عبدالقادر بن معروف.. قاض أسقطته الشيخوخة أم منحة البطالة

التقاعد النخبوي بين مبدأ التداول وتصفية الحسابات السياسية.
الأحد 2025/02/23
أشرف على تقرير طعن في أكبر الخيارات الاجتماعية لبرنامج تبون الانتخابي

كان بالإمكان أن يمر قرار إحالة رئيس مجلس المحاسبة الجزائري عبدالقادر بن معروف مرور الكرام ويقتنع الجميع بشماعة التقاعد، بما أن الرجل يعتبر واحدا من المسؤولين المسنين في مؤسسات الدولة، لكن تزامنه مع التقرير الصادم الذي أصدره المجلس حول سياسة التشغيل ومنحة البطالة، فتح المجال أمام التأويلات وإثارة فرضية الإبعاد المتعمد، على اعتبار أن الرجل الذي يشغل المنصب منذ العام 2016، انتقد وصفة اجتماعية راهن عليها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لتمرير أجندته السياسية واستمالة الشارع الجزائري.

تضمن عدد متأخر من الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية قرارا مفاجئا مفاده إحالة القاضي عبدالقادر بن معروف (80 عاما) على التقاعد، بعد عقود طويلة في الخدمة العمومية، أبرزها رئاسة المجلس الأعلى للمحاسبة، وهو هيئة حكومية دستورية تضطلع بضبط الحسابات الحكومية التي استشرى فيها الفساد المالي والسياسي، لدرجة الحديث عن تبديد 1500 مليار دولار خلال العقدين اللذين قضاهما الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة في قصر المرادية.

◄ الرئيس تبون لا يريد السير بقطار السلطة بعربات لا تنسجم مع القاطرة الأولى، ولذلك قرر الاستغناء عن بن معروف تحت ذريعة التقاعد

ويبقى التقاعد واحدا من المشاجب الجاهزة لتعليق قرارات إنهاء المهام في إطار التوازنات المتجددة داخل مؤسسات الدولة، رغم المطالب الثابتة بضرورة تجديد الكادر البشري لضخ دماء جديدة في أوصال الأجهزة الحكومية، لكن غواية الكرسي والنفوذ والمزايا جعلت الجيل القديم يرفض مبدأ التداول الذي يتم في الغالب تحت طائلة الموت أو الإبعاد القسري.

جاء قرار إحالة رئيس مجلس المحاسبة على التقاعد في سياق رغبة خافتة داخل السلطة من أجل التخلص من الجيل القديم باسم التقاعد، فقد طال قرار سابق واحدا من أقوى رجالات المؤسسة العسكرية الجزائرية المخضرمين، ويتعلق الأمر بأكبر عسكري، وصاحب أول أعلى رتبة في الجيش الجزائري، الفريق أول بن علي بن علي (85 عاما)، وبعده قررت المحكمة الدستورية (أعلى هيئة قضائية في البلاد)، عدم التجديد لرئيس مجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان) من أجل المرور إلى ولاية ثانية على رأس الهيئة، ويتعلق الأمر بالمخضرم صالح قوجيل (95 عاما).

موسم سقوط الوجوه المخضرمة

◄ مجلس المحاسبة الذي أثار الكثير من الجدل
مجلس المحاسبة الذي أثار الكثير من الجدل

لكن صوت التجديد والتداول بين الأجيال في المؤسسات الحكومية في الجزائر يبقى بعيدا عن التقليد الراسخ، في ظل السياقات المتعددة المرافقة لرحيل أيّ من المسؤولين المخضرمين، فرئيس مجلس المحاسبة ارتبط بتقرير الهيئة حول سياسة التشغيل ومنحة البطالة، وقائد سلاح الحرس الجمهوري تم الاستغناء عنه في ظل أحاديث عن تجاذبات داخل قيادة المؤسسة العسكرية، أما رئيس مجلس الأمة فإن منصبه كرجل ثان في الدولة يؤهله لشغل منصب رئيس الجمهورية في حالة الشغور، حسب التصنيف الدستوري، ما يحتم على السلطة ترتيب الأوراق بشكل مرن في أسوأ السيناريوهات.

وبالمنظور الموازي، يبدو أن الرئيس تبون لا يريد السير بقطار السلطة بعربات لا تنسجم مع القاطرة الأولى، ولذلك قرر الاستغناء عن بن معروف تحت ذريعة التقاعد، وهو الذي حرص على تفعيل مهام وصلاحيات مجلس المحاسبة من أجل كبح جماح الفساد المستشري، وكان رئيسه عبدالقادر بن معروف، يمثل عقلا منظرا لإخضاع المال العام للتدقيق والضبط، لكن انتقاده لأبرز الخيارات الاجتماعية للرئيس وهو منحة البطالة، جعل التضحية به قرارا استباقيا لكل من يفكر خارج منظومة السلطة.

