"قلق الهويات".. مكامن الخطر والأمان في فخاخ الهوية

بات البحث في الهوية أمرا بالغ الأهمية اليوم في ظل ما نشهده من صراعات هووية ومن محاولات لتذويب هويات الأفراد والمجموعات والشعوب، خاصة مع توسع هيمنة العالم الرقمي وتحكّمه بصناعة الوعي. وهنا يأتي كتاب الدكتور مسفر بن علي القحطاني "قلق الهويات" بحثا في مختلف زوايا الهوية وتحدياتها اليوم.
منذ أكثر من عقدين من الزمان، يُنضج الدكتور مسفر بن علي القحطاني، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، مشروعه الفكري ونتاجه المعرفي في بناء الوعي على مهل، محاولا نقد المقولات الغرائبية التي تدخل في الصناعة الأكثر رواجا وانتشارا، صناعة الوهم. ولنا أن نتخيل هذه الثنائية، بناء الوعي مقابل صناعة الوهم وترويجه، ولاسيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته، وانحسار دور الكتب والمكتبات، وتراجع معدلات القراءة بشكل عام.
وفي كتابه الأخير “قلق الهويات”، الصادر حديثا عن مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض في مقدمة وخمسة مباحث هي: الهوية والمعنى والدلالة والملامح المعاصرة وتناول الهويات الدينية والوطنية والاجتماعية والثقافية، يقترب الباحث السعودي الجاد من مكامن الخطر والأمان في فخاخ الهوية.
بحث في الهوية
يقف الكتاب عند معنى الهوية باعتبارها حقيقة الشيء أو الشخص، والتي تعكس تميزه ووجوده المتفرد، وهي – وإن تعددت معانيها والرؤى التي تتناولها – تظل جوهر العقل حسبما ذهب فريدريك شيلنج، وهو المعنى المقارب لما ذهب إليه ديكارت وجون لوك اللذان عَدّا هوية الإنسان هي عقله وفكره، وما يشعر به الإنسان من مدركات وأفعال تحقق هويته الذاتية.
ويخلص الدكتور مسفر القحطاني إلى مقاربة مفاهيمية للهوية، حول هذه الصفات التي تميز فردا عن غيره، وتنطبع في شخصه فيعرف بها، وقد تنقسم إلى المجموعات والكيانات البشرية أو المجمعات؛ فتميزهم عن الآخرين.
والهوية في عالمنا المعاصر، تكاثرت على الذات الواحدة لصاحبها، كأن تجد من يقول “هذا سعد مسلم عربي سعودي شمالي من حائل”، وعلى هذا فالهوية شديدة الالتصاق بأفرادها، ورغم سيولتها وتعدد أشكالها في الذات والجماعة، إلا أنها شديدة الصلابة عندما تتعرض لخطر المواجهة أو الاجتثاث، ومن ثم تصبح من أشد الحصون الحامية لحاملي تلك الهويات، وهي كذلك ثابتة وصلبة أو مرنة ومتحركة، وينبع ثباتها من الانتماء الديني والوطني واللغوي، وكلها محددات لكينونة أصحابها، في حين أن الهويات المتحركة المرنة هي تلك المكتسبة التي يكتسبها الفرد والمجتمع من ميوله ورغباته وتأثيرات الوسط أو الأوساط المحيطة به وبالجماعة الفنية أو المهنية.
وبطبيعة الحال تختلف الهويات وتتعدد وتتقاطع؛ ومن هنا تصبح الهوية المعاصرة مجالا خصبا للاستقطاب، وأن كل التيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تجعل الهوية خيارها الأمثل في نشر أفكارها أو التبشير بأيديولوجيتها، ولهذا فليس غريبا أن تصبح مواضيع الطبقية والتهميش والعنصرية والجندرية والنسوية مجالات لاشتعال قلق الهوية وصراعاتها التي تخلق مع الوقت مفاهيم جدلية عن الاغتراب “اغتراب الهويات”، والانتماء ومن هو اللامنتمي، والخصوصية والتميز والعنصرية والإثنية والقبلية والوطنية والأقلية والطائفية، وكلها مفاهيم تمييزية. ولو سحبنا هذه المفاهيم، ووسعنا دائرة النظر إلى العالم أو عالمنا العربي، سنرى لها ظلالها في الواقع السوري مثلا كأحدث مثال لذلك.
