"فتاة وبحيرتان" رواية تكشف أخطار تسوّل الحب ونداء للاكتفاء بمحبة النفس

أماني القصاص تقدم عملا مفعما بالصراعات النفسية وقابلا للتأويلات.
الاثنين 2025/02/24
بسبب الأم قد تفسد حياة الأبناء (لوحة للفنانة سارة شمة)

قد يكون أقرب الناس إليك سببا في جراحك النفسية التي يصعب شفاؤها، من هؤلاء مثلا الأم، التي قد يكون دورها سلبيا في تربية أطفالها بطرق غير سليمة ما يسبب لهم مشاكل نفسية معقدة يصعب إصلاحها مع الزمن، هذا الموضوع النفسي الشائك تتطرق إليه الكاتبة المصرية أماني القصاص في روايتها الأولى بجرأة.

القاهرة- بعض الأعمال الأدبية لو كان ممكنا أن ندعو كل أم إلى قراءتها قبل الشروع في الإنجاب وتربية الأبناء لكان ذلك مفيدًا، لعلها تدرك عندئذ كيف يمكن لكلمة قاسية أو تعبير جارح أو توبيخ مهين أن يهدم كيان إنسان، فيتحول مسار حياته بالكامل ليغدو بحثًا ضاريًا عن المحبة والحنان فيضل مسعاه ويشقى، يتعثر ويدمى، حتى يدرك الحقيقة، ويعود إلى ذاته.

من بين هذه الأعمال رواية “فتاة وبحيرتان” للكاتبة المصرية أماني القصاص الصادرة حديثا في القاهرة عن دار ريشة للنشر والتوزيع، وتمثل العمل الأدبي الأول لكاتبته، لذا فقد جاء بمنزلة جرعة شعورية مكثفة، عامرة بالصدق والبراءة، دون خلو من المشاكل المعروفة في أي عمل أول.

بين مصر وسويسرا

تدور أحداث الرواية حول حياة أستاذة جامعية مصرية تعمل في جنيف بسويسرا، تعاني الاكتئاب والقلق، وتروي لطبيبتها النفسية رحلة حياتها، منذ طفولتها في قريتها الساحلية الصغيرة، الواقعة على آخر نقطة في خريطة الدلتا بمصر على شاطئ البحر المتوسط، حتى وصولها إلى جنيف وبلوغها سن الأربعين، دون أن يغيب عنها الألم.

تقارن البطلة بين الحياتين، والبحيرتين اللتين شهدتهما في رحلتها؛ الأولى في قريتها، والثانية جوار بيتها في سويسرا بلا سقوط في فخ الثيمات المعلبة، بتفضيل أي منهما على الأخرى بشكل حاسم؛ عبر ترجيح كفة الحداثة السويسرية والنزوع إلى النوستالجيا ومشاعر الحنين إلى القرية المصرية.

يبدو اتساع الرؤية لتشمل جماليات هنا وهناك معًا، سويسرا ومصر، أمرًا براقًا، يثري الشخصية ويدعمها، فلماذا الاكتئاب والقلق إذًا؟

تأتي الإجابة على لسان البطلة، الراوية، عندما تتحدث عن نفسها وعن زوجها العراقي الذي يكبرها بثلاثين عامًا، وكان مسؤولًا في زمن حكم الرئيس الراحل صدام حسين، إلا أنه فقد دوره وبريقه بسقوط النظام.

أساس الحكاية أن الزوج ظل مخلصًا لنظام حكم سابق يرى في قائده البطولة، ويؤكد تآمر العالم ضده لاعتزازه بنفسه وبلده، دون اعتراف بأي خطأ، لذا فقد سقط الزوج في براثن الاكتئاب بسبب زوال البريق، وراح ينفث سمومه في زوجته، البطلة، التي هي في عمر أبنائه من زوجاته السابقات.

