"ثقب المفتاح لا يرى" قصائد لعشرين شاعرة أميركية لأول مرة بالعربية

ليست سهلة ترجمة الشعر، فهو ليس محصورا في اللغة الإخبارية أو التقريرية أو العلمية، إنه لغة تتحرك في مساحات عصية، بين الفكرة والشعور، من هنا تتشكل روح الشاعر أو الشاعرة. ربما تختلف القصائد في مواضيعها وتقنيات كتابتها وشحنتها الشعورية، ولكنها تتشابه في حمل روح شاعرها. هذا ما نكتشفه بقراءة ترجمات سارة حامد حوّاس لشاعرات أميركيات.
القاهرة- إن قارئ هذا الكتاب لن يكون هو نفسه الذي كان قبل القراءة؛ لأن المترجمة بذلت جهدا لافتا في أن تقدم نصا لا يمكن القول عنه إنه مترجم من فرط الإتقان والسهولة، حيث لا إطناب ولا حشو.
قدم الشاعر المصري أحمد الشهاوي بكلماته السابقة تلك، كتاب “ثقب المفتاح لا يرى” للأكاديمية سارة حامد حوّاس، الصادر حديثا عن دار بيت الحكمة للثقافة في مصر، ويضم مختارات شعرية مترجمة لعشرين شاعرة أميركية ممن فزن بجائزة نوبل في الآداب أو جائزة بوليتزر في الشعر، لتحلق قصائدهن للمرة الأولى في سماء اللغة العربية.
ترجمة روح الشاعرة
عبرت الكاتبة عن مشاعرها المختلفة والمتناقضة، قائلة “لا أدري هل هو مجرد كتاب أم رحلة أم مسيرة قطعتها بحب وشغف كبيرين،” وتزاحم الشعور لديها إزاء بدء عملها في كتابها بين شعور بالغبطة والفرح وتحقيق حلم في مجال كانت تظن أنه بعيد عنها روحيا ونفسيا وتخصصيا، وبين شعور بالخوف لإحساسها بأنها في مرحلة جديدة من حياتها مليئة بالتحديات وإثبات الذات، تسافر من خلالها إلى عوالم مختلفة، وتكتشف فيها نفسها من جديد.

تعرفت سارة حوّاس على نفسها عبر دخولها إلى عوالم عشرين شاعرة أميركية من جغرافيات متنوعة، لهن خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة، كما أن لهن سيرا ذاتية عامرة بالنجاحات وكثير من الإخفاقات والتحديات.
وتقول الكاتبة “قصص ملهمة، قصائد شعرية، عشت داخلها أياما وليالي وشهورا ما بين قراءة وترجمة، والترجمة هنا لا أقصد بها ترجمة المفردات أو الجمل الشعرية فقط، بل ترجمة روح الشاعرة وشعورها الذي دفعها إلى كتابة القصيدة، ترجمة الرسائل المتوارية بين الكلمات والسطور الشعرية، الموزونة تارة والحرة تارة أخرى.”
ظلت حوّاس خلال عملها تتنقل بين الكلمات، تبحث عن الشعور والمغزى والرسائل التي لم تكتب، فالترجمة عندها إحساس وذوق وحدس وفن، خصوصا ترجمة الشعر، لأنه يحتاج إلى قدرات خاصة، ليست عقلية أو علمية أو فكرية فحسب، بل قدرات روحية تستطيع أن تستشف وتشعر وتحدس ما وراء الكلمات من معنى ومغزى وشعور.
واعتبر أحمد الشهاوي في مقدمته لكتاب “ثقب المفتاح لا يرى” أن الترجمة موقف واختيار وذهاب نحو ما تراه النفس جديدا ومختلفا ويشبهها في تحولاتها وتجلياتها، فالمترجم يختار ما يراه ينفع الناس ويمكث في أرض الكتب طويلا؛ ولذا اختارت الكاتبة والأكاديمية سارة حامد حوّاس أن تترجم لشاعرات فقط كما اختارت قصائد تشبهها، كأنها تقول لنا إن المترجم يذهب نحو ما يشبهه أو يتطابق معه أو يعبر عنه.
والترجمة في نظر الشهاوي ليست نقل حروف أو مفردات من لغة إلى لغة أخرى، لكنها نقل للحضارة والثقافة والفكر، ومعرفة بأسرار اللغتين المنقول عنها وإليها، والترجمة فن.
