مآلات النّسوية وإنجازاتها بين الإثبات والمحو

تواجه النسوية محاولات كثيرة لتصنيفها أو تحديد معالمها، دون الأخذ بعين الاعتبار تنوعها، ولعل هذه المحاولات تستبطن بالأساس نزعة ذكورية لرسم حدود محسومة للنسوية، التي تعاني بدورها حتى في عناصرها من خطابات لا تعي بشكل شامل معنى النسوية وتختصرها في طلب المساواة مع الرجل. فما هي النسوية؟ وما هي وظيفتها وغاياتها؟
النسوية كلمة غير قابلة لتعريف محدد، فهي لامتناهية حين ينظر إليها بمنظار حياتي خارج نصي، وهي لانهائية حين توجه إليها مهام إنسانية ما بعد نوعية، وهي لا تخصصية حين يتوقع منها أداء أغراض وتحقيق غايات فوق اعتيادية لتكون النسوية هي السياسة والاجتماع، وهي اللغة والتاريخ، وهي الفلسفة والدين، وهي الجنس والنفس، وهي الميثولوجيا والأنثروبولوجيا.
وبهذا التنوع المعرفي والاتساع الوظيفي والتعدد التكويني يغدو أيّ تعريف للنسوية غير شامل ولا ملمّ بكل حيثياتها مهما حاول ذلك التعريف أن يقولبها كمياً في أكثر من حد من الحدود، أو يموضعها نوعياً في أكثر من صورة من الصور. ويبدو أن هذا اللاتناهي الذي عليه النسوية هو الذي يجعلها غير قابلة للاحتواء ولا التلاشي معا.
إيهام المرأة بخصوصيتها
هذا التصور الرحب والامتدادي للنسوية هو الذي يجعلها عمومية في تعاريفها وتوصيفاتها وبروتوكلات تمأسسها وإستراتيجيات عملها؛ فهي بؤرة لا قرار لها مثلما هي قمة لا انتهاء لامتدادها. وبسبب هذا كله تصبح النسوية خطيرة ومخيفة بالنسبة إلى الآخر الذي هو في عموميته يرى أن في وجود عمومية أخرى مثله إعاقةً وتهديداً. ولذلك سعى عبر العصور إلى شطب النسوية لا باحتوائها، فذلك غير ممكن، وإنما بالاستحواذ عليها نظاماً وكياناً؛ وإيهامها أنها ليست مثل الذكورية؛ فهي أدنى وأضعف؛ وأن من المفيد لوجودها أن تنصهر في النظام الذكوري وتسير على وفق مواضعاته التي تعترف بالنسوية مجرد خصوصية جنسانية ليس لها أن تقيم نظامها بنفسها إلا بالاتكال على نظام أرسخ منها هو النظام الذكوري.
وبالفعل ظلت النسوية محجّمة الفعل والتوصيف حتى عهد قريب، فلا ينظر إليها سوى حركة سياسية أو تنظيم اجتماعي أو تجمع حزبي أو حقوقي له مطالب محددة أو كتيار فكري جنساني وبيداغوجي يسعى إلى تأكيد حضور ما أو توطيد مسارات وتوجهات تكسبه تأييداً يؤهله لأن يتخصص في ميدان من الميادين البحثية؛ إلى آخر ذلك من المحددات والتحديدات التي هي في تخصصيّتها تحرف الحقيقة النسوية وتعيق إمكانياتها وتغيّب ماهيتها وأهمية أدوارها الفاعلة والإنجازية.
وليس في السعي إلى جعل النسوية كالذكورية أيّ غرابة لاسيما إذا وضعنا في اعتبارنا أن علاقة الإنسان بالكون هي منذ بدء الخليقة علاقة تبادلية فيها مارس الإنسان – رجلا وامرأة – العمومية في شكل طورين حياتيين هما طور الإله وطور العبد: الطور الأول شفاهي ما قبل تاريخي، فيه مارست المرأة عموميتها النسوية كإلهة هي أم كبرى لها بنات ربيبات أو مساعدات، ومارس الرجل عموميته كإله هو ابن للإلهة الأم وربيب لبناتها ومساعد لهن.
الطور الثاني تدويني، ومعه ابتدأ التاريخ البشري الذي فيه مارس الرجل عموميته الذكورية كإله تسيَّد فرداً بعد أن استحوذ على النسوية التي تخلت عن عموميتها أمّاً إلهة ومالكة كبرى فصار عليها أن تمارس أموميتها وعبوديتها معا لذكر هو إله سيد وأب مالك ينظر إليها بوصفها جنساً ثانياً وتالياً ليس له سوى أفعال مخصوصة إنتاجاً وعطاءً.
ومنذ فجر التاريخ وإلى اليوم يحجِّم النظام الذكوري النسوية فتتقوقع صورة المرأة كتابع مملوك ليس له من شأن إلا شأن ظاهري كماهية وأداء.
