المسرح العربي مازال يستلهم من قضية فلسطين في النصوص وعلى الخشبات

الاشتغال على موضوع القدس في المسرح العربي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك دلالة الارتباط بالقضية الفلسطينية التي كانت ولا تزال تمثل مرجعية أساسية لكل التصورات والخطابات والسرود الأحداث التي تدخل في التكوين الدلالي للمسرح. ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة الوازنة "مقامات القدس في المسرح العربي الدلالات التاريخية والواقعية" للناقد المغربي د. عبدالرحمن بن زيدان.
يقدم كتاب "مقامات القدس في المسرح العربي الدلالات التاريخية والواقعية" للناقد د. عبدالرحمن بن زيدان قراءات تتعلق بالقدس وبالمسرح، بأفكاره، بتجارب فنية، تندرج كلها ضمن الهوية العربية وتاريخها ومعانيها في الزمن الماضي والحاضر وما بعد الحاضر، وتأتي قيمتها أيضا من الحضور المميزة لموضوعها الإشكالي الذي تمثل معادلة الصراع فيه حقائق صراع حضاري ضارب في العتاقة والقدم، تشعبت فيه الصراعات الأيديولوجية والعقدية والثقافية بكل رموزها واشتغالاتها.
يسعى بن زيدان في دراسته، الصادرة عن الهيئة العربية للمسرح، إلى تحقيق مشروع ثقافي نقدي يقوم أولا على تتبع مستويات الوعي التاريخي بقضية القدس كما بلورتها العديد من التجارب المسرحية العربية من زمن النهضة العربية إلى الآن، وتتبع الكيفية التي صاغ بها المسرحيون العرب أفكارهم ومواقفهم من كل أشكال الصراع والتحدي.
جرأة التجريب
ثانيا يرصد بن زيدان كل الرموز العلامات والأحداث والوقائع التي دخلت في التركيب الدلالي للرؤية التاريخية لتاريخية هذا النص وللقضية وللتجريب المسرحي المجدد الذي يجدد أدواته للدخول بخطابه الجديد زمن الأصالة والحداثة ودون تنافر أو تناقض بين العناصر المكونة لشعرية كلام اللغة وخطاب الصورة المسرحية.
ثالثا جمع الناقد ما تشتت من أفكار وتجارب ونقود تناولت موضوع القدس في نصوص تنتمي إلى المسرح العربي لكنها دخلت في طي الكتمان والصمت العنيد، كالعروض المسرحية التي تنتمي إلى فعل التجريب حول القدس، لكن الوقوف المتأني والمتسائل عن فعاليتها ظل بعيدا عن الفعل النقدي المتخصص الذي بإمكانه القيام بتحليل إجرائي لنماذج مسرحية تستجيب للإستراتيجية النقدية لهذه الدراسة وهي تجمع عناصر الموضوع بغية إكمال فعل القراءة المحيطة بموضوعها حول القدس.
رابعا يقدم الكتاب مقاربة نقدية جديدة في موضوع تلقي المسرح العربي لقضية القدس في دراسات لا تعتمد السرد التاريخي لتاريخ النصوص التي اشتغلت على موضوع القدس، أو التقيد بالوصف والتعميم، ولكنه يقوم بتحليل إجرائي تطبيقي لمجموعة من النصوص المسرحية المختارة كظواهر أدبية وفنية تحمل العديد من الخاصيات التجريبية أدبيا وفنيا، حققت وجودها بأشكال مختلفة حول موضوعها.
كانت القراءة التطبيقية للنصوص والعروض المسرحية السمة الأبرز في دراسة بن زيدان حيث قام بتحليل معنى النص والعرض ودلالاته، ومن بين الأعمال التي اشتغل عليها: “النار والزيتون” و”واقدساه” ليسري الجندي، وأعمال علي أحمد باكثير التي تناولت القضية الفلسطينية، والأعمال التي اتخذت من صلاح الدين الأيوبي رمزا لتحرير القدس كمسرحية فرح أنطوان “صلاح الدين ومملكة أورشليم”، ومسرحية “صلاح الدين النسر الأحمر” لعبدالرحمن الشرقاوي، و”لن تسقط القدس” للكاتب شريف الشوباشي، ومسرحية “الطريق إلى بيت المقدس” للدكتور إبراهيم السعافين.
