أسامة محمد أفضل من قدم ريف الساحل السوري بواقعية شديدة

"نجوم النهار" أحد أهم الأفلام السورية الممنوعة من العرض.
الاثنين 2025/03/10
لغة بصرية بديعة

لا يعرف الكثيرون المخرج السوري أسامة محمد رغم أنه أفضل من صور بيئة الريف السوري منذ أول أفلامه "نجوم النهار" الذي كان فاتحة لأفلام سارت على نهجه. هذا الفيلم الذي منع من العرض في صالات السينما السورية وهاجر صاحبه لمعارضته النظام السياسي السابق، لا يزال إلى اليوم واحدا من أهم الأعمال السينمائية السورية.

المجتمع البطريركي وسلطة الرجل الشرقي على الأنثى هما الثيمتان اللتان بنيت عليهما قصة فيلم “نجوم النهار” الذي أنتج عام 1988، تأليف وإخراج أسامة محمد، والذي منعه الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد من العرض الجماهيري في صالات السينما السورية لأسباب لا يعرفها إلا هو والدائرة القريبة منه آنذاك! رغم عرض الفيلم في معظم المهرجانات الدولية وحتى مهرجان دمشق السينمائي والحفاوة النقدية التي حظي بها.

وكان موضوع الفيلم المرجعية التي انطلقت منها لاحقا قصة معظم أفلام المخرج السوري الراحل عبداللطيف عبدالحميد -الذي أدى دور بطولة في فيلم “نجوم النهار” وكان مخرجا مساعدا لمحمد في الفيلم- وهي بيئة ريف الساحل السوري ولهجته. الدليل على ذلك أن فيلم عبدالحميد الروائي الطويل الأول “ليالي إبن آوى” الذي أنتج بعد “نجوم النهار” بعام سمح بعرضه جماهيريا ولاقى عبدالحميد دعم السلطات السورية والمؤسسة العامة للسينما وبقي كذلك حتى نهاية حياته عكس المخرج الموهوب أسامة محمد الذي كان من المغضوب عليهم من السلطة الحاكمة بسبب فيلمه الكبير هذا.

وزاد هذا الغضب ضد أسامة محمد بعد تأييده لثورة الشعب السوري عام 2011 ومغادرته البلاد لاحقا والاستقرار في فرنسا، وهو الذي سلط الضوء ذات يوم على فاشية النظام الحاكم في سوريا من خلال فيلمه الوثائقي القصير “خطوة خطوة” الصادر في عام 1987.

الفتاة المستضعفة

المجتمع البطريركي وسلطة الرجل الشرقي على الأنثى هما الثيمتان اللتان بنيت عليهما قصة فيلم "نجوم النهار"

يروي فيلم “نجوم النهار” قصة سناء (صباح السالم) التي يريد أهلها تزويجها لابن عمها الدكتور كريم الذي يقيم في ألمانيا وعاد إلى البلاد ليتزوج فتاة من قريته رغم حبه لامرأة ألمانية. لم يجد كريم أنسب من ابنة عمه الجميلة سناء لتكون زوجته الأمر الذي تجد فيه عائلتها فرصة ذهبية وخصوصا أخاها الأكبر خليل (عبداللطيف عبدالحميد) الذي يحب المال كثيرا فيعتبر صهره الجديد بمثابة الدجاجة التي ستبيض له ذهبا ويستطيع بفضله تحقيق حلمه وشراء الميكروباص وهو الموظف الفقير في شركة الهاتف، لكن هذا الزواج لن يتم ولن تجري رياح خليل كما تشتهي سفنه.

ليلة العرس -الذي حضره كل أهل القرية وحتى الفنان فؤاد غازي نفسه نجم تلك المرحلة من تاريخ سوريا والذي يكون أحد أقرباء العائلة في الفيلم وذلك بسبب ابنة عم سناء وأخت كريم العروس الأخرى التي أرادوا تزويجها لأخ سناء الصغير كاسر (زهير عبدالكريم) الشاب البسيط والساذج وضعيف السمع- تقرر أخت كريم الهروب مع سائق البوسطة الذي تحبه وعدم إتمام العرس، فتتخذ سناء موقفا وتصطف إلى جانب أخيها كاسر وتقرر أنها هي الأخرى لا تريد الزواج من ابن عمها فيتحول العرس إلى مهزلة، ورغم وساطة أفراد العائلة تصر سناء على موقفها الرافض للزواج من كريم كرامة لأخيها كاسر فيضطر كريم للعودة إلى ألمانيا وإكمال حياته مع المرأة التي يحبها، وتنتقل سناء إلى اللاذقية للعيش في بيت أخيها خليل.

