النسوية تعيد تشكيل صورة المرأة في السينما المغربية

تبنت السينما الغربية الحركات النسوية وصورت قصصا تدافع عن حرية المرأة، تلك الحرية المطلقة التي لا تبدو منسجمة مع ضوابط مجتمعاتنا المحافظة، وتدريجيا تبعتها السينما العربية وصولا إلى السينما المغربية، لكنها تبعتها دون مراعاة لطبيعة المجتمع، فبدت وكأنها تروج لأجندات ثقافية غربية تضر المجتمع أكثر مما تنفعه.
الرباط- لعل المتأمل في تاريخ السينما المغربية سينتبه إلى التغيير الواضح الذي طال مواضيع الأفلام الحديثة مقارنة بالكلاسيكية، خاصة في ما يتعلق بترويج صورة النساء ومكانتهن في المجتمع المغربي على مر العصور، ويعود ذلك إلى الجهود السياسية التي يقوم بها الحكام العرب في ما يخص حقوق المرأة والمساواة والحرية الفردية وغيرها من الشعارات المسيسة التي ترتدي لباس الديمقراطية.
والغريب أن رائدات الفن النسوي في الغرب يخيل إليهن أن هذا عصرهن وأنه فعلا تغيير جذري يخدمهن ويدافع عن حقوقهن، وابتلع صناع الأفلام العرب الطعم السياسي أيضا وبدأوا في إنتاج أفلام سينمائية تطبل وتهلل للنساء كمحاولة لانتقاد السينما الكلاسيكية والسائدة التي كرَّست الصورة النمطية الغريزية للنساء، من خلال إنتاج أفلام سينمائية بديلة تصور ذاتية النساء ورغباتهن وحيواتهن بشكل مستقل.
وتتمثل الحقيقة في أن السينما المغربية لا تزال بدائية في هذا النهج، ففي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، ظهرت مدرسة فكرية ونقدية سينمائية تركز على انتقاد السينما الكلاسيكية والسائدة وتحلل دورها الثقافي في اضطهاد النساء وتكريسها للصورة النمطية الجندرية لهن، وتسعى النظرية إلى إنتاج أفلام سينمائية بديلة تصور ذاتية النساء ورغباتهن وحيواتهن بشكل واقعي. تطورت النظرية في التسعينات لترفض الرؤية الثنائية والمغايرة للاختلافات الجنسية، وطرحت وجهات نظر أكثر تعددية لتشمل جميع النساء باختلاف عرقهن ودينهن وطبقتهن الاجتماعية وهوياتهن الجندرية والجنسية وميلهن الجنسي وقدراتهن الجسدية والنفسية. أليس هذا، يا رواد السينما والدراما المغربية، ما تعتبرونه جديدًا ومعاصرًا وعنصرًا مركزيًا وسببًا في حصولكم على الدعم الفني، لأنه يتماشى مع مدونة الأسرة الجديدة، حيث انقلبت أدوار البطولة من “أسد أفريقيا” إلى “اللبؤة المستقلة الحرة”، ومن “كان وأخواتها” إلى “إن ونسوياتها”؟

تأثرت النظرية السينمائية النسوية بعدة نظريات نشأت خلال الموجة النسوية الثانية، حيث استلهمت من مفهوم “الآخر” لسيمون دي بوفوار، ومن نظرية بيتي فريدان التي تناولت الخرافات المجتمعية التي تحصر النساء في أدوار سلبية بحجة أنها طبيعية، ومن أنصار نوال السعداوي في المغرب المعاصر، إضافة إلى تحليل كيت ميليت للنمطية المفروضة على الأنوثة عبر وسائل متعددة مثل الأدب والفن، كرواية “حكاية الجارية” لمارغريت أتوود ورواية “الزانية” لباولو كويلو.
وتركز هذه النظرية على جانبين أساسيين: الأول يتمثل في نقد وتحليل كيفية توظيف السينما السائدة في تكريس النظام الاجتماعي الذي يمنح الرجال الهيمنة على السلطة والقرارات ويكرس تفوقهم في مختلف المجالات على حساب النساء، كما يظهر في أفلام مغربية مثل “الزين اللي فيك” لنبيل عيوش، الذي يعكس الأدوار النمطية للمرأة داخل المجتمع، بينما الجانب الثاني يسعى إلى دعم وإنتاج أفلام نسوية بديلة تطرح قضايا المرأة من منظور تحرري، مثل فيلم “آدم” للمخرجة مريم التوزاني، الذي يتطرق لوضع المرأة من خلال شابة دخلت في علاقة جنسية خارج نطاق الزواج نتج عنها حمل سبب لها الكثير من المشاكل مع أسرتها الصغيرة، فتقرر مغادرة المنزل والبحث عن عمل وهي حامل في أحد الأحياء الشعبية في مدينة الدار البيضاء، وكذلك فيلم “القفطان الأزرق” للمخرجة ذاتها، ولكن هذه المرة يصور امرأة وزوجها المثليين اللذين يديران متجرا للقفاطين في مدينة سلا بالمغرب، ويوظفان شابا كمتدرب عندهما.