وأجادت الكاتبة هذا الفن، على الرغم من أنها تردد دائما أنها متخصصة في اللغويات الإنجليزية بحكم دراستها في الماجستير والدكتوراة كأبيها العالم حامد حوّاس، لكن اختصاصها اللغوي جعلها أكثر معرفة بأسرار الكلام ودلالات المفردة والعلاقات في بناء النص وتشكيله وتكوين الصور.
ويقول الشهاوي “إن الكاتبة قدمت ذلك بسهولة وسلاسة نفتقدها في الكثير من الترجمات الحرفية والأمينة والحرة (الدلالة بالدلالة)، التي تعتمد الوزن أو الإيقاع، أو الوزن والتقفية، ليصير النص مسخا مشوها في الأخير.”
وعبرتْ سارة حوّاس جسور المخاطر في ترجمتها، ولم تتلف معنى ما أو بنيانا لنص، ولم تقطع الرباط المتين بين الصوت والمعنى الذي يشكل ماهية النص الشعري، كما أدركت المعاني الظاهرة والباطنة التي يكتنفها النص واشتغلت على التحليل والتأويل والتحويل، وترجمت ما لا يرى في القصيدة أو ما لا يقوله النص، وهو جوهر الشعر، كما يقول الشهاوي.
بدأت الكاتبة الترجمة بروح طفلة تحبو في عامها الأول، فرحة بقدرتها على المشي لأول مرة على الرغم من إدراكها عمق قدرتها على المشي، إلا أنها كانت تمشي بحذر وخوف حتى التقت نصوصها المترجمة بعيني الشاعر والكاتب أحمد الشهاوي.
وتقول حوّاس “هو شاعر وكاتب وإنسان، فالإنسانية صفة أصبحت نادرة في عالمنا، قد تجدها عند بعض البشر الذين اصطفاهم الله، وقد عشت معه تلك الرحلة منذ بدايتها حتى نهايتها في دار نشر ‘بيت الحكمة’. وبدأت الرحلة عندما قال لي: لماذا لا تترجمين وتنشرين كتابا في الترجمة؟”
يتناول الكتاب عشرين شاعرة أميركية (تسع عشرة شاعرة نلن جائزة البوليتزر وشاعرة واحدة نالت جائزة نوبل في الآداب)، من أصول مختلفة، فمنهن من تعود إلى أصل أفريقي أو ألماني أو روسي، ومنهن من اتبعت الشعر الحر أو النثري أو السردي، ومنهن من اتبعت الشعر التقليدي أو الكلاسيكي القديم، ومنهن من اتسمت بالحداثة في الشكل والمضمون.

◄ ماريا زاتورينسكا شاعرة تقليدية كلاسيكية، متأثرة بالثقافة الإنكليزية والشكل التقليدي الكلاسيكي للشعر الإنكليزي حتى في كتاباتها الشعرية الرومانسية
وهناك شاعرات تبنين الشعر الاعترافي مثل الشاعرات آن سيكستون وسيلڤيا بلاث وسارة تيسديل وشارون أولدز، والملاحظ أن كثيرات ممن كتبن الشعر الاعترافي كانت نهايتهن الانتحار.
ولا تدري سارة حوّاس، هل كان هذا الفعل بمحض المصادفة أم أن له علاقة بالكتابة الاعترافية الصريحة، وهل لم تنجح الكتابة في إنقاذ حيواتهن من الخراب والموت، فدائما ما يقال إن الكتابة شفاء من الألم، لكن الواضح أنهن برغم نجاحهن في كتابة أحزانهن وآلامهن فإنها لم تشف جراحهن الغائرة التي ظلت تنخر أرواحهن حتى انتحرن. والملاحظ أيضا أن الشاعرات المنتحرات كن يعانين من فشل في علاقاتهن العاطفية.
عندما انتهت الكاتبة من ترجمة نصوص الشاعرة الأمريكية سيلڤيا بلاث، شاهدت فيلما عن حياتها الخاصة والأدبية، وتأثرت كثيرا بها إلى درجة أنها شعرت بالحزن الشديد ولم تنتقل إلى ترجمة قصائد شاعرة أخرى إلا بعد مرور عشرة أيام تقريبا حزنا على النهاية المأساوية لسيلڤيا. وتكرر التأثير نفسه بعد ترجمة وقراءة الشاعرتين آن سيكستون وسارة تيسيديل.
