"جرح قديم".. دراما تناقش الشعوذة والتفكك الأسري

يأتي مسلسل "جرح قديم" ليسلط الضوء على العلاقات الأسرية في المجتمع المغربي والصراعات داخلها، مركزا على تقديم قراءات نفسية لسلوكيات الأفراد بناء على ماضيهم وتنشئتهم خلال الطفولة، تحت إدارة المخرج مراد الخودي الذي نجح في تثبيت اسمه كواحد من أكثر المخرجين المغاربة اهتماما بقضايا مجتمعه.
الرباط - تدور أحداث مسلسل “جرح قديم” حول طبيبة نفسية تدعى طام تعود إلى المغرب بعد سنوات من الغربة، حيث تقرر الانتقام من عائلتها التي حاولت قتل طفلة كشفت عن مشاريعهم المشبوهة ويعرض المسلسل حاليا ضمن السباق الرمضاني الحالي.
المسلسل من سيناريو مراد الخودي، وبطولة كل من نادية آيت، زهيرة صديق، عزيز داداس، عادل أبا تراب، ماجدولين الإدريسي، وراوية وآخرين.
يناقش سيناريو المسلسل واحدة من أخطر الظواهر التي يعاني منها المجتمع المغربي، وهي انتشار الشعوذة وربطها بجرائم اختطاف الأطفال، فحبكة “جرح قديم” ترتكز على هذه الظاهرة من خلال شبكة من الأحداث المتداخلة بين الشعوذة كوسيلة لتحقيق المصالح الشخصية، وبين العواقب النفسية و الاجتماعية التي تسببها، بينما يمكن للحسد والغيرة بين أفراد العائلة أن يتحول إلى سبب رئيسي للجرائم، كما حدث مع الطفلة زينب التي وضعتها عمتها لباتول وعمها هاشم في صندوق خشبي ورموها في جرف البحر، فالطفلة كانت ضحية لهذه المشاعر السلبية المتجذرة في الأقارب. كما يبرز العمل كيف أن بعض العائلات تعيش في دوامة من التنافس المرضي الذي قد يصل إلى حدود القتل، وهو ما يجسد أحد أوجه الصراعات الداخلية في المجتمع المغربي.
وتطرح بعض الحلقات قضية ارتباط الفتيات القاصرات كما في مشهد اكتشاف بلال ارتباط ابنته القاصر، وهو أمر شائع بين فتيات بعضهن لم يتجاوزن الصف السادس ابتدائي، وهو واقع لا يزال يفرض نفسه في العديد من الأوساط، لأن الوالدين يهملان هذه النقط ويتحججان بأنه بناتهن ما زلن في سن الطفولة، بينما في مشهد آخر نرى نموذجا للأب غير المسؤول الذي يزرع في أبنائه قيما منحرفة، إذ تصبح السرقة سلوكا متوارثا بدلا من أن يكون الأب قدوة حسنة، وهذه الظاهرة تكشف عن خلل أخلاقي داخل بعض الأسر التي تعاني من الفقر أو التفكك الأسري.
وتركز بعض المشاهد الأولى على الهوس المتزايد بعمليات التجميل، كما حصل مع شادية ابنة لباتول، التي تعرضت لتشوه في وجهها من كثرة عمليات التجميل، فخسرت زوجها ونفسها وحجزت في مصحة للأمراض النفسية، وهذه المشاهد تبين كيف أصبح الجمال الخارجي هاجسا يسيطر على الكثيرين ويدفعهم للخضوع لعمليات تجميل قد يكون لها عواقب وخيمة نفسيا واجتماعيا، وهذا الطرح يعكس تحولا ثقافيا داخل المجتمع المغربي إذ باتت الصورة الخارجية عاملا مؤثرا في تحديد قيمة الفرد.
وتشكل عودة طام إلى المغرب بعد سنوات الغربة نقطة تحول رئيسية في الأحداث، إذ تضع هدفا أساسيا أمامها وهو الانتقام من عائلتها التي حاولت قتل الطفلة التي كشفت مشاريعهم غير المشروعة، وهنا تتجسد فكرة العدالة المؤجلة والبحث عن الانتقام كوسيلة لاستعادة الحقوق، وهذا يخلق صراعا داخليا داخل الشخصية بين الواجب المهني كطبيبة نفسية والرغبة في الانتقام.