ويتوقف مع الأعمال المغربية التي اتخذت أيضا من صلاح الدين والقدس محورا لموضوعها مثل مسرحية “صلاح الدين الأيوبي” لنجيب حداد، و”دعاء القدس” للكاتبين أحمد الطيب ومصطفى القباج، وهكذا مع الأعمال الجزائرية المساندة للقدس مثل “فلسطين المغدورة” لكاتب ياسين، و”قالوا العرب قالوا”عن مسرحية “المهرج” لمحمد الماغوط، و”مسرى” لمحمد مأمون حمداوي.
وفي سياق تناوله للأعمال التي قدمت في إطار التجريب المسرحي، قال بن زيدان “من جرأة تجريب الكتابة في موضوع القضية الفلسطينية صارت الكتابة الدرامية في خدمة موضوع فلسطين وصار موضوع التجريب تاريخيا يكتب تاريخ موضوعه بهذه القضية، ويبني به أحداثا واقعية ومتخيلة ويحول جرأته إلى فعل درامي يؤدرم القضية الفلسطينية بواقع العنف والشراسة السائدين في الأراضي المحتلة، يؤدرم ـ كذلك ـ غياب السلم والحب والتعايش في عالم اختلت موازينه، واختلت العلاقات فيه بعد أن اهتزت أركانه نتيجة انتشار العنف وذيوع الإبادة الجماعية للفلسطينيين ونتيجة انتشار التقتيل الجماعي الذي يتسبب في دوار الكتابة ودوختها ومراراتها وغثيانها.
ولكي يقترب بن زيدان من هذه العلاقات التي تجمع التجريب المسرحي بالقضية الفلسطينية، يقدم قراءة متأنية وعميقة لعروض مسرحية اتخذت من أطروحة فلسطين مادة درامية للكتابة بشكل مباشر أو غير مباشر أو بشكل ظاهر أو مضمر، وهي عروض: “قصص تحت الاحتلال” لفرقة مسرح القبة من رام الله وهي للمخرج نزار الزغبي، و”بعدين” لفرقة عناد من بيت جالا وهي من إخراج راندا غزالة، “طار الحمام” للكاتب عزام توفيق أبوالسعود، و”كيس رصاص” لكمال الباشا وإخراج عبدالسلام عبده، “أنا القدس” لفرقة عشتار قد كتبت خصيصا للاحتفال بالقدس عاصمة الثقافة العربية وهي بحث وكتابة وإخراج ناصر عمر وفكرة وتمثيل إيمان عون.
تحليل مسرحيات
الكتاب يقدم مقاربة نقدية جديدة في موضوع تلقي المسرح العربي لقضية القدس في دراسات لا تعتمد السرد التاريخي
ومن بين أربعة عشر مبحثا خصص بن زيدان خمسة مباحث لخمسة أعمال أولها الملحمة التاريخية الغنائية “الإلياذة الكنعانية” لفرقة أورنينا السورية، والتي برزت خاصيتها واضحة جلية في تركيب معادلات جمالية وفنية وتاريخية تدور كلها حول فلسطين وحول مدينة القدس، فيها يتقاطع الإبداع بالتاريخ بجملة من الرموز والدلالات التي أنتجتها الفرقة زمن العرض وهي تقدم صورا مليئة بالأحداث التاريخية والصراعات، فأنتجت بشعرية هذا التركيب شعرية العنف وشعرية التسامح الديني وشعرية الدعوة إلى تحرير مدينة القدس. هذه الملحمة التي صاغت فرقة أورنينا قيمها الإنسانية بالمادة التاريخية وهي تعرض بالرقص التعبيري والموسيقي كل ما يقرّب المتلقي من جمالية الخطابات الملونة بألوان الحلم والواقع والمأساة.
