الثورة السورية والنسخة العربية لتاريخ "الثورة تأكل أبناءها"

اهترأت الأفكار، ولم يزل الزمن يجددها على هوامش أحداثه بحبره الرمادي، بلغ العالم أوج ازدهاره الحضاري في قطب منه، بينما ابتلى قطبه الآخر بالسقوط إلى قاع غيابة جب ظلم سحيق، ولم يزل القطب الأول يقتات على تخلف الثاني، فلا يعرف من أين تُؤكل كتفه من أعدائه أم من بنيه.
والثاني المغضوب عليه حضاريا يأتي غضبه من أبنائه الضالين، بتقييده وطرحه في غيابة جب حاكميتهم التي تخشى أن تجسد له شمس الحرية وقمر العدالة. فكان قدر هذا القطب ومنه الدول العربية، ما إن يتحرر بثورة حتى تأكل أبناءها، فتتحول الثورة من فاتح باب السجن إلى مغلقه على مَن شاركه بفتحه، ومن كان بالأمس الثوري المتوج بتاج الشرف، يكون غدا العميل المكلل بتاج الخزي والعار.
وساد في الثقافة العربية أن هذه الحال، هي غزوة من ثقافة الثورة الفرنسية التي طفا على زبدها نمط الغرب اللاأخلاقي، ويردد العرب مقولة “الثَّورة تأكل رجالها” على أنها الماركة المسجلة للثَّورة الفرنسية (1789)، التي نطقها الثائر جورج دانتون حين أعدمه زملاؤه الثوريون (1794)، بتهمة الخيانة، والعمل على إعادة الملكية الفرنسية. ويرد بعضهم القول إلى الشاعر الألماني جورج بوشنه (1837)، في سياق مسرحيته (موت دانتون).
◄ يتضح لمتابع مسيرة ثورة البعث في سوريا أن الضابط حافظ الأسد تسلل إلى صفوف حزب البعث، ليحرك مجموعة انقلابات الثوار على زملائهم والتخلص منهم ليستتب الحكم له، وعمل في بداية حكمه على التخلص من زملائه
وفي السردية التاريخية لغدر الثورة بدانتون أحد أبناءها المخلصين، يتوهج عمق إيمان دانتون بمظلومية الثورة التي كان أحد أشهر بُناتها الثلاثة (روبسبير ودانتون ومارا)، وكان قدرهم الثوري أن يموتوا ميتة مؤلمة. ويحكى أنه حين ساقوا دانتون إلى المقصلة قال للجلاد: “أيها الجلاد بعد أن تقطع رأسي، ارفعه عاليا ليراه الجمهور جيداً. إنه رأس جدير بالنظر.” والتفت حوله فرأى زميلا ثوريا ينتظر دوره على المقصلة. فطلب من القاضي أن يقبل زميله تقبيلة الوداع الأخير، فرفض القاضي. وحينها قال له: “يا غبي، تمنعني من تقبيله وبعد لحظات سيكون كلا رأسينا في سلة الرؤوس يتبادلان القبل.” على ما في هذه السردية من فجائعية الخيبة والخذلان، نجد دانتون يستنهض تحديه الثوري.
ولا تتحلى سردية الثورات العربية لخذلان أبناءها، بالإنصاف الكافي، بسبب ربط التاريخ ثقافة أكل الثورة أبناءها، بنمط الثورة الفرنسية، وتتجاهل ممارستها الفاضحة في تاريخ الثورات العربية. وتتعامى عن جذورها التاريخية العميقة في التراث الثوري العربي الموغل في القدم والدم.
فلم تكن ثورة العباسيين على الأمويين (132هـ) أقل دموية تجاه الأعداء. إذ بعد عام على انتصارها قُتل مؤسسها السِّري أبوسلمة الخلال، بتهمة التآمر. وكذلك حدث مع قائدها العسكري أبي مسلم الخراساني (137هـ)، موطد أركان دولة العباسيين. وسجن كبير بني العباس، وعم خلفائها عبدالله بن علي، ثم قتل (140هـ)، وكان صاحب الباع الحاسم في النصر على بني أمية، وأرسى حكم بني العباس.
