لماذا يزعجنا كتاب أو فيلم أو لاعب معتزل في إعلان

لا تبالي الدول الراسخة، والنظم القوية المستندة إلى شرعية انتخابية وجماهيرية، بانتقادات في فيلم أو كتاب. كما تتجاهل سبابا يطلقه رئيس آخر. ولا تتنازل فتتشاجر مع مسؤول أو نجم محبوب، بتحريك مدفعيتها الإعلامية لاستهدافه. هيبة الأنظمة تحددها قوة الأعداء ونوع الخصومة وطبيعة المعارك. لكن ظهور لاعب الأهلي المعتزل محمد أبوتريكة، في أول 15 ثانية من إعلان مدته 165 ثانية، للترويج لمشروع ستاد جديد للنادي، تسبب في ما يشبه إعلان التعبئة العامة السابقة على خوض حرب، أو الناتجة عن وقوع نكسة مفاجئة تستدعي متطوعين. حالة هلع احتشدت لها فضائيات في واحدة من الحروب الإعلامية الخاسرة، من دون أن تتعلم الدرس، وتستفيد من التجربة.
ليست أول حرب إعلامية خاسرة، في مصر، ولا آخرها. ففي سبتمبر 2019 فاجأنا محمد علي، المقاول الشاب الهارب في إسبانيا، بهشاشة الإعلام المصري كله. من أول تسجيل غير مدفوع، لم يكلفه شيئا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحدث تسونامي تجاوزت موجاته الزلزالية حدود مصر إلى العالم العربي، في اندهاش من قدرة شخص لا يؤنسه إلا هاتف وعلبة سجائر، على هزيمة ترسانة إعلامية أنفقت عليها المليارات، وتخضع لإشراف أو رقابة أجهزة أمنية تسيطر أيضا على بقايا قنوات أرضية وفضائية حكومية، وفضائيات خاصة يملكها رجال المال المتحالفون مع كل الأنظمة.
◄ ذكاء عبدالناصر فوّت أزمة سيكون لها شهداء، وكسب محبة سهيل إدريس وعبدالصبور الذي لم يمدح الزعيم حيا، ثم رثاه بقصيدة "الحلم والأغنية.. مرثية لعبدالناصر"
لا أخوض في مسائل ذات أبعاد قضائية، فالأعصاب العارية تُكهْرب من يقترب، وأحيانا تصعق. لا شفاعة لغافل، ولا براءة لحَسَني النية. لا أعرف بالتحديد أيّ قضية متهم بها أبوتريكة أو غيره، وهل صدر ضده حكم قضائي محدد؟ ما أعرفه أن في السجون معتقلين قضوا فترات أكبر ممّا يحدده القانون للحبس الاحتياطي. ما أعرفه أن صديقي الشاعر أحمد سراج مقبوض عليه منذ 15 يناير 2025، لم يفعل إلا إجراء حوار في موقع إلكتروني مع زوجة تتضامن مع زوجها المعتقل لأنه رسم كاريكاتيرا. خرجت الزوجة بكفالة في القضية نفسها، ولا يزال الشاعر قيد التحقيق والاحتجاز. ما أعرفه أن حكما قضائيا نهائيا وصم حسني مبارك وولديه باللصوصية. عار يحرمه من حقوق منها ألا يشيّع في جنازة عسكرية، لكنه شيّع مكرَّما وليس لصّا.
نخوض معارك صغيرة تؤكد الهشاشة. يغيب ناشر في السجن بضع سنين؛ لأنه طبع كتابا مترجما تتيحه مواقع إلكترونية مجانا، كما تحوّل الكتاب إلى فيلم تعرضه نتفليكس، ولا يمكن منعه من هذا ولا ذاك. ونستقوي على ناشر طبع ألف نسخة أو بضعة آلاف يقرؤها مجانين لا يزالون يحبون الورق. أما مشاهدو الأفلام فهم بالملايين.
في عام 2016، استبدل مهرجان القاهرة السينمائي بفيلم «آخر أيام المدينة» فيلما ضعيفا فُرض على عجل، هابطا بالأمر المباشر على المسابقة الرسمية الدولية، عنوانه «البر الثاني»، من إنتاج وبطولة المقاول محمد علي الذي دخل دار الأوبرا لحضور عرض فيلمه، وسط حرس شداد أساؤوا التعامل مع الحضور. وبعد ثلاث سنوات، نوفمبر 2019، قالت ماجدة واصف رئيسة المهرجان لمجلة «الفيلم»، إن إحدى الجهات تدخلت لمنع عرض فيلم «آخر أيام المدينة»، «وكان رأيي في الفيلم أنه رائع.. ولكن هذه الجهة تدخلت ومنعت عرضه، نظرا لحساسية الموضوع الذي يناقشه، ورفضت هذه الجهة الإعلان عن سبب الرفض.”