وثاني الأعمال مسرحية “بلا عنوان” لفرقة المسرح الحديث الأردن، وهنا لفت بن زيدان إلى منطق نص المسرحية، “تقول القدس إن الحكي ‘ينعش نبوءات البدء‘، ويهمس الضرير بـ‘بوح التذكير بحق ما امّحى‘ وحين تتحدث القدس عن القدس تؤكد أن ‘في القدس كانت الأرض بكرا لا أحد فيها‘، ويقول الابن كأنه يكمل ما تقوله القدس: ‘إلا نحن‘، وهذا المنطق يمهد بخطاباته إلى فهم عرض المسرحية لحظة تقبل زمن حكاياتها وصورها وأشكال الغناء الصادح في جنباتها والكورال الطقوسي الذي يحكم إيقاع العرض حول القدس ويتحكم في إنتاج دلالاتها.”
وأضاف بن زيدان “شكل الكتابة الدرامية لهذا النص التجريبي حول القدس هو سر قوته في تجريبيته وشكل انبنائه هو السر الكامن وراء جرأته في استنطاق معنى الجسد الذي يقيم طقوسية العرض، وجماليات لحظاته في فرجته هي السر الكامن في السيولة الدلالية وهي تقدم مدينة ليست ككل المدن، مدينة مختلفة عن كل المدن في العالم، حقيقتها تحمل جوهر تراجيديا إنسانية تتعرض يوميا لاغتصاب وتعاني من التبديل القسري لتغيير عمقها بكتابة التاريخ المزور الذي يكتبه الحبر الملفق، مدينة اسمها السلام.”
المبحث الثالث خصصه بن زيدان لقراءة وتحليل مونودراما “عائد إلى حيفا”، ومسرح غنام غنام، مشيرا إلى أن عرض “عائد إلى حيفا” مأخوذ عن رواية غسان كنفاني، قد أعدها للمسرح كل من د.يحيي البشتاوي والمخرج غنام غنام. وأضاف “من مضمون الإعداد المحكوم بثوابته التخييلية والواقعية في رصد التاريخ الفلسطيني وهو يتحدث عن نكبة 1948 قام غنام غنام بتقديم هذه المونودراما بخبرته الثرية في التشخيص مدعوما بكفاءته في فهم أبعاد كل شخصية على حدة.”
وأضاف أن غنام غنام “جنّد كل الأسرار التي اكتسبها من التمثيل من الإخراج المسرحي ومن اقتباس ومن إعداد العديد من المسرحيات العالمية والعربية لإيجاد كل المسوغات الذاتية والموضوعية التي تستجيب لتجربته المسرحية القائمة على الالتزام بثيمة القدس والهوية ونقد الآخر الإسرائيلي، وهي تجربة تمثل في تكوينها الدلالي قضية تاريخية إنسانية عاش تفاصيلها كفلسطيني ينتمي بوعيه إلى سؤال الهوية وسؤال مستقبل الوطن، في تجربة تعني عنده في نسيج تجربته المسرحية الخيط الرابط والناظم رؤيته التي تتحرك بتحول بنيات المفردات الدرامية التي تنظم المشاهد، وبين تجمع كل الأطروحات السياسية والنفسية والتاريخية التي صاغت قناعاته أثناء تقمص الأدوار التي شكلت عالم الدراما بدرامية الزمن الفلسطيني.
القراءة التطبيقية للمسرحيات هي السمة الأبرز في دراسة بن زيدان حيث قام بتحليل معنى النص والعرض ودلالاته
مسرحية “شهادة على بوابة الأقصى” للمخرج العراقي قاسم محمد كانت محور المبحث الرابع في الكتاب، حيث رأى بن زيدان أن عنوان النص هو ذاته شهادة مكتوبة وناطقة على أبواب الأقصى تشهد على ما يجري من أحداث تشير إلى مكان الاستشهاد، وتكون إيحاء أيضا بأن كلام المتكلم هو كلام عن المدينة من خارج المدينة، خارج الأقصى، لأن كل الأبواب موصدة أمام كل من يفكر في المدينة، بسبب قوانين المنع السارية في وطن محتل، ومسلوب، من هنا تأتي شهادة هذا النص لتكون الكتابة عن المدينة، والحديث عن الوطن في نص تجريبي شعرا يبدأ بالنص الشعري ويقوم على إعادة تركيبه دراميا وفق منهجية فنية تستجيب لضرورة الكتابة الدرامية الإخراجية.
