التفاتة الجزائريين اللازمة إلى التنمية

يواصل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون حملة الإشراف على دخول عدد من محطات تحلية مياه البحر حيز التنفيذ، في خطوة جادة من السلطة للتكفل بالانشغالات الأساسية للجزائريين، في ظل موجة الجفاف التي تجتاح البلاد والمنطقة عموما، وهو تحدّ حقيقي يضعها على سكة ربح واحد من الرهانات الكبرى.
ويبدو أن استثمارا محدودا لم يتعد الثلاثة مليارات دولار، لا يمثل شيئا أمام الأريحية المالية التي تعيشها الخزينة العمومية، لكن صداها يكون قويا لدى السكان الذين يودّعون أزمة العطش والبحث المضني عن المياه عشية شهر رمضان، ويخفف عن الحكومة شحنة من الغضب الاجتماعي الذي يؤرقها في مختلف القطاعات.
ويبقى تقديم خدمة عمومية أو انجاز منفعة للسكان أبلغ رسالة للداخل والخارج من أكوام الخطب السياسية والحملات الدعائية، حيث بإمكان الرسالة الناعمة أن تؤدي مفعولا إيجابيا بهدوء وصمت، بدل الضجيج على منابر السياسة والدبلوماسية والإعلام الذي يلفه الخطأ والتلاعب، فتكون انعكاساته خارج الأمنيات تماما.
الماء هو نفط المستقبل، والاستشراف هو طوق نجاة الحكومات والمجتمعات، ولذلك فإن الجزائر الواقعة في منطقة تعد أولى ضحايا الجفاف والتغيرات المناخية، مطالبة بالتركيز على مستقبل الأجيال القادمة وتأمين مصادرها ومواردها المائية
في هذا الشأن، حدثني في أحد اللقاءات مؤسس ورمز صحيفة “العرب” الراحل الحاج أحمد الصالحين الهوني بأن “إعلانا مدفوعا في صحيفة لطلب خدمة أو استثمار معين، أفضل بكثير من عشرات المقالات الدعائية، لأن مفعوله سيكون هادئا يوصل رسالته بسلاسة، فالمؤسسات وعالم الأعمال هو فاعل أساسي في رسم أيّ صورة اقتصادية، والإعلان هو أحسن دليل على أن البلد أو الجهة تتحرك اقتصاديا.”
وهذا ما تحتاجه الجزائر في الظرف الراهن، فتحقيق النتائج الملموسة التي يستفيد منها الجزائريون وتزيد في رفاهيتهم، هي الرد المناسب والكافي لإسكات كل المتحاملين والمغرضين، الذين يريدونها “رجلا مريضا” في المنطقة، لا هو يلفظ أنفاسه الأخيرة، لأن موته هو كارثة تحل على الجميع، ولا هو يشفى من أسقامه لأن نهضته ستنهي أدوارهم ونفوذهم.
لا يختلف اثنان على أن جهات لا تنام ولا تستفيق إلا على ما يحدث في الجزائر، وكأن في العالم لا يوجد إلا هي، لينقلب هوسهم المرضي عليهم لأن حملاتهم أثبتت حالة توهان تعيشها نخب سياسية وإعلامية، لكن ذلك لا يغني الجزائر عن ضرورة إخراج الذكاء الذي فيها لإجهاض كل ذلك، بالوسائل والآليات الهادئة والمؤثرة، وعلى رأسها تحقيق انتظارات الجزائريين المتراكمة في مختلف المجالات.
لا يمكن مقارنة بلد بحجم قارة وبكثافة سكانية تقارب الخمسين مليون نسمة، مع آخر لا يتعدى حدود ولاية من ولاياتها، وسكانها مجتمعون لا يتعدون منتسبي طور من الأطوار التعليمية في الجزائر، وهذا ما يشكل عبئا ثقيلا يستدعي تسخير وتعبئة كل الإمكانيات المتاحة للنهوض بالحياة الكريمة للجزائريين.
