أفلام السيرة الذاتية غائبة عن السينما المغربية

رغم كثرة الشخصيات المهمة المؤثرة في تاريخ المغرب يتجاهل رواد السينما المغربية تجسيد قصصها الواقعية والقوية في أفلام سير ذاتية من شأنها تعزيز الهوية والانتماء لدى الأجيال الناشئة. وحتى المحاولات القليلة في هذا المجال لم تحظ بالاهتمام اللازم من صناعها والنقاد أيضا، في حين يهتم معظم المخرجين بتصوير الأفلام الخيالية التي أغلبيتها مقتبسة من أعمال عالمية.
الرباط- يعد غياب أفلام السيرة الذاتية عن السينما المغربية فشلا على عدة مستويات، بدءا من كتابة السيناريو المقتبس الذي يتطلب مهارة في تحويل السير إلى نصوص درامية قوية، مرورا بالإخراج الذي يحتاج إلى رؤية بصرية تعيد بناء الشخصيات والأحداث بواقعية، وصولا إلى الإنتاج الذي يبدو غير مهتم بتقديم هذا النوع من الأفلام رغم قيمته الفنية والتاريخية الكبيرة. والمفارقة العجيبة أن أفلام السيرة الذاتية، ونظرا لقيمتها الفنية، تحصد جوائز أفضل سيناريو مقتبس وأفضل إخراج، وهذا يبرز الفراغ الكبير الذي تتركه السينما المغربية في هذا المجال، فهي غير قادرة على نسخ أفلام عالمية بطريقة احترافية، ولا هي قادرة على خلق مشاهد سينمائية لشخصيات مغربية معروفة بدقة متناهية، وقليلة هي الأفلام المغربية التي جاءت ضمن هذا النوع مثل “دقات القدر” لمحمد اليونسي وفيلم “الشعيبية” للمخرج يوسف بريطل.
ويشير مصطلح فيلم السيرة الذاتية إلى نوع من الأفلام يركز على شخصية واحدة أو مجموعة من الأشخاص الحقيقيين الذين عاشوا قصصا واقعية خلال مراحل حياتهم، وغالبا ما تستخدم عناوين هذه الأفلام الاسم الحقيقي للشخصية عبر التاريخ، ويختلف هذا النوع من الأفلام عن الأفلام الوثائقية والدراما التاريخية لأنه يتمحور حول سرد أحداث حقيقية لشخصية معينة، إما بشكل شامل أو عبر التركيز على أبرز مراحل حياتها من منظور معين.
ويرى العديد من الدارسين المختصين في دراسة الأفلام أن هذا النوع هو الأكثر تحقيقا للهدف الرئيسي للسينما وعلاقتها بالمجتمع، لأن أفلام السيرة الذاتية تنجح في إيصال رسائل معرفية وتاريخية وإنسانية واقتصادية وسياسية حقيقية، مستندة إلى أحداث وقعت فعلا، على عكس الأفلام التي تعتمد على الخيال والوهم.

وتعنى أفلام السيرة الذاتية بسرد ظواهر واقعية ذات صلة مباشرة بالإنسان، وقد تكون متعلقة بشخصية معروفة، مثل فيلم “لينكولن”، وهو فيلم تاريخي ودرامي مقتبس من جزء من رواية دوريس غودوين “فريق من المنافسين: العبقرية السياسية لأبراهام لينكولن”، ويغطي الأشهر الأربعة الأخيرة من حياة لينكولن، ويركز على جهوده في يناير عام 1865 لإقناع مجلس النواب الأميركي بتمرير التعديل الثالث عشر للدستور الذي يقضي بإلغاء العبودية.
وقد تتناول أفلام السيرة الذاتية مجموعة من الأشخاص، كما في فيلم “آرغو” للمخرج بن أفليك، وهو فيلم مقتبس جزئيا من شهادة عميل المخابرات الأميركية السابق توني منديز حول إنقاذ ستة دبلوماسيين أميركيين من طهران خلال أزمة الرهائن في إيران عام 1979، وفاز بجائزتي غولدن غلوب كأفضل فيلم درامي وأفضل إخراج، وترشح لسبع جوائز أوسكار، من بينها أفضل فيلم وأفضل موسيقى لألكسندر ديسبلا، وفاز بثلاث منها: أفضل فيلم لعام 2012، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل مونتاج، وأعلنت عن فوزه السيدة الأولى للولايات المتحدة آنذاك ميشيل أوباما في خطوة غير مسبوقة من خلال بث مباشر من البيت الأبيض.
وتطرح بعض أفلام السير الذاتية الحقيقة عمدا، عندما تستند إلى أحداث حقيقية خطيرة، مثل فيلم “ترامب المتدرب” الذي يتناول مسيرة دونالد ترامب المهنية كرجل أعمال في مجال العقارات في مدينة نيويورك خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وعلاقته بالمحامي روي كون.
كما يمكن أن تكون الأفلام على شكل مذكرات اعتراف تفضح المستور، مثل فيلم “سبوت لايت”، الذي يتناول وحدة تحقيق إخبارية تأسست منذ أوائل سبعينات القرن الماضي وتتبع صحيفة غلوب العالمية، حيث يمكن لأعضاء هذه الوحدة قضاء أشهر وربما سنوات في التحقيق في قصة واحدة، لكشف أسرارها وخباياها، ونظرا لأهمية عملهم لا يسمح لهم بالكشف عما يحققون فيه لأي شخص، حتى لو كان الزوج أو فردا من العائلة أو صديقا مقربا.
