أصلهم أو ظروفهم. ورغم تطوّر هذا المثل الأعلى، إلاّ أن وعده الجوهري – الفرص والمساواة والعدالة – لا يزال سمةً مُميّزةً للهوية الأميركية.

◄ الديمقراطيون دخلوا في غيبوبة منذ انتخاب ترامب. عليهم أن ينهضوا الآن ويرفعوا أصواتهم ويعارضوا ترامب في كل منعطف عندما تنتهك أفعاله الدستور وتخون المثل والقيم الأميركية

وما جعل أميركا عظيمةً لم يكن أن هذه المثل والقيم كانت حكرًا على الأميركيين فحسب، بل لأنه رُوّج لها عالميًا من خلال استثمار رأس المال السياسي والمالي لتحسين حياة الملايين من البشر وإنقاذهم من الفقر والمرض، مع الدعوة إلى الديمقراطية لتعزيز الحرية والمساواة من أجل تحسين أحوال البشرية، بما في ذلك:

برامج المساعدات الخارجية ودعم الديمقراطية، إضافة إلى 43.79 مليار دولار صُرفت عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) للتخفيف من حدّة الفقر والدعم الانتخابي وتعزيز المجتمع المدني. ومبادرات الدبلوماسية العامة والتبادل الثقافي لتعزيز التفاهم بين الثقافات، مما يخفف غالبًا من حدة النزاعات. والتحالفات العسكرية القائمة على أساس القيم المشتركة، وخاصة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي شكّل حجر الأساس للأمن الأميركي – الأوروبي.

وبناء القدرات الديمقراطية من خلال الشراكات مع الحكومات الأجنبية ومنظمات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان، وتعزيز الهيئات التشريعية الحرة والدساتير التي تحترم الحقوق. ومنح تمكين المجتمع المدني، مثل الصندوق الوطني للديمقراطية الذي يدعم النشطاء في الأنظمة القمعية ويشجّع المنظمات غير الحكومية المستقلة والنقابات العمالية ووسائل الإعلام المستقلة. كذلك التواصل الإعلامي من خلال الوكالة الأميركية للإعلام العالمي، بما في ذلك صوت أميركا وإذاعة آسيا الحرة التي تبث بـ64 لغة لمواجهة السرديات الاستبدادية وتصل إلى 427 مليون شخص أسبوعيًا. فهذه البرامج مجتمعة جعلت أميركا دولة لا مثيل لها ذات نفوذ وقوة عالمية غير مسبوقة. ونادرًا ما تتخذ أيّ دولة قرارًا مهمًّا يتعلق بالخارج دون مراعاة رد فعل أميركا.

ورث ترامب هذه القوة الهائلة. وبدلاً من البناء على نفوذ أميركا العسكري والاقتصادي والثقافي والتكنولوجي العالمي الفائق، نصّب نفسه إمبراطورًا، يتصرف وفق أهوائه، دون مراعاة دقيقة أو قيم أخلاقية، خائنًا بذلك العقد الاجتماعي لأميركا ومكانتها العالمية.

الأسابيع الثمانية الأولى من ولاية ترامب ضررًا بالغًا فريدًا من نوعه بسبب أفعاله متعددة الأبعاد، وسرعتها واحتمالية عدم رجوعها. هجومه المركّز على المؤسسات والتحالفات والأعراف الديمقراطية لا مثيل له في الحجم. وقد يتجاوز بكثير إجمالي الأذى والجرائم والفساد والجنح التي ارتكبها جميع أسلافه.

في يومه الأول في منصبه، أصدر ترامب عفوًا كاملاً عن 1500 فرد مُدان بجرائم تتعلق بتمرد 6 يناير 2021 الذي حرّض عليه. لم يجرؤ أيّ جمهوري على التشكيك في فعله المُقلق، الذي لا يقلّ عن كونه خيانة. لقد ظلّوا صامتين تماماً عندما وقّع على أمر يحرّم الأطفال المولودين في الولايات المتحدة للمهاجرين غير المسجلين أو أولئك الذين يحملون تأشيرات مؤقتة من الجنسية، مما يجعل الأطفال عرضة للترحيل وربما يتركهم بدون جنسية.

◄ لإضفاء بريقٍ على مخططه الإمبراطوري، يسعى ترامب إلى الاستيلاء على جزيرة غرينلاند واستعادة قناة بنما والسيطرة على غزة وترحيل الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وهو ما يُعادل التطهير العرقي

وتجلّى تعصّب الحزب الجمهوري بوضوح تام عندما لم يحرّك أيّ مشرع ساكنًا عندما فرض ترامب على الوكالات الفيدرالية تصنيف الأفراد بدقة على أنهم “ذكور” أو “إناث” بناءً على جنسهم البيولوجي، مما حدّ من الوصول إلى الرعاية التي تؤكد النوع الاجتماعي في إطار البرامج الفيدرالية. علاوة على ذلك، أنهى جميع مبادرات “التنوّع، المساواة والاندماج (DEI) الفيدرالية”، زاعمًا أنها تعزز “التمييز العكسي”، مما أدى إلى تفاقم أوجه عدم المساواة النظامية مع تعليق معالجة طلبات اللجوء وانتهاك القانون الدولي للاجئين. وكما هو معتاد في لامبالاتهم تجاه المحتاجين، لم يعترض أيّ جمهوري من أيّ مكانة على وقف ترامب للإنفاق التقديري عبر الوكالات، مما أدى إلى شلّ الخدمات العامة والتسبب في اضطرابات فوضوية في الرعاية الصحية والإغاثة من الكوارث.

