"الوصية" نصب يجسد مفهوم النضال والهوية والذاكرة الجماعية

النصب التي تتوسط ساحات المدن ليست فقط أدوات للذكرى والتذكر من خلال التوثيق، إنها أيضا صناعة رموز من خلال رؤى ثقافية وفنية، وقد تطورت لتمنح مساحة أكبر لخيال الفنانين في مقاربتهم للواقع والتاريخ والحضارة المخصوصة. وهذا ما نجده في تصميم الفنان العراقي أمين شاتي لنصب جديد في إقليم كردستان بعنوان "الوصية."
“الوصية” رؤية بصرية يستعيد بها التشكيلي العراقي المقيم في بريطانيا أمين شاتي حضوره الكثيف في تفاصيل عراقيته الملهمة، تلك التي أعادته عميقا نحو حضارات تعاقبت على بلاد الرافدين وتفاصيلها الإنسانية العميقة، تلك التي ميزته فنانا لا يعترف بحدود وطنه العميق في تفاصيل الجمال، فقد خاض كثافة هويته الشاملة بفلسفته وتشبع بموروثها الحسي البصري والمعنوي، برؤاها التي جعلت منه عالمي التعبير وعميقا في بلورة مفاهيمه الناضجة فنيا.
وعاد شاتي إلى العراق حاملا “الوصية” باعتبارها محملا معنويا لتصوره البصري الذي يرشح أفكارا وأحداثا وذاكرة حاولت الصمود بالاتكاء على الجمال فنيا وعلى الإنسان فعلا وإرادة، اختزل من خلالها مطلب الحياة في وطن من نور ومن أمجاد ومن صمود يسعى إلى الأمان والسلام.
يد تحرس الذاكرة
الفنان يستمد فكرة نصبه من ثنائية البناء والهدم ومن التناقضات التي تتصارع داخل المجتمع لكنها تصنع التوازن
في وصية بقيت نصب عينيه وذهنه برنين جمالي دفعه إلى تخليد الرؤية المعنوية في نصب خالد بهي الحضور في قلب كردستان العراق، يقول “تتجاوز الوصية كونها مجرد عمل فني لتصبح تجسيدا حيا لمفهوم النضال والهوية والذاكرة الجماعية. هذا العمل، الذي سيقام داخل النافورة قرب قلعة أربيل، ليس مجرد نصب، بل هو رسالة تاريخية وجمالية توثق وصية القائد كاكه مسعود البرزاني، المستمدة من إرث والده كاكه مصطفى البرزاني، لتكون رمزا خالدا لمسيرة الشعب الكردي نحو الحرية وسعيا للحفاظ على الهوية.”
هذه الرؤية اختارها شاتي في تكاثف بصري رمزي حاول أن يستعير السياسة على محمل الانتماء والوطنية حتى تكون أعم في مسارها الأبعد فينأى بها عن صدامات السيطرة أو عن تناحرات الهيمنة بين كل الأطياف، أراد أن يعبر منها نحوها، بخلق ثنايا جديدة تفتح الأبواب الموصدة أمام الحوارات الحقيقية التي تعدل روح البقاء من أجل تلاحم الهوية الواحدة التي تتفرد بتنوعها.
وبسؤالنا له لماذا الوصية يقول شاتي “الوصية هنا ليست مجرد نص مكتوب، فقد تحولت إلى عمل فني خالد يجسد مفاهيم القيادة، والتضحية، والتلاحم الوطني، فبدلا من أن تُسجَّل الوصية في كتاب أو وثيقة، اخترت أن أخلدها في نصب نحتي يستمر في نقل رسالته عبر الأجيال، ليكون شاهدا على نضال الشعب الكردي وسعيه نحو تحقيق مصيره. كما يرمز النصب إلى انتقال الراية من قائد إلى آخر، كجزء من استمرارية المسيرة النضالية في كردستان العراق.”
اختار شاتي لتصميم عمله فكرة اليد في تناقضاتها بين البناء والهدم بين ثنائيات العمار والدمار، حاول في العمل أن يكون حقيقيا ويحمل تلك الحقيقة على ظهر غلغامش حتى لا يخيب ظن العدم، لأن لا حقيقة تُبنى دون الاعتراف بالأخطاء ولا عدالة تكون بعيدا عن إنسانية السعي لبناء الأوطان العادلة، ومن هنا كانت الوصية صوتا وصدى حركة وبناء استطاع أن يوظفها ليرصد مسيرة التجريب من المجد الأول إلى التعثرات، إلى الصمود نحو النهوض والشموخ مجددا.
النصب يمثل رحلة التجريب بين النهوض والسقوط، بين العظمة والانكسار، لكنه يؤكد أن الاستمرار هو الأهم
“اليد التي قدت من رمل تحول كل ما يأتي به النهر فتصهره كتابة” هذا ما يقوله الشاعر الفرنسي رينيه شار وهو يقدم تفصيل الإبداع الذي تصوغه اليد، والكتابة ليست حروفا فقط بل هي فن ونحت وتجسيد وترميم وعمارة وإنجاز، اليد هي التي تستمر في الإنجاز بوعي وهي تمضي في رحلة البحث عن الجمال والإبداع.
