ثلاث رسامات وخزافة.. تجارب نسائية مهمة في الفن العراقي

نساء امتلكن رؤى معاصرة تمزج بين مدارس فنية قديمة وحديثة.
السبت 2025/03/15
أفكار واقعية (لوحة نزيهة سليم)

يزخر تاريخ الفن التشكيلي العراقي المعاصر بأسماء نساء كانت لهن بصماتهن الخاصة والمتمردة. وعلى امتداد المئة عام الماضية سطعت تجارب نسائية استطاعت الاستفادة من التاريخ الفني للبلد ومن تجارب من سبقوهم في هذا المجال، حتى أصبحن اليوم وبعد رحيلهن رائدات ومؤسسات تستحق تجاربهن أن يتم استعادتها.

بغداد – بمناسبة عيد المرأة الذي يحتفي به العالم في الثامن من مارس كل عام، نستعيد سيرة مبدعات عراقيات كن من أوائل المؤسسات والرواد للفن التشكيلي المعاصر، وتركن إرثا فنيا مهما وتجارب متنوعة تثري المدونة التشكيلية عراقيا وعربيا.

أولى هؤلاء هي التشكيلية مديحة حسن تحسين أو مديحة عمر نسبة إلى زوجها الدبلوماسي العراقي ياسين عمر، التي ولدت عام 1908، وتخرجت في دار المعلمات البريطانية في بيروت عام 1933 وبعد عودتها إلى بغداد أنيطت بها مناصب تربوية عديدة في دورات إعداد المعلمات، فضلا عن كونها من الرعيل الذي بدأت على يديه النهضة النسائية العراقية وقتذاك.

واصلت دراستها في إسطنبول ومن ثم في إنجلترا وهناك حيث بدأت تمارس رحلتها الإبداعية في الرسم، وفي 1943 درست النقد في جامعة جورج واشنطن الأميركية، كما حصلت عام 1950على البكالوريوس في الرسم والنحت من كلية الكوركون، فضلا عن إقامتها معارض شخصية كثيرة في عدة دول عربية وعالمية، وبوصفها زوجة لدبلوماسي عراقي تنقلت معه في دول عديدة، وكانت زياراتها إلى بغداد بين الحين والآخر، لكنها متواصلة بمشاركاتها الفنية في المعارض الجماعية العراقية.

مديحة عمر أول تشكيلية حررت صورة الحرف العربي من قيوده المنهجية الصارمة وأطلقت له عنان حريته في لوحاتها
مديحة عمر أول تشكيلية حررت صورة الحرف العربي من قيوده المنهجية الصارمة وأطلقت له عنان حريته في لوحاتها

نظمت لها وزارة الثقافة والإعلام معرضا تكريميا شاملا على قاعة الرواق في بغداد عام 1981، كذلك أقامت معارض شخصية في بغداد كان آخرها عام 1988، حيث قدمت فيه أكثر من 136 لوحة من رصيد نتاجها منذ 1931.

وتعد مديحة عمر أول امرأة تشكيلية حررت صورة الحرف العربي من قيوده المنهجية الصارمة وأطلقت له عنان حريته في فضاء سطح لوحاتها منذ ثلاثينات القرن الماضي، فهي ليست خطاطة متمرسة أو “مجودة” حسب مصطلح الخطاطين المتخصصين، بل هي رسامة بدأت انطباعية في مسيرتها الفنية إلا أنها استطاعت بطقوسها البيئية وقراءاتها الثقافية أن تكشف وظيفة فنية اجتهادية في جمالية صور الحرف العربي ومحاولة تطويعه وفق رؤية تشكيلية معاصرة، وليست صورة قرائية أو تزويقية للوحة خطية خالصة. كانت لوحات قد ألبستها رداءً ذا نقشة تقترب من السيرياليزم.

سكون مفرداتها الحروفية يوحي للمتأمل بأنها تسبح في فلك فضاء مشاهدها ذات الألوان المتسمة بالعمق الروحي قبل أن تتميز بالغمق اللوني المتشرب بالألوان الإسلامية كالأزرق والأخضر والأسود.

تذكر مديحة عمر في دليل معرضها التكريمي بهذا الخصوص: “لطالما أعجبت في طفولتي بالخطوط العربية المتشابكة على أبواب المساجد المحيطة بالقباب والمآذن وسحرت بها.”

لقد فتحت مديحة عمر في استخدامها الحروفي الحر الآفاق الفنية والفكرية لمجموعة من جيلها من الفنانين الآخرين، نحو إمكانية توظيف جمالية الحرف العربي في المجال التشكيلي المعاصر، والاستفادة القصوى من أبعاده الفنية الهندسية التي تتمثل في “الأوت لاين” أو رشاقته لخصوصية تعبيرية تجعل منه رمزا دلاليا أو مكانيا أو إشارة فلكلورية زمنية، أي إعطاء الحرف شخصيتين: الشخصية البصرية/الشكلية/الفنية وبلاستيكيتها الانسيابية، والشخصية الصوتية المقروءة/الفونوتيكية التي نحتاجها أحيانا لفك طلسم ما.

