شهر السباق نحو التفاهة

اليوم، فعليا، أصبح المال يشتري كل شيء، مؤثرات يشترين متابعين فيصبحن نجمات المجتمعات، وممثلون يقدمون مسلسلات ويعرضون جوائز فيحققون الترند.
الأربعاء 2025/03/05
الركض وراء الترند

شهر رمضان شهر روحاني، ينتظره المسلمون كل عام، تزداد فيه ممارساتهم لشعائرهم الدينية، يقبلون على فريضة الصوم ويسارعون إلى المزيد من الصلوات وقراءة القرآن والصدقات، ويرفهون عن أنفسهم ببعض المسلسلات ليلا، هكذا كان حال الشعوب العربية المسلمة خلال العقود الماضية، تجدهم يفطرون على مشاهد “الكاميرا الخفية” التي تجمع العائلة وتضحك أفرادها تزامنا مع الدقائق الأولى التي تلي آذان المغرب، ثم ينصرفون للصلاة ويعودون ليجتمعوا مجددا لمشاهدة مسلسل السهرة.

سلوكيات يمارسها الأغلبية خلال العقود الماضية، وبعضهم يرفض متابعة الأعمال الفنية، بل يخصص الشهر للعبادة ثم يشاهد المسلسلات في حلقات الإعادة التي كانت تقدمها قنوات التلفزيون.

الغريب، أن المشهد الأكثر انتشارا الآن هو مشاهدة المسلسلات طوال اليوم، ليل نهار، فعددها كثير والدعاية لها ولأبطالها ذهبت بعقول الكثيرين.

في السابق، كانت المسلسلات تعد على أصابع اليد الواحدة، كذلك قنوات التلفزيون، لذلك يخصص الفرد وقتا معلوما لمتابعة الأعمال الفنية والانصراف إلى حياته، اليوم حتى إعلانات العقارات والمنتجات الاستهلاكية تأخذ حيزا كبيرا من زمن العرض التلفزيوني وتتفنن في جذب نجوم ومشاهير للتسويق، وأغلبها أصبح يروج لمنتجه بأغان واستعراضات.

المثير للانتباه أيضا أن عددا كبيرا من المسلسلات يبدو فارغا، ضعيفا، لا يقدم محتوى جيدا، أو رسالة تحترم الشهر الروحاني الذي تعرض فيه، فأغلب الأعمال الدرامية تأتي قصصا خيالية عن استعراض العضلات والقوة الجسدية والقصص الغرامية المبالغ فيها التي يصر أغلب الممثلون النجوم على تقديمها كل عام ليرسخوا صورتهم كرجال ونساء لم تنجب الأرض مثلهم.

هذا العام لم يكتف هؤلاء بالركض وراء الترند وخوض المنافسة بمسلسلات صيغت على قياس كل واحد منهم على حدة، إنما أصبحت هناك مسابقات تقول للمشاهد “تعالى شاهد العمل وأجب عن السؤال في صفحاتنا على مواقع التواصل كي تربح جائزة مالية قيمة.”

لقد علق الكاتب عمرو محمود ياسين ابن الممثل الراحل محمود ياسين على الموضوع  مستغربا وقال “أنا كده مش عارف أنافس الصراحة… بس لما بفكر كده، زمان المسلسلات كانت بتنجح من غير كل ده… حد فيكم خد عربية لما شاف سوق العصر؟ أو كسب دهب لما تابع ليالي الحلمية؟ النجاح الحقيقي بييجي من الحكاية الحلوة اللي تفضل مع الناس.. ده اللي أفهمه ولا الدنيا اتغيرت”. فكر في الأمر أنت الآخر.

غير بعيد عن عالم المسلسلات، تظهر “الفاشنيستات” اللواتي حولن رمضان إلى شهر استهلاكي واستعراضي، تتابعهن النساء ويتعلمن منهن كيف يستعرضن ملابسهن التقليدية التي اشتريت خصيصا لسهرات رمضان. أي تفاهة أكثر من هذه يمكن أن نصل إليها؟

هؤلاء اللواتي يتجولن من محل إلى آخر ويصوّرن آراءهن في الملبس والمأكل أصبحن اليوم يقدن حملات الدعاية والتسويق، وبعضهن دخل مجال التمثيل، فصرنا نرى الممثلين الكبار يجلسون عاطلين عن العمل بين المؤثرات على السوشيال ميديا بطلات في الدراما الرمضانية.

يحضرني قول المفكر الكبير آلان دونو في كتابه الشهير “نظام التفاهة” حين كتب “مواقع التواصل.. نجحت في ‘ترميز التافهين’.. هو أمر يُسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية حتى اختزلها في المال فقط، فلم يُبقِ إلا عليه وحده معيارا.. من يُنكر الآن أن المشاهير والفاشنيستات قد حققوا ‘النجاح’ فعلا، وفقا لمعيار المال، وهو المعيار الوحيد الذي وضعه مجتمعنا نصب أعين شبابه؟”.

اليوم، فعليا، أصبح المال يشتري كل شيء، مؤثرات يشترين متابعين فيصبحن نجمات المجتمعات، وممثلون يقدمون مسلسلات ويعرضون جوائز فيحققون الترند ويصبحون “نمبر وان”، وبعضهم إن غاب عن السباق الرمضاني تسابق على توزيع الأموال على الناس، وحولهم إلى عقول مهووسة بجوائزهم وتنتظره أن يمطرهم بها.

كل هذا يحصل وتتغاضى السلطات عليه، المهم أن لا يلتفت المواطن الصائم والذي تزداد عصبيته جراء الصيام إلى ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وأن لا ينتبه للتفاهة والانحرافات السلوكية التي أصابته وأصابت المجتمع، وكأن دواليب الدول تسير وراء تسليع كل شيء، وتتفيه كل البشر، كل حسب نقطة ضعفه، لقد اكتسحت التفاهة العالم من حولنا ويبدو أن شهر رمضان أصبح هو الآخر شهر السباق نحو التفاهة.

18