وتقول حوّاس “لم أترجم فحسب بل كنت أتفاعل وأشعر بالشاعرة وأتقمص شخصيتها وروحها وحالها حتى صرت أتوحد مع كل منهن.. فالترجمة فعل حب وفن وشعور، والمترجم إنسان وليس آلة.”
وتكشف القصائد المختارة في كتاب “ثقب المفتاح لا يرى” عن اختلافات عديدة بين الشاعرات اللاتي ينتمين إلى جغرافيات مختلفة وأصول متعددة حتى وإن توحدن في أميركيتهن، لكن الخلفية الثقافية والاجتماعية الأولى لها البصمة السائدة في قصائد هؤلاء الشاعرات.
وتكمن معاناة الشاعرات اللاتي من أصول أفريقية في التفرقة العنصرية والمضايقات التي يتعرضن لها بسبب أصولهن، لذلك تنبض قصائدهن بإحساسهن بعدم الانتماء إلى وطن، وشعورهن الدائم بالغربة وفقد الهوية، بسبب الاضطهاد من المجتمع الأمريكي.
وتتناول أشعارهن قضايا التفرقة العنصرية والقمع السياسي الذي تعرضن له في مسيرة حياتهن، فمن الصعب بل المستحيل، كما تقول الكاتبة، أن ينفصل الشاعر عن واقعه ويكتب عن الحب على سبيل المثال وهو يعاني حياة اجتماعية وسياسية مضطهدة.
جائزة ذهب السبق
تظهر الاختلافات بين الشاعرات اللاتي من أصول ألمانية مثل ليسيل مولر، أو أصول روسية مثل ماريا زاتورينسكا، وبين الشاعرات الأمريكيات الأخريات سواء البيض أو اللاتي من أصول أفريقية.
فجاءت ليسيل مولر بخيالها الجامح وإتقانها اللغة وقدرتها على اللعب بالألفاظ مختلفة في أسلوبها واختيار موضوعاتها وشكل قصائدها، إذ تهتم كثيرا في كتاباتها الشعرية بالأساطير، ما لا يمكن ملاحظته في الشاعرات الأميركيات الأخريات، فضلا عن تنوع أشكال القصائد، فنجد قصيدتها ”لوحات خيالية” تأتي في شكل سؤال وجواب، متضمنة أسئلة عن الحب والموت والمستقبل والسعادة والإيمان بالقدر والحنين والكذب.
◄ القصائد المختارة تكشف عن اختلافات عديدة بين الشاعرات المنتميات إلى أصول متعددة حتى وإن توحدن في أميركيتهن
وتكشف قصائد الأميركية الروسية ماريا زاتورينسكا عن شاعرة تقليدية كلاسيكية، متأثرة بالثقافة الإنكليزية والشكل التقليدي الكلاسيكي للشعر الإنكليزي حتى في كتاباتها الشعرية الرومانسية، فتميل إلى الكتابة عن الحب والشمس والقمر والبحر والطبيعة متأثرة بالشعر الإنجليزي القديم، دون أن تتأثر بالحركة الشعرية الحداثية التي انتشرت حينها في المجتمع الثقافي الأميركي.
قضت الكاتبة سارة حامد حوّاس خمسة أشهر من العمل المتواصل في كتابها ليلا ونهارا حتى صارت لا تخرج من بيتها، وعندما سافرت مع عائلتها في إجازة صيفية حملت معها كتبها وأوراقها، مكتفية في معظم الأوقات بالبقاء في الفندق، تستمتع بالهواء وبترجمة القصائد والكتابة عن السير الذاتية للشاعرات الأميركيات، وشعرهن وقصصهن الملهمة.
وتعلق على رحلتها قائلة “عوالم وثقافات مختلفة وخلفيات اجتماعية متنوعة جعلتني أتعلم وأعرف وأؤكد حقيقة واحدة؛ هي أن الألم وقود النجاح والتميز والاختلاف، فلماذا نحزن إذن؟ الحزن يشعل فتيل الإرادة في قلب وروح الإنسان ويجعل منه رمزا ونهرا يعطي ويفيض.”
ولذلك، ذهب الشاعر أحمد الشهاوي إلى أنه إن كان من عادات الخليفة العباسي المأمون أن يمنح بعض المترجمين مثل حنين بن إسحاق ما يساوي وزن كتبه إلى العربية ذهبا، فإنني أمنح الأكاديمية سارة حامد حوّاس ذهب السبق في الترجمة والتعريف بأصوات شهيرة شعريا في بلدانها والعالم؛ تقدم إلى العربية للمرة الأولى.