خبرة العين وخيال العين دارين أحمد ترسم الطبيعة بخيال يديها

منذ عقود لم يعد الرسامون العرب يلتفتون إلى الطبيعة مصدرا للإلهام البصري. هناك فكرة مشوشة تقف وراء ذلك العزوف. إما لأنهم اعتقدوا أن الطبيعة صارت حكرا على الرسم التجاري أو لأنهم كانوا يشعرون بالإحباط وهم يخشون ألا تصل محاولاتهم إلى مستوى ما أنجزه الانطباعيون وبالأخص كلود مونيه في الرسوم التي صور فيها الزهور المائية.
حتى في التجريد فقد الرسام العربي طريقه إلى ذلك التأثير النضر والمنعش الذي تمارسه الطبيعية بصريا وعاطفيا، بحيث ينشدّ إليها حسيا من غير أن يكون مضطرا لرسمها. يكتفي بإيقاعها كما لو أنه ينصت إلى موسيقاها. لقد أقفل التجريديون العرب مراسمهم إما على التجريد البارد أو الرسم الحركي وهما لا يستحضران الطبيعة.
لذلك شدتني تجربة الرسامة السورية دارين أحمد.
لا ترسم دارين (1979) مشاهد استثنائية. طبيعة تحيط بنا بل يمكننا بيسر أن نستحضر صورتها في غيابها. تعيد الرسامة صناعة المشهد كما لو أنها تتخيله. المفردات جاهزة ولكن طريقة رسم تلك المفردات ليست كل شيء وإن كانت جزءا من الوصفة الشخصية. هناك علاقات شكلية تقيمها الفنانة بين مفرداتها تفتح الأفق أمام خيال نضر، مفتون بمادته التي يعيد تشكيلها مثلما يشاء. فكرة دارين عن الرسم تقوم على أساس تعلم السر الذي ينطوي عليه سحر الطبيعة. سحرتها الطبيعة لذلك فإنها تسعى إلى أن تُسحر الطبيعة بما لا يُرى منها. ذلك هو الرسم. لا كما تعلمته بل كما يمليه عليه خيالها بعد أن بعدت المسافة ما بينها وبين الدرس الأكاديمي الذي لم يعد نافعا.
ترسم الرسامة المقيمة في برلين منذ عام 2012 المشهد الطبيعي باعتباره اكتشافا شخصيا. الرسامون التعبيريون وقبلهم فنسنت فان غوخ سبقوها إلى تلك اللحظة. وهي لحظة قطيعة بصرية متصلة بالشعر. إذا لن تكون الصورة جاهزة. ذلك هو التحدي الذي تواجهه دارين كلما رغبت في الرسم وهو حدث تفاعلي أكثر من كونه ممارسة ترفيهية. كلما رأيت واحدة من لوحات الفنانة شعرت بأن هذه المرأة تحاول أن تقبض على الجوهر الخفي الذي يتحكم بمستوى كثافة العاطفة التي ينطوي عليها المشهد المرسوم.
لا أقصد أن رسوم دارين عاطفية. فهي ليست كذلك مطلقا. يمكن أن تُلحق بالتعبيرية الرمزية. ذلك ينصفها أكثر. رسامة لا تأمل أن تتيح لها الطبيعة فرصة للهروب من سحرها بقدر ما تسعى إلى التقاط عنصر جمالي واحد يكون في ما بعد العمود الفقري الذي تبني عليه صورة الطبيعة كما تتخيلها.
الطبيعة بالنسبة إلى هذه الرسامة لا تقتصر على مكانها بل تتجاوز ذلك إلى الزمان الذي يقع فيه الانفعال. لحظة الانفعال بفتنة الطبيعة ضرورية ليكون الجمال حاضرا. وللجمال أدواته المستلهمة من الإيقاع. إيقاع جسد الرسامة وإيقاع المؤثر الشعري الذي تنطوي عليه لحظة الإلهام البصري.
لا يهم إن كانت دارين أحمد ترسم وهي تقف مباشرة أمام الطبيعة أو أنها تستحضرها عن بعد. في الحالين فإنها تتبع إلهام يديها المدربتين على اقتناص فرائسهما الجمالية. هل يعني هذا أن خيال اليد حل محل المتعة البصرية؟
بالنسبة إلى رسامة تقاوم إغراءات الرسم السهل لا مسافة تفصل بين العين واليد ولا خلاف بينهما. لقد اكتسبت يدها خبرة كانت عينها قد سبقتها إليها. سأقول مجازا إن تلك الخبرة تسللت من خلال الدم.
في النهاية يشعر المرء أن تلك الرسامة ترسم بأعصابها المتشنجة مشاهد مسترخية وهادئة يعمّها السلام. لا يكفيها أن تقول “ذلك ما رأيته” أو “ذلك ما تخيلت أنني رأيته”. ذلك لأنها مسكونة بوعد من الطبيعة بأن يكون كل شيء أجمل.


