رحلة بين الانضباط العسكري والديناميكية الرياضية

في عالم تتقاطع فيه القيادة الإستراتيجية مع التحديات الرياضية، وخلف أضواء البطولات والتنافس على الميداليات، يظهر أحمد عبدالغفار، المدير التنفيذي للجنة الأولمبية البحرينية، كقائد استطاع أن يدمج خبرته العسكرية مع رؤيته الرياضية، لينقل البحرين إلى مصاف الدول الرياضية المتقدمة.
المنامة - لم يكن الانتقال من المجال العسكري إلى الرياضي انتقالا عاديا. فبعد تخرجه من الجامعة البحرية للدراسات العليا في الولايات المتحدة، وانخراطه في سلاح البحرية الملكي البحريني، وجد أحمد عبدالغفار نفسه أمام تحدٍ جديد في عالم الإدارة الرياضية.
عن هذه النقلة، يقول: “الخبرة العسكرية غرست فيّ الانضباط والتخطيط الاستراتيجي، وهي مهارات أساسية في إدارة الرياضة. فكما تتطلب العمليات العسكرية رؤية بعيدة المدى وتحقيق أهداف استراتيجية، تحتاج الرياضة إلى تخطيط دقيق للوصول إلى منصات التتويج.”
وردا على سؤال ما إذا كان يتصور أن الرياضة ستصبح لاحقا مساره في الحياة، يجيب: “لم يكن ذلك جزءا من خطتي الأصلية. كنت مهتما بالرياضة منذ الصغر، ولكن لم أتخيل أنني سأنتقل من المجال العسكري إلى الرياضي بهذه الطريقة. عندما أتيحت لي الفرصة للانضمام إلى اللجنة الأولمبية، وجدت أنني قادر على الاستفادة من مهاراتي العسكرية لتحقيق تقدم حقيقي في الإدارة الرياضية، وهكذا تحول الاهتمام إلى مسار مهني جدي.”
عندما صدر قرار تعيينه مديرا تنفيذيا للجنة الأولمبية البحرينية، لم يكن بعيدا عن حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه. يقول: “بلا شك، شعرت بثقل المسؤولية منذ اللحظة الأولى. فاللجنة الأولمبية البحرينية ليست مجرد جهة رياضية، بل مؤسسة تعمل على تمثيل البحرين في المحافل الدولية، وتهيئة الرياضيين لتحقيق الإنجازات. كان عليّ التفكير في كيفية تحقيق الأهداف الإستراتيجية، والاستفادة من الفرص المتاحة، مع الحفاظ على استدامة النجاح. لكنني كنت محظوظا بوجود فريق عمل متمرس، مما ساهم في تسهيل المهمة رغم التحديات.”
الإرث الدبلوماسي
نشأ عبدالغفار في بيئة مليئة بالقيم الوطنية والانضباط، حيث كان والده دبلوماسيا خدم البحرين لسنوات طويلة. وعن تأثير والده عليه، يقول: “والدي كان نموذجا يحتذى به في الإخلاص والتفاني في العمل. من خلال مشاهدتي لطريقة تعامله مع الآخرين، تعلمت أهمية احترام الجميع بغض النظر عن خلفياتهم، وكيف يمكن للالتزام بالمبادئ أن يكون أساسا للنجاح. هذا الإرث الدبلوماسي انعكس في طريقتي في القيادة والإدارة، حيث أحرص دائما على بناء علاقات قوية ومتوازنة، سواء في المجال الرياضي أو الإداري.”
يرى عبدالغفار أن تجربته في السلك العسكري منحت الإدارة الرياضية بعدا جديدا. يقول “القيادة في المجال العسكري تتطلب انضباطا، تخطيطا إستراتيجيا، والقدرة على اتخاذ قرارات حاسمة تحت الضغط، وهذه العناصر أساسية أيضا في إدارة الرياضة، بالإضافة إلى رؤية طويلة الأمد، وإدارة الفرق باحترافية لضمان تحقيق الأهداف.”
ويضيف “الرياضة تحتاج إلى روح الفريق، تماما كما هو الحال في المؤسسة العسكرية، حيث لا يمكن تحقيق النجاح إلا من خلال التعاون والانضباط والعمل الجماعي. تجربتي العسكرية ساعدتني في غرس هذه القيم في الإدارة الرياضية، سواء في التخطيط للبطولات، أو تطوير اللاعبين والمدربين، أو حتى في التعامل مع التحديات الطارئة أثناء الفعاليات الرياضية.”
لطالما نظر عبدالغفار إلى الرياضة على أنها أكثر من مجرد بطولات وميداليات. بل يرى أنها أداة لصناعة التغيير في المجتمع، سواء من خلال خلق الفرص للشباب، أو تحسين صحة الأفراد، أو حتى دعم الاقتصاد الوطني. ويؤكد “أحد أبرز اللحظات التي غيرت مفهومي عن الرياضة كانت عندما شاهدت كيف يمكن للرياضة أن تمنح الفرص للشباب، وتغير حياتهم من خلال منحهم منحا دراسية أو توجيههم لمسارات مهنية ناجحة.”
