إجبار الفلسطينيين على الخروج من غزة وصفة لكارثة لا يمكن تصوّرها

لقد عرفنا أن دونالد ترامب شخص غير متوازن ولا يمكن التنبّؤ بأفكاره، وغالبًا ما يكون طائشًا وغير حسّاس، ولكن لم يخطر ببال الكثير منّا أنه قادر على رفع جنونه إلى مثل هذه المستويات الجديدة عندما يشرع في رحلة “الفتح”.
حتى بعد أن أعلن ترامب أنه يريد استعادة قناة بنما والاستيلاء على غرينلاند بالقوة، إذا لزم الأمر، وإعادة تسمية خليج المكسيك بخليج أميركا، لم أستطع، مثل العديد من الآخرين، أن أتخيّل أن جنونه يمكن أن يصل إلى مستوى لا يمكن تصوّره.
في مؤتمره الصحفي في الرابع من فبراير، مع وقوف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بجانبه، مبتسمًا ابتسامة شريرة، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستستولي على غزة وتنقل الفلسطينيين مثل الأغنام إلى الأردن ومصر وتبني مثل هذه الريفييرا الساحرة على طول البحر الأبيض المتوسط، وتجلب السلام والازدهار للمنطقة بأكملها. “إنها خطة رائعة وذات رؤية بعيدة لم يكن أحد ليتصورها سواه”.
◄ رغم أن أي شخص عاقل لا يعتقد أن ترامب قادر على تنفيذ مثل هذا العمل الخطير، فإن مجرد ذكره أثار الرعب في قلب كلّ فلسطيني
يفتقر خطاب ترامب بالطبع إلى أيّ تفاصيل. إنه يريد أن يصوّر استعراضاً للشجاعة وممارسة فظّة للسلطة، وإلى الجحيم مع عواقب خطته الوقحة التي من شأنها أن تشعل المنطقة على نحو يصعب تصوره. ورغم أن أيّ شخص عاقل لا يعتقد أن ترامب قادر على تنفيذ مثل هذا العمل الخطير، فإن مجرد ذكره أثار الرعب في قلب كلّ فلسطيني.
الرسالة الموجهة إليهم بسيطة: انسوا إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. هذه الأرض هي أرض أجداد الشعب اليهودي ويجب إعادتها إلى أصحابها الشرعيين. أوه، أيها الفلسطينيون، استعدوا الآن للنكبة الثانية، ولكن هذه المرة لا تقلقوا؛ سوف يتم تنظيم نزوحكم بشكل جيد؛ وسوف تستقرون في الأردن ومصر وتعيشون في سعادة دائمة.
ولكن ما لا يدركه ترامب، وهو أمر غير مفاجئ، هو أنّه على الرغم من أن الكثير من غزة في حالة خراب، وسوف يستغرق الأمر سنوات والمليارات من الدولارات لإعادة بنائها، ولكن هذه أرضهم. يمكنهم إعادة بناء منازلهم واستعادة البنية التحتيّة والعناية بمزارعهم وإعادة هيكلة أعمالهم، لكنهم لا يستطيعون استبدال أرضهم. إن ارتباطهم بالأرض هو ما لا يمكنهم التخلي عنه أو استبداله أو تعويضه. هذا هو المكان الذي ينتمون إليه حيث عاش أسلافهم وماتوا، حيث يوجد تراثهم الثقافي، وحيث لا يزالون يحلمون بمستقبل أفضل وأكثر إشراقًا والعيش بكرامة لا يستطيع حتى رئيس الولايات المتحدة اغتصابها دون عقاب.
إن تداعيات خطة ترامب الوقحة والوحشية لغزة تتجاوز أيّ كابوس يمكن أن يتخيله ترامب أو نتنياهو.

◄ بعد 77 عاما من وجود إسرائيل لم يتعلم نتنياهو وعصابته شيئا. لإسرائيل الحق في الوجود، لكنها لا تستطيع بناء نفسها على رماد الفلسطينيين
إن نزوح الفلسطينيين من شأنه أن يؤدي على الفور وبشكل مشؤوم إلى زعزعة استقرار المنطقة. الأردن، على وجه الخصوص، سوف يكون أول من يتعرّض لزعزعة الاستقرار، حيث إن تدفق الفلسطينيين من شأنه أن يهزّ أساس البلاد التي تعاني بالفعل من وجود ما يقرب من مليون لاجئ من سوريا والعراق. وعدم الاستقرار الداخلي في الأردن من الممكن أن يؤدي إلى صراع مع إسرائيل التي تشترك معه في حدود يبلغ طولها 350 كيلومترًا وأن يسبّب تسلّل الأسلحة والإرهابيين. وهذا من شأنه أن يخلّف دمارًا على إسرائيل ويعرّض معاهدة السلام بين البلدين التي كانت بمثابة مرساة للاستقرار في المنطقة للخطر.
مصر تنظر أيضا إلى “الفكرة المبتكرة” لترامب على أنها سخيفة. وعلى الرغم من المساعدات الأميركية لمصر، رفض الرئيس عبدالفتاح السيسي بشدة خطة ترامب لأنها ستخلّف عواقب إقليمية وخيمة لن تنجو منها مصر وقد تؤدي إلى تمزيق السلام الإسرائيلي – المصري.