ويلفت إلى أن المسرحية نص يبيح لتشكله فرصة التمكن وتجرع مرارة الجمع بين القضية والشعر، وصياغة معاني النص بما يقوله الشعر بغنائية تتأسى على ما يقع في الوطن، وهو ما يجعله نصا يدخل ضمن “جهد قاسم الكتابي وهو يشكل مرحلة يشار إليها في تحولات النص المسرحي لديه، إذ يأخذ حادثة واقعية ليشكلها في مسرحية شعرية ومادة مأخوذة من الشاعر الفلسطيني المميز سميح القاسم، ليصل بها إلى مسرح الاحتجاج السياسي، والملصق الذي عرفته فترات جد مهمة في تاريخ المسرح السياسي الإنساني بعامة والعربي بخاصة.”
استلهام قصة “شمشون ودليلة” في أعمال المسرحيين كخلفية للكتابة المسرحية عن فلسطين، شكلت الرؤية التحليلية لبن زيدان في المبحث الخامس، فبعد أن حلل القصة كرمز أسطوري وتاريخي ورصد للكتاب الذين عادوا إلى هذه القصة وقاموا بتفكيكها وأعادوا قراءتها اختاروا ما يناسب الكتابة المسرحية العربية، توقف مع عمل الشيخ سلطان بن محمد القاسمي “شمشون الجبار” منطلقا من رؤية شاملة لأعماله وعلاقتها بالقضايا العربية وعمق استلهامه لتجليات التراث العربي بأحداثه ووقائعه وقصصه التاريخية. حيث أكد بن زيدان أنه في كل مسرحيات الشيخ القاسمي تتأكد العلاقة الوثيقة التي تجمعه بالتاريخ والأسطورة قراءة وفهما وتوظيفا، وتظهر علنا دفاعه المستميت عن قيم الخير والعدالة، كما تظهر رفضه لكل الأجواء المتوترة المفروضة على الوطن العربي.
ويختم بن زيدان كتابه بمشروع “ببليوغرافيا النصوص والعروض المسرحية العربية حول فلسطين والقدس” ومن خلال قراءة عناوين هذه الببليوغرافيا يتبين أن موضوع القدس وقضية فلسطين يظهران بجلاء في دلالات تاريخية عميقة تستأثر باهتمام العديد من المسرحيات التي تتحدث في مضامينها عن الحرب والسلام، والشهداء والقتل والنكسة والصمود والأرض المغصوبة ووكلاء صهيون والثورة والفدائيين والوطن الشهيد وتهويد مدينة القدس وأسرلة المدن الفلسطينية والمحاكمات السياسية للفلسطينيين، كما يظهر بشكل لافت شخصيات تراثية مستمدة من التراث العربي أو من شكسبير، يتم بها توليد كلام محايث لتجربة الكاتب المسرحي وهو يؤسس لزمن كتابة مأساوية القضية.
كما يظهر أن هذه الدلالات مرتبطة بالتغير في الواقع الذي أنتجها، لأنه يوميا تتدخل في تكوينه كل المستجدات والضروريات الصراعية، والتصادم بين أطراف الصراع ما يجعل كل هذه النصوص خاضعة ـ هي نفسها ـ لما يخضع له الواقع العربي والعالمي، ومن هنا جاء تنوعها، وجاء اختلاف تجاربها اختلافا واضحا، من الكتابة الشعرية إلى الكتابة النثرية إلى شكل تقديمها فوق الخشبات العربية.