"النشيد الأولمبي" دراسة عميقة للإنسان في مهب الصراعات

رواية تسبر أغوار الصمت البشري حيث لا تكمن الأجوبة في الكلمات.
الاثنين 2025/03/17
لمحة عن الأثر النفسي للحروب على الأفراد (لوحة للفنان نعمان عيسى)

في الأعمال الفنية لا يكون رصد الصراعات الداخلية والخارجية التي يعاني منها البشر مؤثرا إذا كان في خطاب مباشر، بل يحتاج إلى بناء دقيق يسبر الأغوار ويكشف عن الخفايا التي لا نراها. ووفق هذا التوجه كان رصد الكاتب السوري راهيم حساوي لآثار الحرب على السوريين في روايته "النشيد الأولمبي".

تحمل رواية "النشيد الأولمبي" للروائي راهيم حساوي في طياتها العديد من الطبقات المعقدة التي تتداخل بين الشخصيات والأحداث، مشكّلة بذلك عالما روائيّا يمزج بين الفلسفتين الشخصية والمجتمعية.

 يبدأ السرد بوصف لحالة الجوع، ليس كفعل جسدي محض، بل كمؤشر على حاجة عاطفية وعقلية متجددة. فالجوع هنا يمثل حالة إنسانية تتجسد في التفاعلات واللغات الجسدية الدقيقة، ويصبح الشرارة التي تنطلق منها تساؤلات حول الهوية والمكان في عالم مليء بالصراعات الداخلية والخارجية. فهل يعكس المضمون والفلسفة الروائية في هذه الرواية واقعًا محملاً بالأسى والمرارة، حيث تظل الشخصيات تعيش حالة من اللامكانية، سواء على مستوى الحياة اليومية أو على مستوى الحروب النفسية التي تعصف بكل فرد من أفراد العائلة؟

الهروب من الواقع

العنوان يحمل أيضًا إشارة إلى الأولمبياد، الذي يرمز عادة إلى التنافس والقوة والصمود. لكن في السرد الروائي، يصبح هذا النشيد مقلوبًا. فهو لا يروي انتصارات أو بطولات بقدر ما يتحدث عن الخسارات والهزائم النفسية التي يعاني منها الأفراد في إطار ما يمكن أن نطلق عليه “أولمبياد الحياة” في ظروف الحرب والصراع.

كما أن فكرة “النشيد” قد تشير إلى الطابع الجماعي، إلا أن الرواية تبرز تناقضًا بين هذه الجماعية وهذا التفرد الذي تتسم به شخصياتها، حيث تنغمس كل شخصية في معركتها الخاصة التي تتداخل مع الصراع الأكبر. النشيد هنا لا يُغني عن الفرح، بل يصبح تذكيرًا بحجم المعاناة.

تمثل شخصية “علياء” حالة من الانفصال والانعزال عن محيطها الاجتماعي والجغرافي. فهي لا تهتم كثيرًا بتفاصيل الحياة المتسارعة، ولا تراهن على المثالية أو النجاح الجماعي؛ بل تتبنى أسلوب الحياة البطيء المتأمل، الذي يربط الإنسان بمشاعره وأحاسيسه الخاصة بعيدًا عن التدفقات السريعة للعالم من حولها. من جهة أخرى، يمثل الأب شخصية تعيش في حالة انكسار، مثقلة بالأعباء النفسية والجسدية. ومع تقدم السن وتدهور صحته، يشعر أنه قد أصبح عبئًا على أسرته، لكن محاولاته لإخفاء مشاعره، كما في لحظة تناول طعام الإفطار، تشير إلى نوع من العزلة العاطفية التي قد تكون مؤشرًا على الانقسام الاجتماعي والفردي الذي يعصف بالأشخاص في سياقات الحرب والدمار.

الرواية تكشف عن مواضيع مثل الوحدة والانفصال وتأثير الحرب على الأرواح والصراع الداخلي لدى الأفراد وقت الأزمات

يميل أسلوب راهيم حساوي في هذه الرواية إلى الوصف التفصيلي العميق، حيث يستعرض التفاصيل الحسية والنفسية بأسلوب مفعم بالحساسية. يبرز التوتر بين الشخصيات عبر حوارات بسيطة ولكن مليئة بالدلالات الخفية، مثل الحديث عن الطعام، الذي يصبح بدوره رمزيًا يعكس الجوع الروحي والمعنوي أكثر من الجوع الجسدي. كذلك، تُستخدم الأمثال والتلميحات الأدبية لتغني النص، مثل الإشارة إلى لوحة “الوقت الذائب” لسلفادور دالي، التي تنقل شعور الشخصيات بالزمن المتغير والمائع.