اليد حكمت منذ القدم بالصنع، بالبناء، بالإنجاز، بالتصور وبمحاكاة العقل والمشاعر وهي تعيد صقل الذات الحرة في فضاءاتها، منها انطلق شاتي ليحفر فكرة النصب الذي اختاره في ساحة واسعة الفضاء تحيطها المياه. وإذا ما التقطناه بعين الطير سيكون مجسما بديعا يتلون براية كردستان العراق من أزهار وألوان من تفاصيل مرتبة وفضاء يعكس طبيعة الانتماء في الإقليم تلك الزهور والحياة والجبال، التي تعيد صقل فكرة الماء بالتاريخ، بالاستمرارية الخالدة التي تحيي ذاكرة العراق من هبة نهريه، وبكل من صنعوا تاريخه القديم والحديث وكل من عبروا من منبت ترابه إلى شموخه الخالد في تفصيل أزمنته ليوقع اليد باليد بين أخاديد التفرقات التي حفرت نتوءات الفراغ الخاوي إلا من صداماته والتي نجح في تجاوزها كردستان العراق بكل صمود.
أراد شاتي أن يجعل من نصبه نموذجا للوحدة وللاقتداء بالحكمة في تحقيق الفكرة بالبناء بالصقل بالابتكار والإبداع بالاستمرار وبالنفاذ من العاصفة وضجيجها إلى الأمان الآخر. يرى أمين شاتي أن “اليد التي تبني هي ذاتها التي تهدم،” لكن الفارق يكمن في وعيها وإرادتها، النصب يمثل رحلة التجريب بين النهوض والسقوط، بين العظمة والانكسار، لكنه يؤكد أن الاستمرار هو الأهم. اليد هنا ليست مجرد عنصر بصري، بل رمز للحياة، للخلق، وللنضال، وهي التي تعيد تشكيل التاريخ وتصنع المصير.
دعوة للحوار
استمد شاتي فكرته من ثنائية البناء والهدم، من التناقضات التي تتصارع داخل المجتمع لكنها في الوقت ذاته تصنع التوازن والاستمرارية، اعتمد العمل على أربع مستويات متكاملة في توازناتها التراتبية بين الثبات والصمود ارتكزت، كما عبر شاتي، على القاعدة وهي تمثيل للشعب، حيث تنطلق منها الفكرة، فهي الأساس الذي يقوم عليه الحكم والحراك الوطنيان، كما تعكس التشتت والتفرقة اللتين أحدثتهما التحديات التاريخية والسياسية، ثم اللحمة الوطنية، ويظهر في الجزء الثاني من النصب، التنظيم المجتمعي الذي ينبثق من العشوائية ليصبح أكثر تماسكا، حيث تبدأ الروابط الإنسانية والثقافية بالتفاعل لإعادة تشكيل الهوية الموحدة، إضافة إلى الحماية والمقاومة في المستوى الثالث، أين يتجلى تعهد الشعب الكردي بحماية هويته من أي عدوان، إذ ترمز إلى التكاتف ضد محاولات طمس الثقافة والتاريخ الكردي.
يعيش أمين شاتي رحلته في تفصيل اليد والرمز والترميز البصري فنيا في صمت مع الفكرة وفي تجليات مستمرة مع المفهوم، فهو يحاول إبداع رؤية تحاكي بالواقع المتخيل وبالمتخيل المأمول، رحلة لا تقف عند جيل ولكنها تستمر أبعد في تداخلاتها، فاليد التي تُصارع وتهجم وتقتل هي اليد التي تبني وتبدع وتنجز وتعمل، وهنا يضع شاتي شواهد على عصور من الإبداع خاضت محبة انتمائها وخلقت رؤية جديدة لوطن من جمال، فاليد مثل نحلة في هواء الأسطورة لها سيميائياتها التي تتكامل من نقصانها فترتقي أبعد بالصورة.
في هذا النصب سيركز شاتي على أن يحيط بالنصب الرئيسي 12 تمثالا، يبلغ ارتفاع كل منها 4 أمتار، تمثل شخصيات كردية بارزة من قادة سياسيين، ومفكرين، وعلماء، وأدباء، وشعراء، وشخصيات اجتماعية مؤثرة، ساهمت في تشكيل تاريخ كردستان وهويتها، هذه التماثيل لا تعكس فقط الماضي، بل تحاكي الحاضر والمستقبل، حيث تؤكد أن الإبداع والفكر والنضال ميزات تتواصل عبر الأجيال. أما عن التقنية التنفيذية التي سيكون عليها النصب فقد أشار شاتي إلى أنها ستكون وفق مساحة كلية تصل إلى 200x 200 متر. بارتفاع 25 مترا. وقاعدة عرضها يصل إلى 16 مترا.
أما المواد فسيتم تصنيعها من البرونز أو الستانلس ستيل لضمان الديمومة والجودة الفنية، وسيكون العمل من أهم المجسمات الفنية في الشرق الأوسط وسوف يكون معلما من معالم أربيل الكبرى كما أنه من المقرر وحسب ما ذكره شاتي أن تدوم مدة تنفيذه ثلاث سنوات. الوصية كما يقول “ليست مجرد عمل نحتي، بل هي دعوة للحوار، للتأمل، وللإيمان بأن الجمال قادر على إعادة صياغة الواقع، وبأن الشعوب التي تحافظ على تاريخها وهويتها قادرة على العبور إلى المستقبل بثبات وشموخ.”