لقد أدى خطاب ترامب وسياساته إلى تفاقم التوتّرات العرقية والإثنية، ما أدى إلى انقسامات داخل المجتمعات وتمزيق النسيج الاجتماعي الأميركي. لقد أثّرت أوامره القاسية بشأن الهجرة سلبًا على التفرد الاجتماعي لأميركا كأرض للمهاجرين، والتي لطالما كانت حجر الزاوية في الهوية الأميركية وقوتها، ويمكن أن تكون لها آثار دائمة على المجتمع والاقتصاد والهوية الأميركية.

سرّع ترامب من تآكل مكانة أميركا وقيمها العالمية وأبعد الشركاء الدوليين، ما شكّل تحديًا وجوديًا لدور أميركا المحوري على الساحة الدولية. وانسحب ترامب من منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، ما ستكون له عواقب وخيمة على الأوبئة وأهداف انبعاثات الكربون. كما فرض تعليقًا لمدة 90 يومًا على 60 مليار دولار من المساعدات الخارجية وعلّق برامج حيوية، بما في ذلك مبادرات صحة الأم ومشاريع التكيّف مع المناخ وخفّض عقود المساعدات الخارجية للوكالة الأميركية للتنمية الدولية بنسبة 90 في المئة، بينما خفّض 340 مليون دولار سنويًا من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ما أدى إلى تفاقم المجاعة في غزة. كما أمر بمراجعة جميع المعاهدات التي صادقت عليها الولايات المتحدة، مستهدفًا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) واتفاقية مناهضة التعذيب، ما هدد بتفكيك عقود من المساءلة في مجال حقوق الإنسان.

لقد أذلّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحطّ من قدره في المكتب البيضاوي أمام أعين العالم أجمع، وهو عرضٌ مخز ٍ للغطرسة، بينما انحاز إلى خصم أميركا اللدود، بوتين الروسي. واستنكر القادة الأوروبيون هذا التحوّل باعتباره خيانةً لتضامن الناتو. وفوق كل ذلك، أصدر تعليماته للبعثة الأميركية بالتصويت ضد قرار الأمم المتحدة الداعي إلى سلام عادل في أوكرانيا، مُشيرًا إلى دعمه للمطالب الإقليمية الروسية، وهو تصويتٌ سيبقى في الذاكرة كوصمة غزي وعار.

فرض ترامب تعسفيًا تعريفاتٍ جمركيةً بنسبة 25 في المئة على معظم السلع الكندية والمكسيكية. ورغم تعليقه لها مؤقتًا، إلا أنه ألحق ضررًا بالغًا بأنجح اتفاقية تجارية وأكثرها فائدة بين الدول الثلاث، والتي لم يعد بإمكان كندا والمكسيك اعتبارها أمرًا مسلمًا به. كما انتهك سيادة المكسيك من خلال السماح بعمل عسكري ضد الكارتلات، مما جازف بتصعيد العنف وعسكرة سياسة المخدرات.

◄ خيانة ترامب للمُثُل والقيم التي تبنّتها أميركا وجعلتها أمة لا تُضاهى أمرٌ مأساوي. على كل جمهوري ذي ضمير أن ينهض ويضع أميركا في المقام الأول قبل فوات الأوان

ولإضفاء بريقٍ على مخططه الإمبراطوري، يسعى ترامب إلى الاستيلاء على جزيرة غرينلاند واستعادة قناة بنما والسيطرة على غزة وترحيل الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وهو ما يُعادل التطهير العرقي. وعلاوة على ذلك، يُريد أن يجعل كندا “الولاية رقم 51”.

على كل جمهوري أن يتساءل: هل نريد التضحية برفاهية هذا البلد العظيم ومكانته العالمية الذي جسّد القدرة البشرية على تحقيق ما لا يُصدّق، لنخدم مجرمًا مُتغطرسًا بعظمة الذات؟

هل نريد تمكين مُدّعيَ مُلكٍ أعمى وواهم لزعزعة الضوابط والتوازنات الديمقراطية المحلية وتقويض دور أميركا الذي لا غنى عنه في الشؤون الدوليّة؟

هل نريد دعم رئيسٍ مُستعدٍّ لتجاهل أوامر المحكمة الفيدرالية ودفع البلاد إلى شفا أزمة دستورية؟

هل نريد حكم بلدٍ يُعاني من تدهورٍ مؤسسي وانعدام ثقة دبلوماسية وانقسامات مجتمعية تُشوّه صورة أميركا إلى حدّ اللاعودة؟

على كل قائد جمهوري يتمتّع بذرة من النزاهة أن يستيقظ ويوقف ترامب قبل فوات الأوان. وإلا، فإن التدمير الذاتي هو ما ينتظر الحزب الجمهوري، وستُذكر رئاسة ترامب بنهايتها الكارثية.

أما الديمقراطيون فقد دخلوا في غيبوبة منذ انتخاب ترامب. عليهم أن ينهضوا الآن ويرفعوا أصواتهم ويعارضوا ترامب في كل منعطف عندما تنتهك أفعاله الدستور وتخون المثل والقيم الأميركية. يجب عليهم وضع أجندة وطنية تستجيب لتطلعات جموع الأميركيين الذين أصبح الحلم الأميركي بالنسبة إليهم مجرد وهم مأساوي. ويواجه الديمقراطيون، مثل نظرائهم الجمهوريين، اختبار الزمن. عليهم أن ينهضوا إلى مستوى التحدي الآن قبل أن تغرب شمس أميركا.

 

اقرأ أيضا:

      • ثورة أميركية ثانية.. ولكن ضد العالم

7