 هل استخدم الكاتب لغة خاصة به لتفكيك الصور النمطية حول الحياة والموت؟ أم أن تحويل العادي إلى شيء غير عادي هو صدى لفهم ماهية الحياة بين عيني الشخصيات وحركاتها اليومية؟ وهل تداخل الأسئلة الكبرى مع تفاصيل صغيرة في الحياة اليومية أعطى الرواية طابعًا شعبيًا مع لمسات فلسفية تعكس الصراع الداخلي بين الرغبات الشخصية والواقع الاجتماعي الصعب؟

إن تأثير الحروب الشخصية والعامة على الفرد والمجتمع في “النشيد الأولمبي” يلمسه القارئ من خلال التركيز على التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية، مثل الطعام والحديث العابر. إذ يتجلّى الألم والمقاومة في أشكال مختلفة. هذه الرواية تسبر أغوار الصمت البشري، حيث لا تكمن الأجوبة في الكلمات، بل في الصمت الذي يملأ الفراغات بين الأشخاص والأشياء. فهل حياة “علياء” في زمن الحرب والصعوبات التي تمر بها في سوريا، وما تشهده من معاناة نفسية واجتماعية، هي صورة مؤلمة للعلاقات العائلية في ظل الحرب، خصوصًا العلاقة بين “علياء” وأبيها بعد وفاة أخيها، وزيارة “فادي” إلى ألمانيا، وهجرة آخرين من المدينة؟ أم أنها توضح تفكير “علياء” العميق في الزمن والألم والوحدة في حياتها الشخصية التي تتشابك مع الأحداث التي يمر بها وطنها؟

تكشف الرواية عن مواضيع مثل الوحدة والانفصال وتأثير الحرب على الأرواح، والصراع الداخلي لدى الأفراد في وقت الأزمات. “علياء”، التي تحمل عبئا نفسيًا كبيرًا بعد فقدانها أخيها، تجد نفسها محاطة بشخصيات تعكس بعض جوانب الحياة المتناقضة في المجتمع المتأثر بالحروب. واللقاءات التي تحدث بين “علياء” و”بديع” و”صفوان” تحمل الكثير من التوتر العاطفي والتساؤلات حول العلاقات الإنسانية في زمن تتفكك فيه الروابط الاجتماعية تحت وطأة الصراع.

هل سلط راهيم الضوء على كيفية محاولات الشخصيات الهروب من الواقع من خلال أنماط حياتية قد تبدو غير مجدية أو فارغة، مثل الهروب إلى المقهى أو التحدث عن أعمال أو مشاريع قد تكون خالية من المعنى وسط الفوضى المحيطة؟ الشخصيات مثل “بديع” الذي يطمح إلى أن يصبح ممثلًا، و”علياء” التي تجد في تعليم اللغة الإنجليزية وسيلة للبقاء على اتصال بالعالم، تعكس محاولات النجاة أو التكيف في بيئة تفتقر إلى الاستقرار والطمأنينة.

دراسة للإنسان

تأثير الحروب الشخصية والعامة على الفرد والمجتمع في "النشيد الأولمبي" يلمسه القارئ من خلال التفاصيل اليومية الصغيرة

“النشيد الأولمبي” هي لمحة عن الأثر النفسي للحروب على الأفراد، إذ تدفع القارئ إلى التفكير في كيفية تعاطي الناس مع الظروف المحيطة بهم، سواء كان ذلك من خلال محاولات لإيجاد الأمل أو الهروب من الواقع، أو عبر جعل التفاصيل اليومية والقضايا الإنسانية مدخلًا لفهم أعمق للمأساة البشرية. فهل العلاقة المترنحة بين الأب وابنته، التي تتميز بالحديث الخفي خلف الكلمات والنظرات التي تحمل معاني أكثر من أي قول مباشر، تعكس الصراع الأزلي بين الأجيال وتطرح مفهوم التفاهم غير اللفظي الذي لا يخلو من تناقضات داخلية؟ أم أن الأب، في خضم مرضه وشيخوخته، لا يريد تحميل ابنته عبء الحياة، بينما “علياء”، في تقلباتها العاطفية والتقليدية، تختار أن تلتزم الصمت الذي يوازيه صمت آخر في محيطها؟

وهل تستحق المشاهد التي تجمعهما أثناء تناول الإفطار، حيث يقتصر الحوار على “نظرات خادعة”، أن تُظهر حجم العزلة النفسية التي يعيشها كلٌ منهما؟

المظاهر المستبطنة في الرواية تخفي وراءها معركة خفية لا تظهر في الكلمات، بل في الطرق التي يتبادل فيها الأب وابنته مشاعرهما من دون أن ينطق أحدهما بها. هذه الصورة لا تمثل فقط العلاقات الأسرية، بل هي استعارة للحالة العامة التي يعيشها الأفراد في ظل الحروب والمآسي. “كانت نظراتهما نظرات خادعة، هو يشعرها بأنه بخير كي يحرّرها من كل هذا العبء، وهي تشعره بأنها على ما يُرام بتحريك شفتيها مع كلمات أغنية فيروز.”