ولا جرم أن يكون السبب في لجوء الذكورية إلى إيهام المرأة بخصوصيتها هو توكيد فردانية الرجل التي هي عمومية واعتبار هذه العمومية أمراً فرضته الطبيعة البشرية فلا مساواة بين الرجل والمرأة، كما لا تناظر بين الذكورية نظاماً بطريركيا، والنسوية كيانا تابعا عليه أن يتطبَّع بهذا النظام. وأن هذا التطبع هو جزء من التكيف الاجتماعي الذي هو بالأساس ميدان طبيعي يدخل في إطار “الفيزياء الاجتماعية”.
وقد تطوّر هذا التصور وتعقد أكثر مع نمو الحضارات البشرية التي فيها صارت إنسانية الإنسان تتنافس مع بعضها بعضاً. وكانت نتيجة هذا التنافس أن صارت في كيفيات التعامل مع الطبيعة الكونية للذكورية الأولوية والعمومية بينما حُكم على النسوية في هذا التعامل أن تكون ثانوية. وصارت الحاجة ماسة إلى وجود صيغ ثقافية أو نماذج صورية جاهزة أو مثالية في التكيف الاجتماعي مع التغيير البيئي للنظام الطبيعي يحددها الذكور، لأن لهم وحدهم السيادة. وما على الإناث سوى اتّباع هذه الصيغ التي بها تترتب مواضعات التفاعل مع البناء الاجتماعي بتعميمات وأسبقيات معروفة.
التاريخ الرجالي
وفقا للنظرية الجينالوجية وتفسيرات اللاوعي الجمعي اليونغي تكون هذه الأساطير محفورة في الذاكرة بشكل جمعي لا إرادي ومتوارثة جيلاً بعد جيل. وهذا من حسن حظ النسوية، فهي إن لم يتح لها أن تصحح التاريخ المدون الذي طمس عموميتها؛ فإنها بالفعل الذاكراتي اللاواعي تحتفظ بأهمية دورها في بناء الحضارة وإنشاء المدن بعيداً عن أيّ طمس أو تشويه.
وارتباط المرأة بالطبيعة قديم وتقليدي لصلته الوثيقة بجسدها، وهو يعكس حدسها اللاشعوري بأنها جزء من هذه الطبيعة، بيد أن الأدبيات الذكورية حولت هذا الخيال في ارتباط المرأة بالطبيعة إلى ما هو عكسي، فاعتبرت المرأة هي المشوهة للطبيعة، وأن بينها وبين تدمير الطبيعة علاقة طردية، خذ مثلا دور المرأة في ملحمة الإلياذة التي رسمت علاقة تواطؤ سلبية ما بين الطبيعة والمرأة ضد الرجل أو جعلت تراجيديا الوجود متحققة في المرأة التي تكمن محنتها في الطبيعة المؤدية إلى انهيارها بعواقب الحمل وتغذية النسل تمتص لبنها حتى تجف. وفي أسطورتي باندورا وأنتيجون تكون المرأة هي رمز الغواية والانتقام وجلب اللعنة للوجود.
لقد ظلت المرأة على طول التاريخ البشري منصهرة في مجموع لا يمثلها؛ وإنما يمثل الرجل بكل ما له من مركزية ومميزات خاصة وفردية، ولهذا تناسى التاريخ توثيق الكثير من إنجازات المرأة وعطاءاتها التي ظلت في الأغلب مغيبة وهامشية أو مدونة لكنها غير محسوبة لصالحها لاندراجها في إطار ذاك التميز الذكوري.
وهكذا لم يصل إلينا من التاريخ النسوي سوى نزر يسير، وفي هذا النزر الكثير من التزييف والتشويه والتحريف ليكون التاريخ العام والرسمي تاريخاً رجالياً بامتياز. وليس أدلَّ على ذلك ندرة وجود امرأة مؤرخة أو امرأة لها تاريخ خاص بها تماما كالفلسفة التي يندر أن نجد فيها فيلسوفة اُعترف بفلسفتها وأُشّر فيها على تميزها.
وبهذه المركزية الذكورية غدت المرأة مكونا مخصوصا وهامشيا داخل منظومة الآخر العمومية التي تظل ماسكة العصا من الوسط، فهي من جانب تعترف بالنسوية كحركة أو موجة أو تيار، لكنها من جانب آخر تمارس بشكل خفي وغير ظاهر العمومية التي بها تحاصر مشاريع المرأة، ضامنة بذلك مركزيتها بدعوى أمرين: الأول: أن الفهم الأبوي للكيان الإنساني وطبيعته البشرية يجعل المرأة منضوية في النظام الذكوري أصلا. الثاني: أن الخصوصية الجنوسية تجعل النسوية كيانا تابعا لنظام أرسخ وأقوى هو النظام الذكوري المالك للعمومية.
وبهذا التصور لن يُنظر إلى النسوية وفي أيّ حقل من الحقول العلمية أو أيّ جانب من جوانب المعرفة إلا في الحدود التي تحجِّم عملها. وإذا صادف أن تحررت النسوية من هذا التحجيم فعندها ستتهم منهجيا ووظيفيا بالفوضى والتشتت، ويُحكم عليها بعدم الأهلية واللاتوازنية. من هنا عملت جاياترى سبيفاك وجوديت بتلر وهيلين سيسو وغيرهن على مطالبة الرجال بأن يتحروا اليقظة عند التنظير للنسوية، أما المرأة فعليها أن تتوخى الحذر لأن النساء لن يحتملن قيام الرجال دائما بالحديث نيابة عنهن.
