الاحتراق الوظيفي

ما من أحد تسأله عن حاله إلا ويعبّر عن امتعاضه من العمل، الجميع ساخطون، غاضبون، يشعرون أن أعمارهم تسرق في العمل مقابل رواتب لا تكفيهم احتياجاتهم.
الأربعاء 2025/02/19
لا يهم ما هو عملك، المهم أن يكون له زمن واضح ومحدد

“غالبا ما يعتبر الاحتراق الوظيفي على أنه إشارة إلى حقيقة أن الأشياء التي تملأ يومك بها – الأشياء التي تملأ حياتك بها – بعيدة كل البعد عن نوع الحياة التي تريد أن تعيشها وعن المعنى الذي تريد صنعه من تلك الحياة”. هكذا تعرف الطبيبة النفسية إلن فورا مصطلح الاحتراق الوظيفي في كتابها “تشريح القلق”، مصطلح يتردد على مسامعي كثيرا هذه الأيام، فأغلب من أعرفهم يشكون من أن العمل يسرق حياتهم ولم يعودوا قادرين على أن يفعلوا شيئا آخر إلى جانبه.

تقول إحدى صديقاتي: أشعر كأنني ثور في ساقية، أستيقظ صباحا لأعمل إلى ساعات متأخرة، ثم أعود إلى البيت منهكة لا أقدر حتى على إعداد طعامي، نسيت ماذا يعني أن يرفه المرء على نفسه، لا وقت لدي، أعمل طوال الأسبوع، أرتاح يوما واحدا أخصصه للنوم وترتيب المنزل.

ما من أحد تسأله عن حاله إلا ويعبّر عن امتعاضه من العمل، الجميع ساخطون، غاضبون، يشعرون أن أعمارهم تسرق في العمل مقابل رواتب لا تكفيهم احتياجاتهم. الآن أصبحنا نرى نساء يرفعن شعار لا للاستقلالية ولا للعمل المجهد. ما الذي أوصل أغلب الناس إلى مرحلة الاحتراق جراء العمل؟ ربما أن أغلبهم ظن أن العمل حياته.

من هذه الفكرة، كتبت ناومي شراغاي كتابها “الرجل الذي ظن أن العمل حياته”، لتقول إن العمل ليس حياتنا، بل علينا أن لا ننسى أهمية العلاقات الاجتماعية والعاطفية والترفيه وحين نشعر بالاحتراق الوظيفي علينا السعي لتغيير الروتين اليومي وإعادة اكتشاف الذات.

‏يعرض الكتاب رحلة شخصية لرجل انغمس في عمله بشكل مفرط، لا يرتاح منه إلا ليعود إليه مسرعا، حتى ظن أن حياته تتمحور بالكامل حول عمله. هو رجل ناجح في مسيرته المهنية، لكنه يشعر بأن شيئا ما مفقود في حياته. العمل يستهلك معظم وقته وطاقته، مما يؤثر على حياته الشخصية وعلاقاته. لقد بنا نفسه مهنيا ونسي جوانب حياته الباقية.

وهنا، يوضح الكتاب كيف أن الرجل ربط بين قيمته الذاتية والعمل، حيث أصبح العمل جزءا لا يتجزأ من هويته، حتى بدأ يعتقد بأن قيمته الذاتية تعتمد على نجاحه المهني فقط. يضعه العمل في مواجهات تحديات وضغوط مستمرة مما يصيبه بالإرهاق المستمر وفقدان الشغف، ويخلف له أزمات صحية ونفسية. من منكم لم يشعر بذلك؟

يستعرض الكتاب أيضا تأثير العمل على العلاقات الشخصية، بما في ذلك الأسرية والاجتماعية، وكيف بدأ الرجل يشعر بالعزلة والوحدة، حتى تأتي لحظة حاسمة عندما يدرك أن حياته بحاجة إلى تغيير، ويبدأ رحلة البحث عن التوازن بين العمل والحياة الشخصية، مستعينا بنصائح الأصدقاء والعائلة.

يبدأ الرجل في استكشاف اهتمامات وهوايات جديدة، مما يساعده على استعادة شغفه بالحياة، ويعيد بناء علاقاته مع الأسرة والأصدقاء، مما يعزز شعوره بالدعم والانتماء. ويتعلم كيفية وضع حدود صحية بين العمل والحياة الشخصية، مثل تخصيص وقت محدد للعائلة والهوايات، والابتعاد عن العمل خارج أوقات العمل.

‏تشدد الكاتبة ناومي شراغاي على أهمية التوازن في الحياة، وتؤكد طوال فصول الكتاب على أن النجاح المهني لا يجب أن يكون على حساب السعادة الشخصية والعلاقات. اعمل ولكن لا تجعل عملك كل حياتك، وإلا ستحترق ببطء.

لا يهم ما هو عملك، المهم أن يكون له زمن واضح ومحدد، لا تحمل عملك معك أينما ذهبت، ولا تقضي أكثر من ثلث يومك في العمل، هكذا تؤكد لنا الطبيبة النفسية شراغاي فـ”العمل هو جزء من الحياة، ولكنه ليس بالحياة نفسها. الحياة معناها أن تستمتع بها وتجربها وتشاركها مع أحبائك. لا تدع عملك يستهلكك إلى درجة تنسى لماذا تعمل في المقام الأول”.

18