وتعتمد دراما “جرح قديم” على تحليل سوسيولوجي للتحولات الخطيرة في العادات والتقاليد المغربية، إذ تناقش حياة الطبقات الشعبية وما تواجهه من أزمات، مثل الفقر والتفكك الأسري والصراعات العائلية التي تتحول أحيانا إلى صراعات قاتلة، كما في حالة زينب التي كانت ضحية لحقد وغيرة أقاربها، ثم من خلال تناوله لقضية الشعوذة وربطها بجرائم اختطاف الأطفال، والاعتقاد الراسخ ببعض الخرافات، وكيف تستغل هذه الممارسات لتحقيق المصالح الشخصية، وخروج الأبناء عن سيطرة الآباء وهو في الحقيقة يعبر عن خلل في الوعي المجتمعي والتنشئة الأسرية.
ويستعمل المسلسل مشاهد سيكولوجية للشخصيات التي تعاني من اضطرابات داخلية نتيجة الضغوط الاجتماعية والبيئية المحيطة بها، فالغيرة والحسد في عائلة زينب يتحولان إلى دوافع عدوانية تدفع أفرادها إلى ارتكاب الجرائم، وهذا جانب نفسي معقد، كما يظهر تأثير الهوس بالمظهر الخارجي من خلال شخصية شادية التي دفعتها عمليات التجميل المفرطة إلى التشوه والانهيار النفسي والاجتماعي.
وتميز الكاستينغ و إعداد الممثل في مسلسل “جرح قديم” باختيار موفق لممثلين قدموا أداء تمثيليا رصينا ومحكما، لأن المشاهد لا يشعر أنهم يؤدون أدوارا فقط وإنما يعيشون الشخصيات بكل تفاصيلها، حينما برزت ماجدولين الإدريسي في دور حرية بتجسيد شخصية هشة و قوية في الوقت نفسه، بينما كان أداء الممثلة نادية آيت لدور زينب وهاجر كعنان في دور شادية طبيعيا يبين انسجاما تاما مع أدوارهما، وتألقت زهيرة صديق في دور لباتول بتقديم شخصية شريرة، وقدم عزيز داداس أداء متوازنا، فيما تميزت راوية بحضور قوي كأم وجدة بينما أظهرت سحر الصديقي ويسري مراكشي تناغما في تجسيد شخصياتهما، وأظهر عبدالعزيز وانزة أداء دقيقا ينسجم مع التوجه الواقعي للعمل كطبيب نفسي.
وأظهر المخرج مراد الخودي قدرة عالية على التحكم في إيقاع الأحداث وتنسيق تسلسلها، رغم أن الإيقاع الزمني كان بطيئا لكنه تجاوز الرتابة والملل من خلال الموسيقى التصورية التشويقية التي تعبر عن انتظار وقوع شيء ما، وبرع في توظيف تقنيات السرد البصري خاصة في الانتقال بين الماضي والحاضر عبر تقنية الفلاش باك في ما يخص مشاهد نجاة الطفلة زينب والفلاش فورورد (الاستباق) وكيف تحولت من زينب إلى طام، لجعل المشاهد يعيش اللحظة الدرامية بكل تفاصيلها دون الإخلال بتدفق السرد، وجاءت هذه المشاهد متناغمة من حيث الإضاءة وزوايا التصوير كلقطات مدينة الدار البيضاء وأزقتها، بينما لقطات الدموع القريبة جدا سواء في أعين حورية أو شادية أو طام فكانت موظفة بشكل جيد.
ومراد الخودي هو مخرج ومؤلف مغربي قدم العديد من الأعمال الفنية التي أثرت في الساحة الفنية المغربية والعربية، وعمل في مجال السينما والتلفزيون، وحقق نجاحا ملحوظا من خلال أفلامه ومسلسلاته التي تناولت مواضيع اجتماعية وإنسانية بأسلوب واقعي، ومن أبرز أعماله في التأليف نجد مسلسلات مثل “إلا ضاق الحال”، و”شوك الورد”، والتي قدم من خلالها قصصًا تجمع بين الدراما الاجتماعية والتشويق، كما قدم العديد من الأفلام السينمائية مثل “أبواب السماء”، “12 ساعة”، و”أيام الغدر”، التي تمحورت حول قضايا حياتية صعبة وتستعرض تأثيراتها على الشخصيات.
ونجح الخودي في تقديم عدد كبير من الأعمال الناجحة، التي جمع فيها بين الإخراج والتأليف مثل “2 وجوه”، “حياة خاصة”، و”هي”، إضافة إلى الأفلام التي أخرجها مثل “فورماطاج”، ويتميز أسلوبه الإخراجي بالتركيز على التفاصيل النفسية والاجتماعية للشخصيات، مما يتيح للمشاهدين التفاعل العاطفي مع أحداث العمل. ويعتبر واحدًا من الأسماء اللامعة في مجال الإخراج والتأليف في المغرب، حيث استطاع أن يثبت نفسه من خلال تقديم أعمال متنوعة تحاكي الواقع وتسبر أغوار القضايا الإنسانية والاجتماعية.