وتتجلى لنا خطورة النظر إلى النسوية كخصوصية تتمظهر في صورة حركة جنوسية أو تيار ثقافي أو منظومة فكرية، لا يتجاوز عملها التعبير عن أنثوية المرأة، كما تتضح لنا أيضا أهمية النظر إلى هذه الأنثوية كهوية فردية هي جزء من مجموع، فيه المرأة الواحدة مستقلة وإن انضوت داخل منظومة توصف بأنها نسوية عمومية. بعكس ما اعتادته الأدبيات النسوية في النظر إلى المرأة كذات هي جزء من كيان أنثوي متفرد، يرى نفسه ذا خصوصية وهو ينفصل عن نظام ذكوري تفرَّد وحده بالعمومية.
بمعنى أن هذه الأدبيات داومت على اعتبار انضمام المرأة إلى نسوية تمثل كيانها جنوسيا وتعبر عن تطلعاتها فكريا وثقافيا وتقاسمها تراجيديا الواقع المعيش؛ لا يمنع من أن تُمحى خصوصيتها وخصوصية النسوية في عمومية النظام الذكوري.
ولن تتخلص المرأة والنسوية من هذا المحو؛ إلا إذا تمتعت منظومتهما بالعمومية بالمعنى الذي فيه تستطيع المرأة أن تعبِّر عن تفردها وخصوصية حالها بوصفها ذاتاً مؤنثةً لا تشبهها ذات غيرها، داخل مجموع نسوي هو غير مستقل عنها، بل متماه بكليته في خصوصية انفرادها الذي فيه المرأة قطب داخل جماعة تؤلفها أقطاب مثلها، لكن كل قطب هو كيان قائم بحاله وبما يحفظ للمرأة خصوصياتها ويجعل النسوية عمومية في نظامها الذي لا يختلف عن النظام الذكوري.
وبهذا الشكل تتضح أهمية أن تكون للنسوية حواضنها الفكرية وعليها تؤسس منظومتها الثقافية وفيها تستودع مختلف صور تاريخها وبأشكال إجرائية ونماذج تطبيقية ذات معالم واضحة وغايات بينة ودلالات ظاهرة.
شمولية النسوية
ما من مبالغة إذا قلنا إن النسوية في أهدافها وتطلعاتها هي أوسع من أن تكون مجرد دعوة إلى المساواة بين المرأة والرجل، مما سعت إلى تحقيقه النسوية الفرنسية والنسوية الأنجلوأميركية.
وبافتراضات التساوي تقيدت المشاريع النسوية في الغرب كجوهر تقليدي لا تطلّع فيه إلى ما هو أشمل، لتتأطر في نظرية من نظريات المعرفة أو تتحدد بمسمّى من مسميات النسوية. وكأن النسوية لن تؤكد انفصالها وتمتعها بالاستقلال من دون مساواة المرأة بالرجل كما أن أيّ بحث عن بدائل جديدة أو تفاصيل مستحدثة وفرعية يظل قابعا في الصياغات الأحادية الناجمة عن التخصصية.
◄ عقل المرأة ليس بأقل من عقل الرجل وهي ليست محتاجة إلى أن تتساوى معه لأنها في الأساس مثلها مثله
بيد أن الذي نراه هو أن عقل المرأة ليس بأقل من عقل الرجل، ومن ثم هي ليست محتاجة إلى أن تتساوى معه لأنها في الأساس مثلها مثله وشأنها هو شأنه. ولرُبّ مثال لا مناص للمتمثِل به من أن يظل متطلعا للتساوي معه إلى ما لا نهاية، وقد يستمر النظر إلى هذا المثال هدفا مهما تنوعت وسائل التساوي معه ظاهريا وداخليا. وكثيرة هي الأدبيات الذكورية التي عززت هذه الاتباعية بدءا من أرسطو الذي رأى المرأة أقل عقلانية من الرجل ومرورا بالميراث الديكارتي كله.
إن الأهمية هي في أن تكون النسوية في تطلعاتها وبرامجها أوسع من التموضع في حركة أو تيار، وأعمق من أن تختص بالمساواة، وأشمل من أن تقتصر على التماثل والتمثل.
وبهذا النظر الكلياني لا تتقوقع النسوية في نظرية أو موجة أو مرحلة أو محطة توصف بأنها أدبية أو سياسية أو ما بعدية، كما لن تنحصر في الأيديولوجيا أو الجمال أو الأخلاق أو الفلسفة. ومن دون ذلك تظل النسوية موسومة نظريا وعمليا بالانفصال عن نسويات سبقتها، منتقدة ما قبلها أو متطلعة إلى أن تسود على غيرها، وهو مما يصب في صالح عمومية الذكورية.
بعبارة أدق نقول إن النسوية هي كليّة أنثويّة، أما القول بالأحادية والانفصال فمجرد تهويم؛ لن تتعدى معه النسوية منطقة نقد الذات.