ثاني هؤلاء النساء المؤثرات هي الفنانة الراحلة نزيهة سليم (1927 – 2008)، التي ولدت في تركيا من أبوين عراقيين، عندما كان والدها ضابطا هناك، أكملت دراستها الفنية في معهد الفنون الجميلة في بغداد بتفوق فأرسلت ببعثة إلى باريس وقد تخرجت في معهد الفنون العليا (البوزار) عام 1951، تخصصت بفن الجداريات وساهمت بمعارض جمعية أصدقاء الفن، شاركت في أكثر معارض جماعة بغداد بصفتها عضوا بارزا فيها، ساهمت في المعارض الجماعية داخل العراق وخارجه، وكانت عضو نقابة الفنانين وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين وعضو اتحاد التشكيليين العرب، وعضو الرابطة الدولية للفنون التشكيلية (إياب) التابعة لليونسكو.

درست فن الرسم في معهد وكلية الفنون الجميلة في بغداد وهي من أوائل الفنانات العراقيات المساهمات في الحركة التشكيلية حيث تأثرت بوالدها الذي كان رساما انطباعيا، ثم تأثرت بأخيها جواد سليم وفائق حسن، لتساعدها بعد ذلك دراستها على أيدي أساتذتها في باريس (سوفربي وفرناند ليجيه)، إلا أنها أظهرت فيما بعد علاقات انتماء خاصة بعالم النساء بشكل كبير، حيث بدأت تبحث عن مضامين وأفكار تعبيرية واقعية وظلت تأثيرات جواد سليم مهيمنة على سطح لوحاتها المتميزة بالنساء وطقوسهن الاجتماعية ووجوههن المعبرة الطافحة بالأحاسيس والمشاعر العاطفية.

وفي لوحتها الزيتية الشهيرة “بغداديات”، استلهمت نزيهة سليم عدة صور نسائية تعبيرية ذات ملامح مأساوية، وقد نظمت هذه الأجزاء وفق إنشاء ببعد أو منظور مرئي واحد لتتخلص من النمط الكلاسيكي ولتتصدر هذه الصور أهميتها الفكرية المترابطة، فهناك على اليسار أمّ تحتضن وليدها وهي في حالة تأمل وقد يكون أملا لانتظار عودة الزوج الغائب، بينما أعلى اللوحة صبية تتجمل أمام امرأة يدوية للقاء حبيب أو فارس أحلامها.

إلا أن تحت اللوحة امرأة ذات ملامح حزينة وقد اتشحت ملابسها بالسواد ويبدو أنها زوجة شهيد من خلال الخوذة العسكرية المتضررة أثناء الحرب والتي وضعت بقرب نخلة عراقية شامخة، فهي إذا لوحة تعبيرية فيها الزمان (الحرب) والزمن المعنوي، الماضي (الشهيد) والحاضر (الانتظار) والمستقبل (العرس) أما المكان فهو الوطن العراق الذي تقبع فيه حمامة تشاطر بسلام هذه التعبيرات النسائية.

والرسامة الثالثة هي الفنانة وداد مكي عبدالرحمن الأورفلي، التي ولدت عام 1929 في بغداد، وانتقلت إلى بعقوبة وهي طفلة، بحكم انتقال والدها كرئيس محاكم، تعلمت القراءة والكتابة وقراءة القرآن على يد الملاية صالحة، وهي في عمر أربع سنوات، فضلا عن جلب والدها معلمة لها في البيت لتدريسها، إلى أن دخلت الابتدائية.

pp

منذ صغر سنها، عشقت فن الموسيقى، حيث كانت تدندن ما تسمعه من الراديو من موسيقى وأغان، وكل ما هو شرقي وغربي في آن واحد، لتواصل بعدها تعلم الموسيقى أكاديميا على يد أستاذها بهجت وبدأت مواهبها تتفجر في عزف موسيقى الدانس.

في العام 1952، عُيّنت معلمة في مدرسة الكرخ النموذجية. وفي عام 1956، واصلت دراستها في كلية الملكة عالية بالصف الرابع قسم الخدمة الاجتماعية.

وفي الكلية، كان المرسم الذي يشرف عليه الفنان الدكتور خالد الجادر، وكانت وقتها ترسم على إسطوانات، فجمعتها وقدمتها للأستاذ الجادر، فما كان من أستاذها إلا أن كسرها جميعها ورماها في سلة المهملات! وعادت يومها إلى البيت باكية، وقررت ألاّ تذهب بعدها إلى المرسم نهائيا، فما كان من والدها إلا أن حثها على الذهاب إلى أستاذها وتعتذر منه، لأنه أراد أن يكون لها الخير في كسر أسطواناتها!