وهذه البطلة أيضًا سجنت نفسها في حياتها السابقة، التي لم تجد فيها حبًّا أو حنانًا من جانب أمها وأشقائها بالرغم من أنها بحكم كونها الابنة الكبرى أجزلت لهم العطاء وبذلت التضحيات بعد رحيل الأب، ثم راحت تبحث عن أب جديد في ثوب زوج، فلم تجد أيًّا منهما، إنما وجدت ذاتها أسيرة في سجن المرض النفسي، دون أن تعرف السبب.

تبدأ البطلة استعادة رحلة حياتها بالكامل مع طبيبتها النفسية إليزابيث، وتتذكر قائلة “تذكرت كيف واجهتُ أيامي بشراع حرير مفرود، ووثقت بأحلامي لنفسي ولغيري، لكن الحمل الثقيل عليَّ هلهل شراعي، والتف الخيط الحرير حول عنقي فقطع رأسي، فعشتُ قتيلة حية، أعمل وأعطي، لكن لا أشعر بشيء. عيوني مفتوحة، لكنها لا تراني. قلبي ينبض، لكنه لا يحس بي ولا يصرخ من الألم.”

هنا كان الخطأ. الاستمرار في العطاء الدائم من جانب واحد، رغم جمود وجحود الكل، كأنه تعذيب للذات، كأنها محاولة لإثبات شيء ما لأحد، فما هو الشيء ومن الشخص المراد الإثبات له؟

يعرف قارئ رواية “فتاة وبحيرتان” شيئا فشيئا عبر الأحداث تفاصيل كل ما جرى في الماضي، وامتد أثره إلى الحاضر فدمر حياة البطلة، التي تطالبها طبيبتها النفسية بأن تكتب خطابات إلى من تريد، بأي كلمات تريد، لتخرج ما بداخلها من مشاعر مكبوتة مختزنة، فتبدأ البطلة التي نعرف اسمها متأخرًا في الرواية، “نداء”، بالكتابة إلى والدتها.

لا تجد البطلة تفسيرًا مفهومًا لهذا السلوك وغيره الكثير من جانب أمها، وعندما تنظر إلى السبب الذي دفعها إلى قضاء سنوات عمرها تتسول الحب والاحتواء لا تجد غير الأم سببًا في هذا الخواء الذي أخذ من قلبها وروحها إحساس الاستقرار والأمان، فقد كانت دومًا الابنة المتهمة في نظر أمها، والهدف الثابت لسهام غضبها وانفعالها وهلاوسها.

لم تبرأ البطلة مما جرى لها، ومهما نجحت في حياتها أو سمعت كلمات الإطراء، لا يزال بداخلها صوت أمها يؤكد لها أنها منبوذة، مرفوضة، عالة على الدنيا، ولا تليق بها السعادة.

وتقول “سافرت، نجحت، ربحت، تفوقت، أحببتُ مرات دون أي تحقق، تزوجت، لكنني ما زلت مبتورة دون جذور، لم أفرح من قلبي الجريح بقيمة أي شيء، ولم أر قيمتي تتحقق في أي شيء.”

صوت الأم والنجاة

لا يبدو هذا غريبا في نظرنا، ولا يمكن اعتبار سلوك شخصية الأم في الرواية ينطوي على قدر من المبالغة، فقد أخبرنا الطب النفسي عن مثل هذا، إذ تكون ردود أفعال الإنسان الغريبة في علاقاته بأقرب الناس إليه أحيانا رد فعل على ما جرى له هو في الماضي من جانب شخصيات أخرى، أو حتى في الحاضر.

فالأم في الرواية كانت تعاني إهمال زوجها، وتشعر بدونيتها لقلة مستوى تعليمها، وكأنما أرادت إفراغ شحنات غضبها الكامنة في شخصية أخرى هي الابنة، تحت شعار التربية، مع التفريق في المعاملة بين الأبناء لصالح الذكور، كأنما تكره في الأساس كونها امرأة.