أما فكرة قلق الهوية في مجتمعاتنا، فقد مرت بحسب الكتاب بثلاث موجات: الأولى بعد الاستعمار الغربي للوطن العربي ولها تجلياتها وإشكالاتها في اللغة التي فرضها الاستعمار والنظم التعليمية ما بين ديني ومدني، وعلى رغم رحيل الاستعمار بثوبه العسكري الخشن، إلا أن ظلاله الثقافية باقية كما في معظم بلدان أفريقيا، التي ما زالت تراها فرنسا حتى الآن مجرد مستعمرات فرنسية.
أما الموجة الثانية لقلق الهوية فقد كانت بعد عصر العولمة، وتنظير الرئيس الأميركي جورج بوش الأب (الرئيس الحادي والأربعين للولايات المتحدة (1989 – 1993)، في عام 1991، لبدء النظام العالمي الجديد، نظام تهيمن فيه أميركا على الفضاء العالمي سياسيا واقتصاديا وثقافيا. أما الموجة الثالثة، فهي تلك الموجة التي اتصفت بالخريف العربي الثوري منذ عام 2011، وبرز معها بوضوح دور منصات التواصل الاجتماعي في إشعال الاستقطاب والتعبئة الطائفية من تهم وتصنيفات، ما بين وطني وعميل، ومنتمٍ وفلول، وما إلى ذلك.
في تناوله للهوية الدينية، يركز الكتاب على أن الدين هو أهم رابطة إنسانية، كونه غائرا في العظم ومتأصلا في الطبيعة البشرية، ولهذا ليس مستغربا أن يطرح أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة”، هذا التصور الذي يعكس أن الهوية الدينية هي صورة انتماء الفرد والجماعة إلى طريقة أو مذهب أو طائفة دينية، وليست هي الدين نفسه، يقول معلوف “لن يتراجع الدين أبدا أمام منسيات التاريخ، لا بالعلم ولا بأيّ عقيدة أخرى ولا بأي نظام سياسي، فكلما تقدم العلم كان على الإنسان أن يتساءل أكثر عن نمائيته، إن إله ‘كيف‘ سيتلاشى يوما ما، لكن إله ‘ماذا‘ لن يموت أبدا”.
ولا ينسى المؤلف أن يشير بذكاء إلى أن الهوية الدينية غير المنضبطة أو المعتدلة كانت سببا للحروب والفتن المدمرة للشعوب؛ وذلك بسبب الغلو والتضخيم الذي يحوّلها من وسيلة تعارف وتعاون إلى هوية تصادم وقتال، والشواهد التاريخية حاضرة في أحداث كثيرة كالحروب الصليبية والحروب الطائفية عبر الزمن.
يشير الكتاب إلى أن هناك استقرارا في الهوية الدينية السعودية، مرجعه عدة عوامل تاريخية واجتماعية في بنية التكوين الديني للأفراد، وممارسات الدولة لتعزيز لغة الحوار والتفاهم وبناء الجسور، ليس فقط بين أتباع المذاهب والطوائف بل بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة في العالم.
ويتوقف الكتاب عند وثيقة مكة المكرمة لإرساء قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلدان الإسلامية، كما يتناول الصحوة السعودية ضمن تناول الصحوات الدينية في التاريخ المعاصر، ويتوقف بذكاء له تجلياته في الواقع السوري الراهن على سبيل المثال، عند منطق الهوية الطائفية، التي تؤدي إلى الفوضى، فيما كان يسمّيها البعض ربيعا عربيا؛ فهناك أقليات يدفعها المعتقد أو العرق أو الأيديولوجيا إلى الخروج أو السيطرة أو الثورة على بقية مكونات المجتمع، كما هو حاصل تجليات وتفاوتات في اليمن ولبنان والعراق وسوريا الآن.