تقرير الهيئة جاء صادما ومفاجئا للسلطة وللشارع الجزائري، بسبب ما تضمنه من معطيات عن سياسة التشغيل ومنحة البطالة، كون نتائجها لم تحقق الأهداف المنشودة، فبقدر ما كشفت واقع البطالة، بقدر ما عجزت عن تحقيق أهدافها الاقتصادية، وهي مؤشرات تتنافى مع خطاب السلطة، الذي لا يريد سماع أصوات تتحدث عن فشل خياراتها الاجتماعية والاقتصادية.

وكشف التقرير عن تسجيل نحو أربعة ملايين طالب للحصول على المنحة بين (2022 و2024)، بينما استفاد منها نحو مليوني مستفيد، مما كلف الخزينة العمومية 3.3 مليار دولار، لكن نسبة الإدماج في مناصب شغل قدرت بـ0.31 في المئة، وكان نصيب المتخرجين في الجامعة 21 في المئة، 15 في المئة لخريجي مراكز التكوين المهني، و64 في المئة دون مستوى دراسي، وعادت الحصة الكبرى (72 في المئة للإناث) والبقية للذكور، كما سجل قرابة أربعة ملايين طالب شغل، لم يتم تشغيل إلا 374 ألفا منهم، وهو ما يمثل حوالي 7 في المئة.

تقرير صادم فاجأ السلطة

◄ بن معروف وجه خارجي للنظام
بن معروف وجه خارجي للنظام

قال التقرير “من ضمن مليون و900 ألف مستفيد من منحة البطالة، لم يتم تشغيل إلا نحو ستة آلاف، وهو ما يمثل 0.31 في المئة، وهي نسبة منخفضة جدا تشير إلى وجود خلل في النظام المطبق، فضلا على ضعف نسبة توظيف المستفيدين في وظائف تتوافق مع مؤهلاتهم، وهو ما يعكس بوضوح وجود مشكلة كبيرة في فاعلية برامج التوجيه، مما يتطلب إعادة تقييم هذه البرامج وتطويرها لتحسين فرص توظيف الشباب العاطلين“.

وأضاف “إلى جانب الأرقام المعلنة حول نوعية وجنس المستفيدين وتكوينهم العلمي أو المهني، هناك أكثر من 14 ألف مستفيد لا يستحقون الاستفادة منها، ولم يتم استرجاع إلا 60 في المئة من المبالغ التي أخذوها، وهذا يعكس أيضا ضعف الرقابة على عملية توزيع المنح، مما يعزز الحاجة إلى تحسين آليات المراقبة“.

وخلص التقرير إلى ضرورة مراجعة برامج التشغيل ومنحة البطالة، فالأرقام الواردة في تقرير مجلس المحاسبة تشير إلى وجود ثغرات كبيرة في فاعلية برامج منحة البطالة والتوظيف، مما يتطلب مراجعة شاملة لهذه البرامج، ويتوجب على السلطات المعنية اتخاذ إجراءات لتحسين فاعلية جهاز التشغيل، من خلال تحديث آليات التوجيه، وتوسيع فرص التدريب والتوظيف، وزيادة الرقابة على توزيع المنح، ووضع معايير واضحة لتقييم الأداء، بهدف ضمان تحقيق أهداف الدولة في توفير فرص العمل وتحسين الوضع الاقتصادي للشباب العاطلين.

ويعد هذا التقرير وثيقة نادرة تصدر عن مؤسسة رسمية خلال السنوات الأخيرة، وهي أول صوت يدق أجراس الإنذار حول فشل الخطة الحكومة للتشغيل ولمنحة البطالة، التي يثني عليها الخطاب الرسمي في حفظ كرامة البطال الجزائري وإرساء قواعد الاستقرار الاجتماعي، حيث لم يتطرق إلى المسألة لا المجتمع المدني ولا الطبقة السياسية ولا البرلمان ولا الإعلام، قبل أن يفاجئهم المجلس الأعلى للمحاسبة.

◄ انتقاده لأبرز الخيارات الاجتماعية للرئيس تبون، وهو منحة البطالة، جعل التضحية به قرارا استباقيا لكل من يفكر خارج منظومة السلطة

لمجلس المحاسبة سيرة متذبذبة منذ نشأته العام 1976 بموجب بند دستوري، فقد كانت فاعليته في الرقابة البعدية على المال العام متباينة من حقبة إلى أخرى، وأبرزها أنه أقر في مطلع ثمانينات القرن الماضي، باختلاس بوتفليقة وقتها، لمبلغ مالي قدر بنحو 60 مليون دولار، عبارة عن مدخرات في حسابات السفارات والقنصليات الجزائرية لمّا كان يشغل منصب وزير الخارجية، قبل أن يعيد الرجل جزءا من المبلغ إلى الخزينة العمومية.