إن تحالف ترامب ونتنياهو في هذا الصّدد خادع للغاية. فبدلاً من بناء هيكل جديد للسلام الإقليمي، سوف يغرق ترامب المنطقة في عنف وحروب واسعة النطاق ويحرم الإسرائيليين والفلسطينيين من يوم واحد من السلام. وبدلاً من توسيع اتفاقيات إبراهيم، فإنه قد يتمكّن من فكّها، مما يجعل احتمالات السلام العربي – الإسرائيلي الشامل حلمًا بعيد المنال في حين يمنح محور المقاومة الإيراني فرصة جديدة للحياة. من المؤكد أن خطة ترامب غير مفهومة إستراتيجيًا وتنذر بالسوء بشكل مروّع.
من الصعب المبالغة في تقدير التأثير الذي قد يخلّفه تنفيذ خطة ترامب على الفلسطينيين. تهجير الفلسطينيين سيكون كارثيا على العديد من الجبهات، وهو ما لم يخطر بباله على الأرجح. إن اقتلاع أكثر من 2.2 مليون فلسطيني من وطنهم أمر قاس ومثير للخوف وسوف يخلق أزمة إنسانية غير مسبوقة. سوف يعيد إلى الأذهان التهجير الجماعي للفلسطينيين في عام 1948، حيث لا تزال ذكرى تلك الأيام المظلمة تطارد الفلسطينيين حتى يومنا هذا. إن العديد من سكان غزة الحاليين هم من نسل هؤلاء اللاجئين الأصليين. وعلاوة على ذلك، فإن هذا من شأنه أن يدمّر الروابط الأسرية ويمحو هويّتهم الثقافية ويخضعهم لرعب إعادة التوطين في أراض هم غير مرحَّبين بها.
سوف تشتدّ حدّة التطرّف الفلسطيني، مما سيجعل الصراع العنيف الحالي يبدو وكأنه بروفة. لقد تجاهل ترامب حماس تمامًا التي لا تزال قوة قوية في غزة، وسوف يزيد من صحة روايتها بأن الإسرائيليين أعداء لا يمكن إصلاحهم يسعون إلى القضاء على جميع الفلسطينيين وأن المقاومة العنيفة فقط هي الجواب على شهوة إسرائيل التي لا تشبع للمزيد من الأراضي الفلسطينية. سيتم تسميم جيل آخر من الفلسطينيين الذين لن تكون مهمتهم في الحياة سوى الانتقام والقصاص لما حلّ بشعبهم.
وبالنسبة إلى نتنياهو وحكومته الفاشية، فإن فكرة ترامب حول التطهير العرقي في غزة لجميع الفلسطينيين هي حلم تحقّق. هذا جنبًا إلى جنب مع الضمّ التدريجي، إن لم يكن الصارخ والصريح للضفة الغربية الذي من شأنه أن يحقّق أخيرًا حلمه في “إسرائيل الكبرى” كحق من الله. جاء ترامب، المسيح المنتظر، لتحقيق ما وعد به الله اليهود حسب نصّ سفر التكوين 17: 8 (في الطبعة العالمية الجديدة للتوراة) “كل أرض كنعان [إسرائيل]، حيث تقيم الآن كأجنبي، سأعطيها لك ولنسلك من بعدك ملكًا أبديًا؛ وسأكون إلههم”.
◄ خطاب ترامب يفتقر إلى أيّ تفاصيل. إنه يريد أن يصوّر استعراضاً للشجاعة.. وإلى الجحيم مع عواقب خطته الوقحة التي من شأنها أن تشعل المنطقة على نحو يصعب تصوره
يتعيّن على الجميع، وخاصة ترامب ونتنياهو، أن يتذكروا هذا: إن تهجير الفلسطينيين من غزة من شأنه أن يلغي أيّ احتمال لحلّ الدولتين، حيث لم يأت أحد حتى الآن بأيّ فكرة جديدة قابلة للتطبيق من شأنها أن تنهي الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني سلميا دون حلّ الدولتين. والبديل هو إراقة الدماء إلى الأبد لإرضاء حكومة نتنياهو الفاسدة التي لا يمكن إشباع تعطشها للدماء الفلسطينية.
يبدو بعد 77 عاما من وجود إسرائيل أن نتنياهو وعصابته من المتطرفين اليمينيين لم يتعلموا شيئا. إن لإسرائيل كلّ الحق في الوجود في سلام وأمن، لكنها لا تستطيع بناء نفسها على رماد الفلسطينيين. سوف يقاوم الفلسطينيون لأجيال إذا اضطروا إلى ذلك ولن يتخلوا أبدا عن حقّهم الأصيل في الدولة الذي كرّسه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 181، وهو نفس القرار الذي منح اليهود في فلسطين نفس الحق.
يعتقد ترامب أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء. أحد الأمور التي سيتعلمها بالطريقة الصعبة هو أنه ليس حاكم العالم؛ فهو لا يستطيع أن يأخذ أو يوزع الأراضي التي لا تنتمي إليه. هو لا يملك أيّ سلطة قضائية؛ فهذا يتعارض مع القانون الدولي ويتحدى المنطق ويفتقر إلى أيّ مبدأ أخلاقي.
لقد تحمّل الفلسطينيون الاحتلال والحصار والتشريد والطرد ونزع الإنسانية عنهم وعانوا من الألم والحزن المروّعين على مدى عقود من الزمان، لكنهم صمدوا. لقد ظلوا صامدين وحازمين لأن تعطشهم للحرية مطلق. ولا يمكن لأيّ رئيس أميركي، بما في ذلك ترامب، أن يثني إرادتهم.