زعل الجزائر: عابر أم مستديم

نخب سياسية جزائرية تعاتب القيادة السياسية على الانخراط غير المجدي في العمل العربي في ظل اختلال موازين القوى داخل المجموعة العربية وكلفة الانخراط التي تكبد بلادهم فاتورة غير براغماتية.
السبت 2025/03/15
زعل عابر سرعان ما يذوب

انقضت القمة العربية الطارئة التي قرر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون مقاطعتها، وإلى حد الآن يسير الملف الفلسطيني والوضع في قطاع غزة وفق المخارج التي انتهت إليها، لكن الذي يريده الرأي العام العربي والجزائري على وجه التحديد، هو مصير بلادهم في العمل العربي المشترك، ودورها المستقبلي في حضنها القومي.

ويتساءل المراقبون، عن تداعيات القرار الجزائري على علاقاته العربية، خاصة في ما يتعلق بالملفات المشتركة التي ظل أحد الفاعلين فيها، فهل يكون مجرد “زعل” عابر سرعان ما يذوب في أيّ محطة قادمة، أم يكون منعطفا جديدا يعيد ترتيب الأوراق والأولويات ويؤسس لعلاقات جديدة بعيدة عن الخطاب القومي، الذي ظلت الجزائر متمسكة به إلى غاية القمة العربية التي احتضنتها العام 2022.

كان بالإمكان أن يمر غياب الرئيس تبون عن قمة القاهرة مرور الكرام، لأنه لم يحدث أن اكتمل النصاب العربي في قممهم منذ تأسيس الجامعة العربية، لكن تعليق برقية وكالة الأنباء الرسمية على قرار الغياب، وإشارتها إلى “زعل” جزائري من مجريات تحضير القمة، واعتماد سياسة “الاحتكار والإقصاء في آن واحد”، يوحي بأن غياب تبون هو ردة فعل على وضع غير مريح له في أروقة العمل العربي المشترك، وقد يكون منعطفا جديدا فيه.

الخارطة الجغرافية لم تعد هي النسخة الكربونية للخارطة القومية ولا للعمل العربي المشترك، فما كان بالأمس “من المحيط إلى الخليج” لم يعد معيارا لصناعة النفوذ وصياغة القرار

إلى غاية القمة العربية التي احتضنتها العام 2022، ظلت الجزائر متمسكة ببعد ورسالة قومية موروثة عن العهد القديم، بينما المتغيرات كانت أسرع في المنطقة قبل القمة وبعدها، فلغة المصالح وموازين القوة صارت هي المعيار الجديد في تحديد المشهد الجديد، بما في ذلك القضية الجوهرية، ولذلك استغرب البعض حماسة الجزائريين في احتضان القمة، وكأنهم لا يعلمون أن المتغيّرات تسير في الاتجاه المعاكس.

لقد كان العمل العربي المشترك، أحد مفاصل الدبلوماسية التي أوردها الرئيس تبون، في برنامجه الانتخابي العام 2019، على غير عادة رؤساء الجزائر الذين صمتت برامجهم السياسية والانتخابية عن الشأن الدبلوماسي، لكن على ما يبدو صبر الجزائريين نفد أمام تفرد بعض العرب بالقرار العربي وتعمد تجاهلها في الاستحقاقات الكبرى، ولذلك أشّرت برقية وكالة الأنباء الرسمية، إلى “زعل” القيادة السياسية، لكنها لم تكمل التفاصيل إن كان زعلا عابرا أم بداية عهد جديد.

من الحروب العربية – الإسرائيلية لم تتأخر الجزائر عن التضامن والمشاركة في العمل العربي المشترك، ففلسطين هي البلد الوحيد الذي حمل الجزائريون السلاح لأجله وهم تحت إدارة الاستعمار (1948)، وهي البلد الوحيد أيضا الذي خرج الجيش الجزائري الوليد بعد الاستقلال خارج حدوده للمشاركة إلى جانب الجيوش العربية في 1967 و1973، وهي القضية الوحيدة، التي دفعت الرئيس الراحل هواري بومدين لمنح السوفييت شيكا على بياض لتمويل تسليح الجيش العربي في حربه ضد إسرائيل.