وداد الأورفلي لها الفضل في إنشاء أول قاعة فنية خاصة حيث كانت منبرا في تعليم فن الرسم والموسيقى

وبالرغم من ثقل الأمر على نفسها، ذهبت واعتذرت للأستاذ الذي بادرها القول: أين أنت؟ دعاها إلى المرسم، وقال لها بالحرف الواحد: إذا كنتِ تريدين التقدم، اتبعي خطواتي والتزمي بما أقوله لك واتركي الرسم دون توجيه مني. وفعلا بدأت ترسم بإشرافه وتوجيهه على مدى سبع سنوات وكانت متأثرة جدا بألوانه.

وفي عام 1956، أقامت جمعية الفنانين العراقيين معرضا فنيا في النادي الأولمبي، وكانت من المشاركين فيه بلوحتين، كذلك شاركت في معرض الجمعية عام 1957 بلوحتين.

وهي في الكلية، التحقت بمعهد الفنون الجميلة/القسم المسائي، وتعرفت على الفنانة نزيهة سليم، وأصبحتا صديقتين حميمتين جدا، وأصبحت أيام فنانتنا الأورفلي مزدحمة بالعمل والدراسة، ففي الفترة الصباحية تقوم بالتدريس في مدرسة الثانوية الشرقية، وعند الساعة الثانية ظهرا تذهب إلى الدراسة بكلية الملكة عالية بالمرسم، وعند الخامسة عصراً تكون في المعهد!

ودرست سنتين على يد الفنان عطا صبري، ثم أكملت المراحل الأخيرة مع الفنان فائق حسن، فضلا عن مشاركاتها في جميع معارض معهد الفنون الجميلة ومعارض الكلية.

وهكذا كانت الفنانة الأورفلي ترسم تعبيراتها حتى بداية الثمانين من عمرها، لتنعطف نحو رسم المنمنمات، واستلهام الفلكلور البغدادي، وتتميز بعدها بهذا الأسلوب الرائع. كما لها الفضل الكبير بإنشاء أول قاعة فنية خاصة عام 1983، حيث كانت منبرا في تعليم فن الرسم والموسيقى وتنظيم الأمسيات الثقافية والفنية الشاملة.

وغير بعيد عن الرسم، يبرز اسمم ساجدة المشايخي التي قدمت ما بين فن الخزف، وهي المتخصصة فيه، وفن الرسم الزيتي، أعمال الخزف الدائري وجداريات الرليف وفق منظورها الفني والفكري، الذي استلهمته من البيئة البغدادية بتراثها وشناشيلها الفلكلورية، فضلا عن الجانب الجمالي التي تميزت بها الخزفيات بشكل عام.

كذلك الحال، ينسحب على أعمالها الزيتية، التي هي الأخرى تميزت بالطابع البغدادي الأصيل، حيث تناولت في أغلب أعمالها الخزفية والزيتية، والبعض من التقاليد النسائية في البيئة البغدادية القديمة، والتي لا تزال شاخصة حتى الآن.

po

وتميزت التجربتان بأسلوب النهج “الجوادي” نسبة إلى الفنان جواد سليم مؤسس هذا الأسلوب، الذي يعتمد على انسيابية الخط الخارجي والكتل المتوازنة في الأجساد والمساحات وإدخال بعض الرموز والإشارات الهندسية الفلكلورية، كالأهلة والمنائر والشناشيل والمربعات والدوائر والمثلثات والحروفيات.

المشايخي في تجاربها هذه أرادت أن تثبت حضورها الفني وإخلاصها وعشقها في كلا التجربتين، دون التفريط بإحداهما، لاسيما وأنها تنهل موضوعاتها من منبع واحد، ألا وهو التراث البغدادي الأصيل.

والفنانة إحدى المبدعات العراقيات البارزات التي لها حضورها وريادتها الفنية النسائية في الساحة التشكيلية في العراق، ولدت في بغداد وتخرجت في كلية الملكة عالية، بكالوريوس كلية الفنون الجميلة، وحازت جائزة الإبداع في فن الخزف من وزارة الثقافة عام 2003، فضلا عن الجوائز والشهادات التقديرية، من خلال مشاركاتها الفاعلة في معارض ومهرجانات داخل العراق وخارجه منذ عام 1980.

أقامت معرضها الأول على قاعة الرواق عام 1985، وآخر معارضها كان معرضا استعاديا لكامل تجربتها، أقيم على قاعة مركز الفنون عام 2020، وقد وافتها المنية عام 2024.

14