قافلة الذكاء الاصطناعي تسير

خلال فترة لا تتجاوز الأربع سنوات، أثبت الذكاء الاصطناعي حضوره، ليصبح حديث الناس وصديق الطلاب والباحثين والأطباء والحكومات، وسلاح بيد المزيفين والمحتالين، وهو نفس السلاح الذي تستخدمه دوائر الأمن لمكافحة الجريمة.

هذا النجاح لم يغفر للذكاء الاصطناعي، وعدد غير قليل من الناس يعتقدون أن إيجابياته ستفوق سلبياته. والجميع يشعرون أنه بات مهدِّدًا، واليوم الذي يهيمن فيه الذكاء الاصطناعي بات قريبًا.

مؤخرًا جمعني لقاء بصديقين يعملان في الإعلام، أمطراني بالنقد الشديد لما اعتبراه انحيازًا مني للذكاء الاصطناعي. ورغم انفتاحهما على التكنولوجيا، فهما يستخدمانها على الأقل منذ ربع قرن أو أكثر، إلا أنهما تحدثا عنها باعتبارها شرًا لا بد منه.

أول الاتهامات التي حوصرت بها قولهما إن الذكاء الاصطناعي يعلم الأطفال الكسل والخمول ويبلد الأذهان، فهم لن يكترثوا بعد اليوم بحفظ المعلومات، لأن المعلومات متوفرة تحت الطلب، اسأل والذكاء الاصطناعي يجيب.

الملامح التي ارتسمت على وجهيهما أوحت أنهما على قناعة بأن الإيقاع بي قد تم، وأني لن أجد جوابًا أدافع به عن نفسي وعن الذكاء الاصطناعي.

ردي على الهجوم كان بسؤال آخر: من منكما يستطيع أن يستحضر عشر صيغ كيميائية، أو معادلات رياضية، أو يستطيع أن يطبق ما تعلمه من عروض وبحور شعرية على قصيدة أعرضها عليه.

أسقط في أيديهما. فقدمت لهما العون: كلاكما يستطيع أن يستحضر هذه المعلومات الآن وبلمح البصر، الذكاء الاصطناعي المثبت على هاتفيكما الذكي سيقوم بذلك.

بدا الأمر وكأنني فجرت مفاجأة.. اكتشفا أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون صديقًا لهما. ولكن لم يستسلما نهائيًا.

هجومهما الثاني كان هذه المرة مركزًا على العمل الإبداعي. وسألاني بصوت واحد: ماذا عن العمل الإبداعي؟

لم ينتظرا الجواب، تابعا الهجوم قائلين إن الاعتماد الكبير على الذكاء التوليدي والعميق، عدا عن كونه سيسرق وظائف آلاف العاملين بالحقل الإبداعي، سيتسبب في تجفيف منابع الإبداع البشري.

ليس مهمًا كيف تطور الجدل بعد ذلك، المهم هو السؤال الذي تم طرحه، والاتهام الذي وجه للذكاء الاصطناعي والمخاوف المترتبة على استخدامه.

عند النظر في تأثيرات الذكاء الاصطناعي التوليدي والعميق على عملية الفعل الإبداعي، نجد أنفسنا أمام موقفين متضاربين. الأول يحذر من التأثيرات السلبية لاستعمال الذكاء الاصطناعي، ويرى أن الاعتماد الكبير على هذه التقنيات سيتسبب في تجفيف منابع الإبداع البشري. بينما يرى أصحاب الرأي الآخر في الذكاء الاصطناعي أداة مثلها مثل أي أداة اكتشفها البشر، ستثري عملية الابتكار والإبداع البشري. إذن، أيهما نصدق؟

واحدة من الحجج الرئيسية للفريق الذي يحذر من التأثيرات السلبية أن الذكاء الاصطناعي يعمل بناءً على البيانات التي تم تدريبه عليها، وبالتالي فإنه قد يكرر الأنماط والأفكار السابقة دون تقديم جديد. هذه الحجة تدعي أن الإبداع الحقيقي يأتي من التجارب البشرية الفريدة والمشاعر المعقدة، وهي أمور يصعب على الذكاء الاصطناعي محاكاتها بشكل كامل.

الذريعة الثانية هي الفقدان التدريجي للمهارات الإبداعية. عندما يعتمد المبدعون بشكل مفرط على أدوات الذكاء الاصطناعي، هناك خطر من فقدان المهارات التقليدية التي كانت تعتبر أساسًا للإبداع. مثلاً، في مجال الفن، قد يتوقف الفنان عن تعلم ورسم اللوحات بالمفهوم التقليدي وحتى المفاهيمي، وبدلاً من ذلك يعتمد على الخوارزميات. وهذا قد يؤدي إلى تراجع المهارات اليدوية والفهم العميق للتقنيات الفنية.

الحجة الثالثة هي أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يقيد خيال البشر. حيث لا داعي بعد اليوم للخيال، هناك من سيقوم بالمهمة بالنيابة عنك. وبدلاً من أن يكون الإبداع رحلة استكشاف وتجريب، سيصبح عملية تكرار تخضع لما هو معروف بالفعل.

على النقيض من المتخوفين والمتشككين، يرى المؤيدون أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة قوية تسهم في إثراء الإبداع البشري بطرق عدة. يعتمد هذا الرأي على فكرة أن التكنولوجيا ليست بديلاً عن الإنسان، بل هي وسيلة لتعزيز قدراته وتوسيع آفاقه.

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد المبدعين على تجاوز العقبات التقنية والتركيز على الجوانب الأكثر إبداعًا في عملهم. على سبيل المثال، يمكن أن تساعد الخوارزميات على تحسين الجودة التقنية للأعمال الفنية، أو تسريع عملية إنجاز الفيديوهات، مما يمنح المبدعين مزيدًا من الوقت للتفكير والابتكار.

أيضًا، يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي مصدر إلهام للأفكار الجديدة وغير المتوقعة. من خلال تحليل البيانات والتعرف على الأنماط، يمكن للخوارزميات أن تطرح اقتراحات وبدائل لم يكن للمبدعين التفكير فيها يومًا.

باختصار، الذكاء الاصطناعي سيعمل بشكل تكاملي وليس تنافسي مع الإبداع البشري بدلاً من أن يحل محله.

فأي الفريقين نصدق؟

تبني موقفًا من بين الموقفين يعتمد بشكل كبير على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي وكيفية تقبله من قبل المجتمع. لا شك أن هناك مخاطر وتحديات يجب التعامل معها بحذر. في نفس الوقت، هناك فرص هائلة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإبداع وإلهام الأفكار الجديدة.

يمكن تحقيق ذلك من خلال تشجيع التعليم المستمر وتطوير المهارات الفنية التقليدية بجانب التكنولوجيا الحديثة. كما ينبغي وضع سياسات وأطر تنظيمية تضمن الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي وتمنع التجاوزات التي قد تؤثر على الفعل الإبداعي.

في النهاية، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للإبداع البشري، بل هو أداة يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة. الاختيار يعتمد على قدرتنا على التكيف مع التكنولوجيا والاستفادة منها بأفضل الطرق الممكنة لتحقيق توازن مستدام بين الإبداع البشري والذكاء الاصطناعي.

ما فاتني قوله لصديقي، وتذكرته بعد مغادرتي، هو الكاميرا، التي أثار اختراعها مخاوف شبيهة بالمخاوف التي يثيرها الذكاء الاصطناعي، خاصة ما تعلق منها بالإبداع. حاول التحدث عن تلك المخاوف لترى كيف سينظر إليك اليوم.