يتجلى الزمن كقوة مطلقة تتحكم في الأفراد، تندمج مع الذاكرة وتُشكّل انكسارات نفسية. يثير الزمن تساؤلات في نفس “علياء” حول معنى حياتها في ظل الانكسارات المتعددة، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى المجتمع الذي يتآكل في الداخل. ذلك الزمن الذي لا يرحم، الذي تحول فيه الماضي إلى شبح يتنقل بين الحواس والذاكرة. يظهر ذلك بوضوح في المشهد الذي تعود فيه “علياء” إلى ذكرى جرحٍ قديم في يدها، حيث يتحول الجرح إلى رمز للتحول والتجديد على الرغم من الألم المرتبط به. يصف السارد هذا الموقف قائلاً:

ل

“أحبت الطبيعة التي حدثت فوق ذلك الجرح، وفي اليوم الثالث راقبت القشرة اليابسة وهي تتشقق من تلقاء نفسها كما لو أنّ ثمّة ولادة جديدة على يدها.”

هنا، لا يكون الجرح مجرد جرح مادي، بل هو استعارة للزمن الذي يمر، وللألم الذي لا ينتهي، وللتجديد الذي يظهر وسط الفوضى. هذه الصورة تشير إلى أن “علياء”، مثل العديد من الشخصيات في الرواية، تتعامل مع الزمن كمجموعة من التحولات القاسية التي تستمر رغم كل شيء.

من أبرز ما يميز الرواية هو المزج بين الواقعية والسوريالية في تصوير الألم والوجود. السرد ينقل لنا معاناة الشخصيات ولكن بتفاصيل مجازية تترك للقارئ مساحة واسعة من التأويل. تزدوج اللغة بين ما هو واقعي ملموس وما هو تجريدي نفسي، ما يعزز تأثير المواقف العاطفية على القارئ. ففي وصف شخصية “علياء”، تظهر صورتها النفسية من خلال مجاز “البيضات المقلية” التي تضعها على الطاولة في الصباح: “حين وضعت علياء البيضات المقلية بشكل ثلاث عيون على الطاولة، لحظتها تمنّى لو أن امرأةً ما كانت ثالثتهما.”

البيضات هنا تمثل مشهدًا يوميًا بسيطًا، لكنها، في تناسق السرد، تصبح رمزًا لأشياء غير مرئية؛ مثل الوحدة، والحاجة إلى الحب، ورغبة الأب في أن يتقاسم لحظة من الألفة مع ابنته. هذه اللحظات هي في صميم الروح الإنسانية، حيث نجد أن التفصيل اليومي العادي يعبر عن آلام الوجود والبحث المستمر عن الطمأنينة.

تُظهر الرواية بشكل غير مباشر كيف أن الظروف الاجتماعية والسياسية لها دور في تشكيل الشخصية. “علياء”، التي نشأت في ظل الحروب والأزمات، تجد نفسها عالقة في لحظة من الزمن، حيث تتأرجح بين رغبتها في الحياة والتزامها بمسؤولياتها الأسرية، بينما يظهر أبوها مرهقًا بتقدمه في العمر ومرضه، مُستسلمًا للفقدان. في حين نجد أن “بديع”، الشاب الذي يظهر في حياة “علياء”، هو الآخر يعبّر عن صراع داخلي ضد عالمٍ يرفضه ويلاحقه. وفي وصفه للحظات فشله في الالتحاق بمعهد الفنون، يمكننا أن نرى انعكاسًا آخر للقلق الاجتماعي وعدم الاستقرار الذي يعيشه الأفراد في تلك الفترة الزمنية.

يقول “بديع”: “تصميم جيد، أليس كذلك؟” وهو يشير إلى الرسوم على قميصه، ما يعكس طريقته في التفاعل مع الحياة والأشخاص حوله. وفي هذه اللحظة نجد أن السرد يتناول الشخصيات كما لو أنها جزء من واقع متقطع، حيث يسعى كل واحد إلى بناء عالمه الخاص وسط الخراب العام.

رواية “النشيد الأولمبي” تقدم لنا دراسة عميقة للإنسان في مهب الريح؛ إذ يتم تصوير التحديات النفسية والوجودية التي يواجهها الأفراد في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية قاسية. بين الألم والأمل، وبين الفقدان والاكتشاف، تسير الشخصيات في مسارات متوازية مع الزمن، ذلك الزمن الذي لا يرحم ولا يتوقف، ولكنهم يواجهونه بطرق شتى. كما تبرز الرواية جانبًا من التفاعل بين الأجيال المختلفة، وتقدم صورة مفعمة بالحياة عن كيفية البحث عن الأمل وسط الخراب.

12