ويتتابع مسلسل قتل الثوّار لبعضهم في الدولة الفاطمية. فقد قَتَل عبيدالله العلوي المعروف بالمهدي (322هـ)، عبدالله الداعي، الذي أرسله ليوطد أساس الدولة العبيدية بالقيروان. ويروي ابن الأثير أن الذي أرسله لقتله قال له: “الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك.”
يتوارد مثقفو العرب على تاريخ الإرث الدموي للثورة الفرنسية والبلشفية، ويتجاهلون التاريخ المخزي لغدر الثوار برفاقهم في النسخة العربية. والأكثر خزيا أن أغلب الثورات العربية في الماضي كانت ثورات ذات دعوات دينية. ولم يردع زعماءَها أيُّ رادع ديني، هو من صلب أسباب ثورتهم.
وللثورة تأكل أبناءها في الثورات العربية الحديثة تاريخ أصيل للدم والتحول الدكتاتوري، بدءا من ثورة يوليو المصرية (1952). فما أن استتب الحكم للضباط الأحرار حتى عزل عبدالناصر قائدها محمد نجيب، ومكّن دكتاتوريته، بسفح دم الإخوان المسلمين مدرسته الحزبية الأولى، وتلاها بنحر، أو استنحار رفيق عمره وشريك ثورته عبدالحكيم عامر، وظل يتحين الفرص للتخلص من زملائه إلى وفاته.
◄ سردية الثورات العربية لخذلان أبناءها لا تتحلى، بالإنصاف الكافي، بسبب ربط التاريخ ثقافة أكل الثورة أبناءها، بنمط الثورة الفرنسية، وتتجاهل ممارستها الفاضحة في تاريخ الثورات العربية
تابع أنور السادات سياسة عبدالناصر في إقصاء قادة الثورة، إلى أن قُتل، واستلم بعده حسني مبارك، وكان أقل من عمل في الثورة، وانتهى إلى دكتاتورية كاد يحولها إلى وراثية إلى أن قامت الثورة عليه في مفارقة تاريخية، ثورة تسقطها ثورة.
أما الثورة الجزائرية فانتهت بعد مليون شهيد إلى حكومة مؤقته بقيادة فرحات عباس. ولم يلبث أن استولى على الحكم أحمد بن بلة أحد قادة الثورة الجزائرية الميدانيين (1963)، ثم انقلب عليه صديق كفاحه محمد إبراهيم بوخروبة صاحب الاسم الحركي ”هواري أبومدين“.
وأما ثورة اليمن فكانت سلسلة من الانقلابات الدموية والنهايات المأسوية فقد لقي المصير المؤسف الإمام يحيى حميد الدين (1948) إثر ثورة لم تفلح، فاستعاد ابنه أحمد الحكم، لكنه قتل سنة (1966) على يد الثوار، ثم استولى على الحكم إبراهيم محمد الحمدي سنة (1974)، فقتل سنة (1977)، وتولى الحكم بعده أحمد الغشمي فقتل سنة (1978)، ولقي الرئيسان سالم ربيع علي، وعبدالفتاح إسماعيل، حكم الإعدام بعد أن حكما (اليمن الجنوبي)، في الفترة ما بين 1969 و1980، على التوالي.
وحكم سالم ربيع اليمن سنة (1969) إلى أن تم الانقلاب عليه سنة (1978)، فأعدم سنة (1978)، في حين حكم عبدالفتاح إسماعيل بين عامي (1978 و1980)، وأعدم سنة (1986). أما الرئيس عبدالرحمن الأرياني، ثاني رؤساء اليمن الشمالي، فقد لقي مصيرا مغايرا، إذ أطيح به سنة (1974) بفعل حركة 13 يونيو التصحيحية بقيادة إبراهيم الحمدي، الذي ترأس مجلسا عسكريا لقيادة البلاد.