وكانت عودة بوتفليقة إلى قصر المرادية في 1999، إيذانا بإفراغ الهيئة من محتواها وتهميشها في أداء مهامها التقليدية، لدرجة أنه لم يكن يعرف رئيسه المحال على التقاعد مؤخرا عبدالقادر بن معروف، الذي اعترف لوسائل الإعلام المحلية، بأن هيئته لم تقدم أيّ تقرير سنوي طيلة العقدين اللذين قضاهما بوتفليقة في هرم السلطة.

ويبدو أن السياقات تشابهت على مجلس المحاسبة بين الرئيسين بوتفليقة وتبون، فالأول أراد بتهميشه إعادة الاعتبار لنفسه من تهمة الاختلاس التي وجهها له أثناء خروجه من السلطة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين في 1978، والثاني وجد في ذريعة التقاعد حجة لإبعاد الرجل الذي أشرف على تقرير طعن في أكبر الخيارات الاجتماعية لبرنامجه الانتخابي.

ويبدو التقاطع بين تبون وبن معروف حول تفعيل مهام وآليات عمل الهيئة، من أجل كبح جماح الفساد، قد انتهى في منحة البطالة، فقد سبق للقاضي المحال على التقاعد أن أكد على أن التحولات السياسية والاقتصادية التي تعرفها البلاد كباقي دول العالم فرضت إصلاحا وتغييرا جذريا لتسيير الميزانية، مما يستدعي إعادة النظر وتحيين منظومة المحاسبة.

ولفت في تصريح له، بأن “إصلاح النظام المحاسباتي الحالي من شأنه الانتقال من محاسبة على أساس الصندوق إلى محاسبة على أساس الاستحقاق، لتصبح المحاسبة العمومية تشكل أداة للمعلومات والتسيير والرقابة، وأن المحاسبة العمومية من خلال هذا المشروع سوف تسمح بإعداد حسابات نظامية وصادقة وتقديم قوائم مالية، تعكس الحالة الحقيقية للممتلكات والوضعية المالية وكذا النتائج النهائية“.

منحة البطالة تنهي التقاطع

◄ شخصية مؤثرة داخل السلطة
شخصية مؤثرة داخل السلطة

نقل عن بن معروف أن مجلس المحاسبة نشر تقاريره السنوية مرتين فقط، وذلك في عهد الرئيس الأسبق اليمين زروال، أما في عهد بوتفليقة فلم يتم نشر أيّ تقرير سنوي، رغم أن المهمة الأساسية لهذه المؤسسة هي “تشجيع الاستخدام المنتظم والفعال للموارد المادية والأموال العامة ، لتعزيز المساءلة والشفافية في المالية العامة والمساهمة في تعزيز منع ومكافحة مختلف أشكال الاحتيال والممارسات غير القانونية“.

وشدد في تصريح له للإذاعة الحكومية، أنه من حق المجلس محاسبة كل شخص استعمل المال العام، حيث كشف عن تحويل عشرة تقارير خلال العام 2018 خاصة بالوقائع ذات الطابع الجزائي على العدالة، وأن المجلس يقوم سنويا بحوالي 1000 عملية رقابة لكل مؤسسة على أساس الوثائق، حيث يقوم بتسجيل عدد من المحاسبين المدانين للخزينة العامة كل سنة، كما يحصي في نفس الوقت وبشكل سنوي كذلك الملايين من الدنانير التي يتم استرجاعها وهو ما اعتبره بن معروف نوعا من الرقابة المشددة.

ومجلس المحاسبة هو هيئة دستورية مستقلة تتمثل مهمتها الرئيسية في الرقابة على المالية العامة وضمان الاستخدام القانوني والفعال للموارد والأموال العمومية، ويعمل المجلس على تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المالية العامة، والمساهمة في الوقاية من الفساد والممارسات غير القانونية.

وتضطلع الهيئة في ما يتعلق بالرقابة المالية، بمراجعة حسابات الهيئات العامة والتأكد من مطابقتها للقوانين والتنظيمات السارية، وفي ما يتعلق بتقييم التسيير، فيقوم بتقييم كفاءة وفاعلية تسيير الموارد المالية والمادية للهيئات الخاضعة لرقابته، كما يمارس صلاحيات قضائية في حالات تصفية حسابات المحاسبين العموميين ومعالجة المخالفات المالية، إلى جانب أنه يراقب نوعية التسيير من حيث الفاعلية والاقتصاد في استخدام الموارد، ويقدم الاستشارة لرئيس الجمهورية أو الوزير الأول أو رؤساء المجالس التشريعية.

7