هنا يبدأ مشوار سناء الحقيقي فتحب شابا يعمل معها في شركة التبغ إلا أن أخاها المتسلط خليل يرفضه لأنه فقير ويدفع أخاه كاسر إلى ضربه ويمنع تزويجها في النهاية من ابن عمها ضابط المخابرات الذي يقيم في دمشق والذي يغتصبها في أحد الحقول قبل الزواج، وليس هذا الاغتصاب الجسدي سوى اغتصاب لحياتها البريئة التي سلبت منها عنوة.

الأخ الأكبر

أسامة محمد ترك بصمة فنية لا تنسى في السينما السورية هو وأبناء جيله من المخرجين مثل عمر أميرلاي
أسامة محمد ترك بصمة فنية لا تنسى في السينما السورية هو وأبناء جيله من المخرجين مثل عمر أميرلاي

أدى المخرج السوري الراحل عبداللطيف عبدالحميد في فيلم “نجوم النهار” دور خليل، الأخ الأكبر المتسلط والجشع الذي يمارس سلطته على إخوته الصغار بلا رحمة وبإتقان كبير، هنا يجدر القول إن عبدالحميد لو استمر ممثلا ولم يتفرغ للإخراج فقط لكان لدينا كوميدي كبير مثل روبن وليامز بنسخته السورية.

كان خليل (عبدالحميد) يستغل سناء وكاسر ماديا ويقوم بصرف أموالهما التي يكسبانها، وفي مرفأ اللاذقية أثناء وداع ابن عمه كريم العائد إلى ألمانيا يعطي الأخير مبلغا من المال السوري المتبقي معه لابن عمه كاسر كي يحتفظ به فيقوم خليل بعد مغادرة كريم بالاعتداء على أخيه بالضرب وافتكاك أمواله عنوة، ويفعل الأمر نفسه مع أخته سناء التي أمن لها عملا في مصنع التبغ في اللاذقية، وكان يسألها عندما يأتي ليأخذها إلى المنزل بعد انتهاء الدوام “كم أعطوكي اليوم” ويأخذ نقودها.

تبرز أيضا زوجة خليل المتسلطة (مها الصالح) التي كانت تزعج بطلة الفيلم سناء كثيرا وتفتري عليها وتدعي أنها تضايقها، فيقوم خليل الزوج المطيع بضرب أخته، إرضاء لزوجته التي لا يستطيع أن يرفض لها طلبا.

يذكرنا ما حدث مع سناء أثناء إقامتها في منزل أخيها خليل بقصة الفيلم الفنلندي “فتاة مصنع الكبريت” للمخرج الكبير آكي كوريسماكي مع اختلاف الظروف وتشابه الاضطهاد للفتاة المسكينة من قبل ذويها.

لغة بصرية عالية

المخرج أسامة محمد قدم فيلمه بلغة بصرية بديعة مستخدما اللقطات البعيدة والتشكيل في الكادر، ومظهرا جمال الطبيعة في ريف الساحل السوري بكاميرا متأملة لتفاصيل المنازل الريفية العتيقة

قدم المخرج أسامة محمد فيلمه بلغة بصرية بديعة مستخدما اللقطات البعيدة والتشكيل في الكادر، ومظهرا جمال الطبيعة في ريف الساحل السوري بكاميرا متأملة لتفاصيل المنازل الريفية العتيقة التي أضفت جمالية خاصة على الفيلم.

افتتح الفيلم بلقطة عامة متوسطة لطفل عار ينزل من فتحة السقف ويحمل دجاجتين بيديه، واختتمه بخروج الطفل من الفتحة نفسها. كما استطاع إدارة الممثلين بحرفية عالية فأدى كل ممثل دوره ببراعة موصلا الحالة والانفعالات باحترافية لنكون أمام فيلم بديع قدم البيئة التي تحدث عنها بواقعية كبيرة وجميلة.

سيتكرر هذا الأمر لاحقا في فيلمه الروائي الثاني “صندوق الدنيا” الذي صدر عام 2002 وعرض في مهرجان كان السينمائي؛ حيث سيكون النقد أقصى لبيئة ريف الساحل السوري، البيئة التي عاش فيها المخرج طفولته وترعرع فيها، فهو من مواليد مدينة اللاذقية عام 1954، قبل أن ينتقل إلى دمشق ويقرر الاستقرار فيها بعد عودته من روسيا التي درس فيها الإخراج السينمائي.

وقد ترك أسامة محمد بصمة فنية لا تنسى في السينما السورية هو وأبناء جيله من المخرجين السينمائيين مثل محمد وملص وعمر أميرلاي.

15