أما في السودان ما إن استولى الإخوان المسلمون على الحكم حتى تمردوا على شيخهم حسن التُّرابي (2016).
أما المثل الصارخ للثورة تأكل أبناءها فتجسد بأشد أصناف العنف الدموي على يد قادة البعث في سوريا والعراق، والمفارقة أن البعث انشق إلى فئتين كان عداؤهما لبعضهما أشد من أي عدو آخر.
◄ في السردية التاريخية لغدر الثورة بدانتون أحد أبناءها المخلصين، يتوهج عمق إيمان دانتون بمظلومية الثورة التي كان أحد أشهر بُناتها الثلاثة (روبسبير ودانتون ومارا)، وكان قدرهم الثوري أن يموتوا ميتة مؤلمة
فبدأت ثورة العراق بانقلاب دموي على النظام الملكي بزعامة فيصل الثاني، قاده ثوار يوليو (1958)، واستلم الحكم نجيب باشا الربيعي، وما لبث أن خلعه عبدالسلام عارف وعبدالكريم قاسم (1963)، وقام الأول بانقلاب دموي على الثاني ولم يلبث الثاني أن اغتيل (1966)، واستلم عبدالرحمن عارف، الذي خرج من الحكم إثر انقلاب دموي عنيف (1968)، وتولى الحكم أحمد حسن البكر ثم أُجبر على التنحي (1979)، فتملك الأمر صدام حسين الذي أُزهق العراق كله على يديه، وأعدم (2006)، ولم تقم للعراق بعده قائمة.
أما البعث الشقيق في سوريا فبدأ بثورة الثامن من آذار (1963) التي أطاحت بالحكومة المنتخبة برئاسة ناظم القدسي، ووزارة خالد العظم. وعيّن لؤي الأتاسي رئيساً للدولة، لكنه اكتشف خداع الضباط الذين شكلوا القوة الدافعة في الثورة وهم (محمد عمران، صلاح جديد، سليمان حداد، حافظ الأسد)، فقدم استقالته بعد تسعة أشهر من توليه السلطة، احتجاجا على ممارساتهم بتطهير الجيش من الضباط الناصريين، وقيل إنما عزل مرغما، وتولى بعده الحكم أمين الحافظ، ولم تلبث أن قامت حركة شباط (1966) بقيادة مجموعة الضباط السابقين، وأسند الحكم لنورالدين الأتاسي، فأطاح به حافظ أسد بما سماه الحركة التصحيحية (1970).
وفي عام (2000) توفي حافظ الأسد وكان قد وطد الحكم لابنه الذي استمر يحكم بنهج والده حتى أطاحت به الثورة السورية (2024).
يتضح لمتابع مسيرة ثورة البعث في سوريا أن الضابط حافظ الأسد تسلل إلى صفوف حزب البعث، ليحرك مجموعة انقلابات الثوار على زملائهم والتخلص منهم ليستتب الحكم له، وعمل في بداية حكمه على التخلص من زملائه بالسجن والاغتيال والعزل، واحتكار حزب البعث أداة شكلية بيد مخابراته لتوطيد حكمه.
على ما في هذا العرض من تعريف بالمعرف إنما يهدف إلى التذكير بالتراث الدموي لمقولة الثورة تأكل أبناءها في النسخة العربية، وهذه الحقائق تتحول إلى غابة شائكة من الأسئلة القلقة حول الثورة السورية الحديثة، وكيف يمكنها الخلاص من هذا الإراث الثوري العربي الدموي، ومن الإجحاف أن نحكم على هذه الثورة وهي في بداية استلامها الحكم، لكن القلق المشروع يتولد من سعيها إلى إحالة أغلب رواد الثورة القدامى إلى التقاعد، مما يوجس خيفة في نفس فئات غير قليلة أن تستطيب الثورة السورية إرث الثورات العربية، والخوف مشروع جداً.