في نهاية الثمانينات احتضنت الجزائر الميلاد الرمزي للدولة الفلسطينية، ومعها الرعيل الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات، لما صُدّت في وجوههم العديد من الأبواب، ولها صولات في التضامن العربي، فلم تتأخر يوما عن دفع حقوقها للسلطة الفلسطينية، ولا عن الوقوف إلى جانب الأقطار المأزومة، وحتى قمة 2022، كرستها لإدراج العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، ولوضعها كقضية مركزية، وإبرام مصالحة بين الفصائل الفلسطينية.

لكن الخارطة الجغرافية لم تعد هي النسخة الكربونية للخارطة القومية ولا للعمل العربي المشترك، فما كان بالأمس “من المحيط إلى الخليج” لم يعد معيارا لصناعة النفوذ وصياغة القرار، وحتى التاريخ لم يعد يشفع أمام الحاضر المدعوم بمعطيات مستجدة، كالحدود والطوق والمال والجيوستراتيجيا، فقال البعض “إذا كانت مصر والأردن هما دول الطوق، والسعودية والإمارات وقطر هي من تمول الإعمار، فما الجدوى من حضور الجزائر.”

غياب تبون عن قمة القاهرة هو ردة فعل على وضع غير مريح له في أروقة العمل العربي المشترك، وقد يكون منعطفا جديدا فيه

صفحات رسمية على شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، استحضرت الشوفينية المصرية، وانتقدت بشدة الغائبين عن قمة القاهرة دون أن تشير إليهم، لكن الإيحاءات إلى الرئيس الجزائري كانت واضحة، كساع لزعامة هي “اختصاص مصري ولا يمكن أن تكون غير ذلك،” وهو مؤشر على أن المتغيرات في المنطقة أرست قواعدها، وأن الجامعة العربية زكّت القرار الحقيقي المتخذ قبل ذلك في الرياض بالوجوه التي حضرته أو دعيت إليه.

نخب سياسية وإعلامية جزائرية تعاتب القيادة السياسية منذ سنوات على الانخراط غير المجدي في العمل العربي المشترك، في ظل اختلال موازين القوى داخل المجموعة العربية، وكلفة الانخراط التي تكبّد بلادهم فاتورة غير براغماتية، لاسيما وأن موقع الجزائر يسمح لها بتنويع وتوسيع فضاءاتها الجيوسياسية، ولذلك وجدت في قرار تبون، فرصة لتشجيع إعادة ترتيب الأوراق وترى أن العمل المذكور لم يعد ذا أولوية.

إلى وقت قريب كان التصنيف يقوم على مطبعين وعلى ممانعين، لكن التغيرات الأخيرة في المنطقة، خاصة بعد انتخاب رئيس جديد للبنان، وسقوط نظام بشار الأسد، وتطورات الوضع في غزة، و”الزعل” المعلن وغير المعلن على الجامعة العربية، يجعل الهيئة برمتها أمام منعطف حاسم، فإما إصلاح يرضي ولو نسبيا “الزاعلين”، أو تثبيت النهج الجديد بمن رضي، وفي الحالتين تكون الجزائر أمام حتمية المراجعة، وتحديد أولوية جديدة بادراك المتغيرات في المنطقة، فعهد القومية قد ولى، وعهد البراغماتية قد حل.

لقد سبق لقادة عرب أن انتقدوا الجامعة العربية والعمل العربي المشترك، لكن الأنظار الموجهة للجزائر ولقرار الرئيس تبون لم تكن لتظهر لو تعلق الأمر ببلد وقيادة أخرى في قطر آخر، إلا لكون ثقل الجزائر في المنطقة لا يمكن تجاوزه، لكن وضع الهيئة التي باتت ميؤوسا منها منذ سنوات، يفتح المجال أمام الحديث عن انتهاء صلاحيتها والتوجه نحو تكتلات عربية جديدة بغير عروبة.

8