لا يزال فيلم «آخر أيام المدينة» ممنوعا، بسبب هتاف «يسقط حكم العسكر» عام 2009 الذي تدور فيه الأحداث. يريدون أفلاما باهتة بلا نتوءات، لا تنتقد ولو لمرحلة سابقة إلا إذا كان النظام الحالي يعي أنه امتداد أو وارث لها.
الْتهاب الأعصاب وعري الأسلاك يلتقط ذبذبات من خارج الحدود أيضا. في أكتوبر 2017 افتعل الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي إياد مدني سخرية غليظة استهدفت عبدالفتاح السيسي. بثقل ظل قام مدني بممازحة الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي مناديا إياه بالسيسي. دعابة سقيمة ومفتعلة؛ لأن هذا اللبس لا يحدث إلا في القراءة؛ فتختلط على القارئ المغفل الياء بالباء، وهذا يستحيل في المخاطبة. حاول إياد مدني، بسذاجة، تمرير السخرية من السيسي، فخسر منصبه، لاعتبار ذلك مساسا بالكرامة الوطنية في مصر.
لم يُستنفر الشعب الأميركي لاتهام الرئيس السابق جو بايدن بالخرف. وقبله نالت سخريات نجوم هوليوود في حفل الأوسكار من دونالد ترامب، واتهمه روبرت دي نيرو بالغباء. سباب صريح أعجب قطاعا من الأميركيين. بعصبية، خاض ترامب في تويتر معركته وحده، ولم يملك ردًّا على ميريل ستريب إلا أنها ممثلة «مبالغ في تقديرها». وقبل بايدن وترامب وُصف باراك أوباما، في مؤتمر صحفي عام 2016، بأنه «ابن عاهرة»، على لسان رئيس الفلبين رودريجو دوتيرتي الذي هدد بتمريغه «في الوحل مثل خنزير». أوباما لم يكلّف محامي البيت الأبيض بمقاضاة دوتيرتي، والأميركان لم يبالوا برئيسهم، ثم فاجأهم الرئيس الفلبيني بأنهم شعب من «القردة الأغبياء». لم يرفعوا راية الشرف الأميركي الرفيع ويؤكدوا ضرورة أن «يُراق على جوانبه الدم». لم يهتموا، ولعل التجاهل أغاظ دوتيرتي.
◄ حكم قضائي نهائي وصم حسني مبارك وولديه باللصوصية. عار يحرمه من حقوق منها ألا يشيّع في جنازة عسكرية، لكنه شيّع مكرَّما وليس لصّا
في مصر واقعة دالة. بعد أزمة مارس 1954، انفرد جمال عبدالناصر بالسلطة، وتبدد حلم الديمقراطية، ونشر صلاح عبدالصبور قصيدة «عودة ذي الوجه الكئيب»، في مجلة الآداب البيروتية، يونيو 1954. ويتأكد للقارئ أن عبدالناصر هو المقصود بالهجاء وبالتشاؤم: “سيظل ذو الوجه الكئيب وأنفه ونيوبه../وخطاه تنقر في حوائطنا الخراب/إلا إذا…/إلا إذا مات/سيموت ذو الوجه الكئيب/سيموت مختنقا بما يلقيه من عفن على وجه السماء/في ذلك اليوم الحبيب/ومدينتي معقودة الزنار مبصرة سترقص في الضياء/في موت ذي الوجه الكئيب.”
بمصادرة العدد رأى رئيس التحرير سهيل إدريس أن أغلبية قرائه في مصر، ولا يعقل أن يضحّي بهم، فقرر لقاء عبدالناصر. رأى في مكتبه كومة من عدد المجلة. قال عبدالناصر: انسَ المجلة، سوف توزّع في الأسواق كالعادة، ولكنني أريد الإجابة عن سؤال محدد: هل تعتقد، يا أستاذ سهيل، أن جمال عبدالناصر ذو الوجه الكئيب؟ اطمأن الكاتب/الناشر، وأخجله السؤال اللائم، وربما اللئيم، فقال: أنت تعرف خيال الشعراء، ولم أفهم أن عبدالصبور يقصدك. وتبادلا ابتسامات تعني أن كليهما يعرف مغزى قصيدة لا تحتاج إلى تأويل.
ذكاء عبدالناصر فوّت أزمة سيكون لها شهداء، وكسب محبة سهيل إدريس وعبدالصبور الذي لم يمدح الزعيم حيا، ثم رثاه بقصيدة «الحلم والأغنية.. مرثية لعبدالناصر»: “هل مات من وهب الحياة حياته/حقا أمات؟ ماذا سنفعل بعده؟ ماذا سنفعل دونه؟ حقا أمات؟ تتجمع الكلمات حول اسم سرى كالنبض في شريانهم عشرين عاما/كان الملاذ لهم من الليل البهيم/وكان تعويذ السقيم… وكان مفتاح المدينة للفقير، يذوده حرس المدينة.”
أن نحظى برئيس يقرأ فهذا مصدر فرح، وربما سبب للألم؛ لأنه يصعب خداعه.