وتعد مراقبة انعكاس صورة النساء من أوائل النظريات النسوية في مجال السينما، وقد نشأت بشكل أساسي في الولايات المتحدة، وتنظر هذه النظرية إلى النص السينمائي باعتباره انعكاسا للواقع الاجتماعي، وهذا ما تحاول فعله شركات الإنتاج المغربية في مجال الدراما حاليا، والمركز السينمائي في مجال السينما والفيلم الوثائقي، بعد سنوات ضوئية من ظهور هذه النظرية النسوية، أصبح الفنان المغربي فجأة واعيا ومثقفا ومتحررا، وهذا أمر عجيب.
وتنتقد هذه النظرية الطريقة التي صورت بها السينما الهوليوودية النساء، معتبرة أن هذه الصور تشويهات متعمدة تهدف إلى تكريس الأيديولوجيات مثل الهيمنة الذكورية، ومن أبرز الباحثات في هذا المجال المنظرة ماجوري روزين والكاتبة الأميركية مولي هاسكل، حيث قدمت روزين رؤيتها في كتابها “فشار فينوس” عام 1973، بينما تناولت هاسكل القضية في كتابها “من التبجيل إلى الاغتصاب: تصوير النساء في السينما” الصادر عام 1974، وركزت الكاتبتان على تحليل الأفلام الهوليوودية منذ فترة السينما الصامتة وحتى سبعينيات القرن العشرين.
وتذهب روزين إلى أن الصورة النمطية السلبية للنساء في هوليوود كانت جزءا من منظومة أبوية تهدف إلى التأثير على النساء وتحويلهن إلى شخصيات خاضعة، بينما حظيت دراسة هاسكل باهتمام أوسع في النظرية النسوية، إذ اتفقت مع روزين في تتبع التشويه السينمائي لصورة المرأة، لكنها لم تعتمد على فكرة وجود مؤامرة ذكورية مقصودة للسيطرة على النساء عبر السينما، فحللت تطور تمثيل المرأة في الأفلام، مشيرة إلى أن السينما الصامتة قدمت النساء بصور مبجلة، لكن هذه الصورة بدأت في التراجع خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، عندما أصبح التمثيل أكثر عنفا وعدائية تجاه النساء، وترى هاسكل أن هذا التغير كان رد فعل رجعي على المكاسب التي حققتها النساء في الواقع الاجتماعي خلال تلك الفترة.
لكن ما علاقة هذا بنا كمغاربة؟ يعتقد الكثير من رواد السينما المغربية أن العصر الحالي هو عصر بطولة المرأة في الأفلام والمسلسلات، فأصبحت النساء تتصدرن المشهد الفني بمبالغة شديدة، ويرى البعض هذا التحول في تمثيل المرأة على الشاشة خطوة كبيرة نحو تحقيق المساواة بين الجنسين، لكن الحقيقة أن هذه الظاهرة ليست جديدة، فهي جزء من مسار طويل بدأ منذ عقود، وكانت السينما العالمية قد تناولت هذه القضية في خلق نظريات الفيلم النسوية التي ركزت على تحرر المرأة والمثلية والاستقلالية والحرية الفردية، وصحيح أن بعض الأفلام والمسلسلات سعت لإظهار المرأة كشخصية رئيسية وقوية، ولكن ذلك لا يعني أن هذه القصص كانت دائما تعبيرا صادقا عن الواقع الاجتماعي أو عن نضال المرأة، فنحن كمشاهدين مغاربة، لا نزال نقبل هذه الصور الجديدة ونسمح لها بالدخول إلى بيوتنا عبر التلفزيون دون أن نتوقف لحظة للتفكير في تداعياتها، وهل هي حقا نحن أم أنها مجرد تأثيرات ثقافية وافدة؟
وأفلحت السينما العالمية في تطبيع الكثير من هذه الأفكار في لاوعينا، ما جعلنا نؤيدها تلقائيا دون التوقف لتحليلها، ورغم التأثير الخطير لهذه الأفلام والمسلسلات على عقولنا، فإننا نادرا ما نناقش أو نبحث في مدى تأثيرها على هويتنا الثقافية أو على موقفنا من القضايا التي تتناولها، ومسألة التغييرات التي تطرأ على مفاهيمنا حول العلاقات والتحولات الجنسية والمساواة والحرية الشخصية ونظام التحرر المزيف، فهل تقوم السينما بوظيفتها في غسل العقول وتشكيلها وفقا لأجندات معينة مدروسة وطبخت على مهل؟ أم أن هناك مساحة حقيقية للوعي والتفكير النقدي بين الجمهور المغربي حول هذه الصور التي تعرض؟
يظل هذا التساؤل قائما وأصبح من الضروري أن نعيد التفكير فيه وفي الدور الذي تلعبه السينما في تشكيل ثقافتنا وهويتنا الاجتماعية، فعندما تتداخل قوانين منظمة “سيداو” مع جمعيات نسوية وحقوقية وشركات إنتاج مغربية وتصل أياديها إلى نوع الأفلام والمسلسلات التي يجب أن تقبل مواضيعها، توقف للحظة، واقرص نفسك لتتأكد من المستفيد؟ ولماذا؟