التحدي الأكبر في الإدارة الرياضية يكمن في تحقيق التوازن بين تحقيق نجاحات سريعة والتخطيط طويل المدى. وهنا يوضح: “نحن نضع خططا تمتد لعشر سنوات قادمة، ونركز على تطوير الرياضات الأولمبية، مع الاهتمام برياضات جديدة قد تكون البحرين قادرة على تحقيق إنجازات فيها”. لكن اتخاذ القرارات ليس دائما سهلا، إذ يعترف بأنه اضطر في بعض الأحيان لاتخاذ قرارات غير شعبية، لكنها كانت ضرورية لمصلحة الرياضة البحرينية. يقول: “في إحدى المرات، قررنا استثناء اتحاد رياضي من بطولة معينة بسبب مشاكل إدارية. كان قرارا صعبا، لكنه كان ضروريا لحماية سمعة الرياضة البحرينية. بعد فترة، عاد الاتحاد بشكل أقوى بعد أن عالج مشاكله.”
خليجي 26: لحظة فخر بحرينية
فوز البحرين بكأس الخليج في النسخة السادسة والعشرين كان من اللحظات التي لا تُنسى. وعن هذه التجربة، يروي “كنا نعلم أن لدينا منتخبا قويا، لكن الأداء والروح القتالية اللذين أظهرهما اللاعبون كانا استثنائيين. كان للمدرب والجهاز الإداري دور كبير، لكن الأهم كان انسجام الفريق والتزامه بالهدف.” ويضيف “لم يكن الفوز مفاجئا تماما، فقد كانت هناك مؤشرات على أن المنتخب البحريني مستعد لهذه اللحظة. كانت هناك تحضيرات مكثفة، ومعسكرات تدريبية، وجهاز فني ركّز على تطوير الأداء الجماعي. ما ميّز المنتخب البحريني هو قدرته على التعامل مع الضغط وتغيير إستراتيجيته خلال المباريات وفقا للظروف المتغيرة.”
ويشير عبدالغفار إلى بعض العوامل التي ساعدت البحرين على التتويج باللقب “الانسجام بين اللاعبين كان واضحا منذ البداية، والجهاز الإداري بذل جهودا كبيرة لضمان راحة الفريق وتركيزه. كما أن الحضور الجماهيري البحريني في المدرجات كان له دور معنوي كبير في تحفيز اللاعبين وتقديم أفضل أداء لديهم.” أما عن اللحظات الحاسمة في البطولة، فيوضح “في المباراة النهائية، كان الفريق تحت ضغط كبير، لكن اللاعبين أظهروا شخصية قوية، وقلبوا الموازين في الشوط الثاني بطريقة مذهلة. تكتيك المدرب والتبديلات الذكية من العوامل حاسمة في هذا الانتصار.”
◙ عبدالغفار يشير إلى بعض العوامل التي ساعدت البحرين على التتويج باللقب واعتبر أن الانسجام بين اللاعبين كان واضحا
في دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024، صنعت البحرين التاريخ بحصدها أربع ميداليات، ما جعلها أكثر دولة عربية تتوج بالميداليات في تلك النسخة. يصف عبد الغفار هذا الإنجاز قائلا: “كانت لدينا ثقة كبيرة في رياضيينا، ولكن تحقيق أربع ميداليات كان إنجازا غير مسبوق، ويؤكد العمل الجاد الذي قامت به اللجنة الأولمبية والاتحادات الرياضية.” ويضيف “الإعداد المبكر، والاستثمار في الرياضيين، وتوفير بيئة تنافسية مميزة كانت عوامل رئيسية وراء هذا النجاح. كل ميدالية جاءت نتيجة تخطيط إستراتيجي، وجهود مضنية من الرياضيين، المدربين، والإداريين. لقد رفعنا سقف التوقعات لما يمكن أن تحققه البحرين في المستقبل.”
تشتهر البحرين بقدرتها التنظيمية الفائقة في استضافة البطولات العالمية. وعن سر هذا النجاح، يعلق عبدالغفار “العنصر الأساسي هو الكوادر البحرينية. لدينا فريق متميز يعمل بروح واحدة، إضافة إلى البنية التحتية القوية التي توفرها المملكة. الاستضافات الرياضية ليست فقط نجاحا تنظيميا، بل هي أيضا فرصة لتعزيز الاقتصاد الوطني.” أما عن رؤيته لمستقبل الرياضة البحرينية، فيقول “نحن نعمل على تطوير برامج إعداد الرياضيين، ودعم الرياضات الناشئة، وتعزيز الشراكات الدولية. كما نركز على تأهيل اللاعبين لما بعد الاعتزال لضمان مستقبلهم. البحرين لديها الإمكانيات لتكون قوة رياضية إقليمية وعالمية، ونحن نعمل على تحقيق ذلك.”
ويرى عبدالغفار أن الرياضة تلعب دورا كبيرا في توحيد المجتمع البحريني، ويضيف “الرياضة ليست مجرد تنافس، بل هي لغة تجمع الجميع تحت راية واحدة. نحن نعمل على تنظيم فعاليات رياضية تشمل جميع فئات المجتمع، مما يعزز الوحدة والانتماء الوطني.” فيما يؤكد أن البحرين تسير في الاتجاه الصحيح نحو مستقبل رياضي مشرق، بفضل التخطيط الاستراتيجي، والدعم القيادي، والكوادر الوطنية الشابة. واختتم قائلا “النجاح الحقيقي ليس فقط في الفوز بالميداليات، بل في بناء إرث رياضي قوي يستمر لأجيال قادمة.”