وتدرك البطلة نداء شيئا فشيئا سر أزمتها، وتتصالح مع أقدارها، فتتوقف عن لعب دور المنقذ المضحي لأجل الآخرين، فهؤلاء لا يمكن لهم أن يتغيروا، أو يقابلوا التضحيات بمثلها، إنما هم يستمرئون الأمور ويتمادون في الاستغلال، كأنهم يطالبون بحقوق مكتسبة، لذلك ترى البطلة أخيرًا أن دور المنقذ هو الوجه الآخر لدور الضحية، وأن أحدًا لم يظلمها، إنما هي مَن ظلمت نفسها، لأنها لم تحب ذاتها.

وتسأل طبيبتها بيأس “ما الحل؟” فتجيبها بأن الحل هو أن تسألي نفسك بصدق عما ينقصكِ، ويرضيكِ، وكيف تعطين نفسكِ ما تحتاج إليه. الحل هو أن تستمتعي بصحبة نفسك، أن تخرجي من بيتك لتناول القهوة المنعشة بانفتاح وتفاؤل، واستمتاع بصحبتك لنفسك. هل تحتاجين الحب؟ فلتعطِ الحب الكبير والتقبل لنفسكِ، اسمحي لها بالألم وتعاطفي معها كما لم يفعل أحد من قبل، قدري مشاعرها وتحدثي معها بصدق وتشجيع وود.

وتستمع البطلة إلى صوت شجرة ارتكنت إليها. شعرت بأن جوف الشجرة يحدثها، ينصحها، يحتويها بحنان الأم المفقود، ويدعمها بقوة الأب الغائب.

تنطلق البطلة نداء بالفعل في طريقها الجديد، تطلق نداءَ محبة الذات، ترى فيها قارب النجاة، تنتظر الغد بقلب مفتوح وعيون متفائلة، تضع يمناها فوق قلبها، تتنفس بعمق، وتخاطب نفسها بحب “كل ما مرَّ من ألم كان فقط ممرًا للنور.”

رسمت الكاتبة أماني القصاص ملامح لوحة دقيقة لدهاليز النفس البشرية العامرة بالألم والمفعمة بالأسئلة الباحثة عن السعادة، فجاءت روايتها الأولى “فتاة وبحيرتان” دفقة شعورية صادقة، وضربة فرشاة أولى مدروسة بعناية في لوحة مسيرة أدبية نرجو أن تتواصل وتكتمل، ما يغفر مشاكل العمل الأول لدى أي أديب، من حيث الإطالة في بعض المواضع بالتفاصيل التي كان يمكن الاستغناء عنها، أو التدقيق اللغوي الواجب الاهتمام به مستقبلا، لكن العمل رغم ذلك يبقى عميقًا وملهمًا.

ولذلك يحق للقارئ أن يفسر ويؤول كما يحب، فقد صارت الرواية ملكا لقارئها وذائقته، فنتساءل هنا عن شخصية الأم القاسية على أبنائها، أيمكن أن تسري على الأوطان أيضًا؟ أيكون الحل لأجل النجاة فرديًّا بمحبة الذات والإخلاص لها لعل ذلك يصب يومًا في مصلحة الوطن؟

يحق لنا أن نتساءل، ونستعيد هنا من الرواية موقف لوم الزوج العراقي المرتبط بنظام دكتاتوري سابق لشاب سوري بسيط قابله في سويسرا فقال له “خربتم بلادكم لتأتوا هنا تخدمون الغرب وتنظفون خلف حيواناتهم بكل ذل ومهانة؟”

ويأتي رد الشاب ليؤكد أن من خربوا بلادنا يعيشون ملوكًا بها وخارجها، ونحن نكافح في بلادنا وخارجها، لكن الطغاة يجلبون الغزاة سواء لدينا أم لديكم، والحمد لله أننا وجدنا بلدًا أكثر رحمة بنا من بلداننا، منحنا الحياة بكرامة وإنسانية، حتى لو نظفنا بها فضلات البهائم. هكذا جاء رد الشاب بكل ألم، ما يفتح الباب بحرية أمام قارئ الرواية للتأويل السياسي، فضلًا عن مسألة صراعات النفس البشرية والآثار الممتدة للتربية.  

12