يتطرق المؤلف في المبحث الثالث إلى الهوية الوطنية، وفيها يؤكد أن فكرة الاعتزاز بالدولة وتحقيق وصف المواطنة لا يأتي من خلال الشعارات، بل هو تفاعل عميق بين المواطن ووطنه، تفاعل قائم على الحقوق والواجبات، وإننا في حاجة إلى تعميق ثقافة المواطنة وإخراجها من هشاشتها وتعزيز ركائزها وإرساء دعائمها بداخل الأفراد.
تهديد رقمي
يعتني كتاب قلق الهويات بتأصيل نزعة تشاؤمية أخرى ورصدها وقد صدرها الغرب عبر كتابات تشاؤمية عديدة، تتحدث عن مخاطر جمة تحدق بالعالم وتنذر بنهايته، وعن صدام الحضارات كما في كتابات الفيلسوف الأميركي صموئيل فيليبس هانتنجتن، و”الانفجار الأكبر” للفيلسوف الفرنسي بيار توبي، و”إلى أين يسير العالم” للفيلسوف الفرنسي إدغار موران، و”العصر المريض” للفيلسوف الإنجليزي ريتشارد أوفري، و”عوالم في تصادم” للباحث الروسي إيمانويل فيلكوفيسكي، وكتابات العالم الفرنسي فرانسيس فوكوياما “صراع الحضارات” و”نهاية التاريخ”، و”غرق الحضارات” للأديب اللبناني أمين معلوف، وكلها رؤى تحليلية تنذر بأزمات كارثية وقرب يوم القيامة، في حين لا أصداء سطحية في منصات التفسخ الاجتماعي.
ويشير المؤلف إلى أنه لا يوجد نمط أو نظام واحد للحكم الرشيد، وأن الديمقراطية لا تموت بل هي في حالة انبعاث دائم، وأن تقدم بعض المجتمعات واستقرارها ورخاءها لا تضعه الديمقراطية فقط ولا السلطات السياسية فقط، بل مع توافر ضمانات البقاء تصاعديا في ميادين التقدم؛ فبعض النظم الديمقراطية تفرز لنا وجوها متناقضة تجمع بين التعددية والعنصرية، والبطالة والرخاء، والسلام والحرب، واستغلال الشعوب الفقيرة وتنميتها، وهذا ما يؤكد أن الديمقراطية تنجح وفق رسوخ قيمها المُعلنَة، وصدق التعاطي مع المواطن العادي، وليس في أشكالها الإجرائية، وصناديق انتخاباتها المغلقة والمترعة بأصوات الشعوب وأحلامها.
وفي تناوله الهوية الاجتماعية وعلاقتها بقلق الهويات النوعية، يتطرق المؤلف إلى القبلية – هل هي مُهدد اجتماعي؟ – وحدود القبيلة في علاقتها بالدولة، وهل الانفتاح المدني في السعودية مُهدد للهوية الاجتماعية؟ وهل هويتنا الاجتماعية مُهددة بثورة منصات التواصل الاجتماعي؟
وهنا مقاربة أكثر عمقا للتهديد الرقمي للهويات بحسب مصطلح الإنسان الرقمي الذي أطلقه قبل نحو ربع قرن مارك برنكسي، وفيه يحدث تسليع للإنسان، وبحيث يتحول إلى فريسة في شباك صياد صامت، تذوب هويته وتنهار لغته بالتدريج في مواقع التواصل الاجتماعي، وحيث نعيش سيولة وتحريضا على مشاركة لحظاتنا وخصوصياتنا بتصديرها للجمهور العام، وهو ما يحرمنا لذة البقاء الأطول مع هذه اللحظات؛ فنحن معنيون أكثر بمن يشاهد حياتنا، ومن يبدي إعجابه بها، وبعدد الإعجابات والمشاركات والتعليقات – حتى إن كانت حياة زائفة أو حقيقية – لأننا في واقع الأمر نتفرج على حياتنا ونشرك آخرين في الفرجة بأكثر مما نعيش ونستمتع بها، وداخل هذا الطوفان الرقمي وأوحال منصات التواصل الاجتماعي، قد يتولد خطاب كراهية حتى في أوساط المجتمعات الغربية التي تدعي التسامح والإيمان بالحريات.