وهناك الكثير من أفلام السير الذاتية التي حملت رسائل أدبية وعلمية عظيمة، وركزت على شخصيات غيرت حياتنا اليوم، مثل أينشتاين والنسبية، وكارل ماركس والبيان الشيوعي، وهتلر والنازية، وآخرها فيلم حياة عالم الفيزياء النظرية روبرت أوبنهايمر، وقصة الأديب إرنست همنغواي، وفيلم عن حياة تولكين مؤلف سلسلة “سيد الخواتم”.
وتوجد أفلام أخرى تتناول حياة كتاب السيناريو، مثل “ترامبو” الذي يروي قصة كاتب السيناريو الشهير دالتون ترامبو، أحد أبرز المؤلفين في هوليوود خلال ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، ولكنه تعرض للإيقاف من قبل الكونغرس الأميركي ووضع على القوائم السوداء، التي ضمت تسعة مؤلفين ومخرجين آخرين، بسبب ما نشر عن تأييدهم للشيوعية ورفضهم الإجابة أثناء التحقيقات حول التهم المنسوبة إليهم، وتم حبسه لمدة 11 شهرا.
وفي العالم العربي أنتجت السينما المصرية العديد من أفلام السير الذاتية المفيدة، من أبرزها “سيد درويش” الذي تناول حياة الموسيقار المصري الشهير، و”بديعة مصابني” الذي استعرض مسيرة الراقصة اللبنانية المثيرة للجدل، و”تراب الغرباء” الذي ركز على كفاح عبدالرحمن الكواكبي ضد الاستبداد، كما تناول “المصير” حياة الفيلسوف ابن رشد وصراعه الفكري.
وعلى صعيد القادة السياسيين ركز “ناصر 56” على تأميم قناة السويس زمن حكم الرئيس جمال عبدالناصر، بينما استعرض “أيام السادات” حياة الرئيس أنور السادات من طفولته حتى اغتياله، أما فيلم “الفاجومي” فقد تناول مسيرة الشاعر أحمد فؤاد نجم ونضاله السياسي، وغيرها من الأفلام التي وثقت سير شخصيات مؤثرة عبر مشاهد سينمائية قوية.
وفي السينما المغربية هناك محاولات باهتة مثل فيلم” المسيرة الخضراء” ليوسف بريطل، ويمكن القول إن معظمها لم يضف شيئا مهما نظرا لضعف كتابتها ونقلها بالمراجع المعتمدة وضعف الإنتاج وعجلة المخرجين الذين يريدون أن ينتهوا من الفيلم قبل أن يبدأوا العمل على إنجازه.
لكن يبقى فيلم”عايدة” للمخرج إدريس المريني من أفلام السير الذاتية الجميلة، والذي تدور أحداثه حول الدكتورة “عايدة كوهين” اليهودية المغربية التي قدمت إلى المغرب لقضاء ما تبقى من سنوات عمرها بعد إقامتها الطويلة في فرنسا، وكانت “عايدة” المصابة بمرض السرطان قد قررت البقاء بصفة دائمة في المغرب بعد سنوات الاغتراب، وفيلم “العربي بن مبارك” الذي يتكلم عن أسطورة كرة القدم المغربية للمخرج ذاته الذي اختار أن يتناول مسار الجوهرة السوداء الحاج العربي بن مبارك الذي مات وحيدا في ظروف مأساوية، وقصة الفيلم مستوحاة من سيرة حياة هذا اللاعب الدولي الذي سطع نجمه ما بين الثلاثينات والخمسينات من القرن العشرين، وهي المرحلة التي دخل فيها العربي بن مبارك سجل تاريخ كرة القدم العالمية.
ويعتبر إهمال أفلام السير الذاتية في المغرب من الظواهر المقلقة خاصة في ظل وجود العديد من الشخصيات التاريخية الهامة التي تستحق أن تخلد في السينما، منها المقاومون الذين ضحوا من أجل الوطن، وصولا إلى الأدباء والشعراء الذين تركوا بصماتهم في الثقافة المغربية، مرورا بالشخصيات السياسية التي ساهمت في تشكيل تاريخ البلاد.
وتبقى قصص الشخصيات المهمة رغم غيابها عن السينما شديدة الأهمية في تحفيز الهوية الوطنية وحفظ الذاكرة الجماعية، كما أن هناك العديد من الأحداث الثقافية والاقتصادية التي شكلت محطات مفصلية في تاريخ المغرب، والتي يمكن أن تستفيد من المعالجة السينمائية للتركيز عليها وتوثيقها، ولكن للأسف نجد أن السينما المغربية تفتقر إلى الاهتمام الكافي بمثل هذه المواضيع، رغم أنها تحمل في طياتها الكثير من العبر والدروس التي يمكن أن تلهم الأجيال الجديدة وتعزز الفخر بالهوية الوطنية، فحتى العلماء المغاربة الأفاضل الذين يتغنى بهم المشارقة لا يعرفهم أحد من المغاربة.