أن تنير قرية في أقصى الجنوب وعلى بعد 2000 كلم عن العاصمة، بالكهرباء أو وصلها بالغاز، أو تزويدها بمرفق عمومي في التعليم أو الصحة أو البنى التحتية، ليس بالأمر الهين لأنه يضاهي تغطية بلد برمّته بأيّ من تلك الخدمات، ومع ذلك يبقى واجبا على عاتق السلطة لأنه حق من حقوق المواطن في عائدات ثرواته، وأن يحصل عليه في شكل خدمة تحسّن حياته اليومية، أفضل بكثير من أن يحصل عليه في شكل ريع ومعه أطنان الخطب السياسية والشعبوية.
لا شيء بإمكانه إطفاء شعلة الغضب الاجتماعي، وتقليص الفجوة المتمدّدة بين الشارع والسلطة، إلا بنزول حكامه إلى الميدان، وتأكيد الاهتمام بانشغالاته عبر المشروعات الخدمية، التي قد تبدو بسيطة في عين الآمر بالصرف، لكنها ستكون كبيرة في نظر المواطنين الذين يهمهم الماء والشغل والسكن والمدرسة والمصحة والطريق، قبل الاهتمامات الأخرى.
التنمية الشاملة هي وجه من أوجه السياسة الناعمة، التي تحقق نتائجها بأخفّ الأضرار وتوصل رسائلها بسلاسة إلى الداخل والخارج، كما للأصدقاء والخصوم
الكثير من التجارب الدولية والإقليمية، التي بدا أنها انكفأت على نفسها لعقود، وتراجعت عن الساحة الدولية، ليكتشف العالم لاحقا أنها قوى ناشئة لها كلمتها وقوتها المستمدة من جبهتها ووعائها الداخلي، وليس من أيّ قوة أخرى، والسبب أنها كانت متفرغة لشأنها الداخلي ولتنميتها ولمواطنيها، لأن قناعتها راسخة في كون قوة الخارج هي امتداد لقوة الداخل، وأيّ قول غير ذلك مجرد مناورة سرعان ما تنكشف أمام العالم.
وفي المقابل هناك أيضا تجارب اهتمت بالمنجز الخارجي وبالمصالح الكبرى المعقدة، لا يهمها إلا صناعة صورة وهمية، سرعان ما سقطت أمام الاختبارات الجادة، فخسرت بذلك الخارج والداخل معا، فلا هي حققت طموحاتها المضخمة ولا هي ربحت ثقة شعبها.
الجزائر بجغرافيتها مترامية الأطراف وبكثافتها السكانية المعتبرة في المنطقة، وبثرواتها المؤقتة، مطالبة بتلبية انتظارات مواطنيها والاهتمام بالشأن التنموي الداخلي، واستغلال فرصة العائدات الريعية في تحقيق النهضة المنشودة، لأن ذلك هو الكفيل بصناعة جدارها الواقي ومجدها المأمول، بدل تضييع الفرص في المناكفات والسجالات غير المجدية.
والتنمية الشاملة هي وجه من أوجه السياسة الناعمة، التي تحقق نتائجها بأخفّ الأضرار وتوصل رسائلها بسلاسة إلى الداخل والخارج، كما للأصدقاء والخصوم، فالآلة الصامتة تخرج منتوجها دون إثارة للانتباه، بينما الآلة الصاخبة عادة ما تلفت اهتمام العيون والآذان.
الماء هو نفط المستقبل، والاستشراف هو طوق نجاة الحكومات والمجتمعات، ولذلك فإن الجزائر الواقعة في منطقة تعد أولى ضحايا الجفاف والتغيرات المناخية، مطالبة بالتركيز على مستقبل الأجيال القادمة وتأمين مصادرها ومواردها المائية، سواء كانت من البحر أو من المطر أو من الجوف، وفوق ذلك هو ربح رهان التكنولوجيا اللازمة والكفاءة البشرية المؤهلة، فعامل الوقت هو الثروة الأولى، وإنجاز خمس محطات للتحلية في ظرف عامين هو تحد في حد ذاته، بعدما كان الإنجاز يستغرق عشر سنوات.