"سركون بولص.. يجوب المدن وهو ميت" حاملا قصصه المجهولة

الكثير يعرفون سركون بولص شاعرا، والعديد من الدراسات الأدبية تناولت شعره، واحتفت به المنابر الإعلامية والكتب والمجلات والملاحق والمقالات وحتى البرامج، وكلها كانت تتناوله شاعرا فقط، وبقي وجهه الآخر مجهولا نوعا ما، وهو سركون السارد الذي لا نجد اهتماما واسعا به، وهو ما يحاول ناجح المعموري تجاوزه في كتابه الجديد.
لعل الأستاذ ناجح المعموري واحد من الكتاب القلائل الذين يسعون في كتاباتهم إلى ملء فراغ في المكتبة الثقافية والأدبية، فهو الباحث والمنتقب في أزقة التاريخ، وحواري الثقافة والأسطورة، يسعى لأن يكون مؤسسا في كتاباته، مؤسسا لفكر نادر، يملأ به فراغا ثقافيا، وحتى لو لم يجد فراغا سيخلقه بنفسه ليؤكد ريادته في النحت الثقافي على جدران المعرفة بكل تجلياتها.
في كتابه الأخير المعنون بـ”سركون بولص.. يجوب المدن وهو ميت” يسعى المعموري لترسيخ هذه الفكرة عبر إشهاره غير المعلن واستنكاره المضموني للإسهاب النقدي في تناول الراحل سركون بولص شعريا، والتخلي بعمد أو بإهمال عن المنجز السردي له.
الشاعر الآشوري
◙ المعموري نجح في فحص سرديات سركون وتأثيثها بكل ما يجعل منها قصصا تؤهله في صدارة ساردي تلك الفترة
يحاول المعموري في كتابه الصادر عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في مدينة الحلة، تأكيد ريادة سركون سرديا، ويسعى أيضا لإدخاله ضمن الفاعلين سرديا، بعد أن اقتصرت الدراسات النقدية على ترسيخ حقيقة فاعليته الشعرية، وريادته في شعر الحداثة عراقيا وعربيا.
الأمر الذي ركز عليه المعموري هو التعالق النوعي بين المنجز الشعري والسردي لسركون، واستثماره للشعر في تنمية النص السردي، بما يمكنه من تأثيث نصوصه السردية بدفقات هائلة من الشعر، عبر نثر ما أسماه الراحل خالد علي مصطفى “قوة التصور في الكلام”.
يقول المعموري في مقدمته “سجلت قصص سركون بولص لحظة الواقعية الشعرية الرفيعة، هو الذي فتح أبوابها، أو ربما تعلم منه الآخرون.. نعم، لقد كشفت كتاباته السردية عن أنفاس شعرية عالية قد ساهمت لاحقا ببروز إشكالية ثقافية عن مدى شعرية تلك الكتابات، وهل تندرج تحت خانة الشعر أم النثر”.
سركون، ذلك الشاعر، المنفلت من الزمان كما سماه المعموري، هو ذلك القادم من أعماق التاريخ السحيقة، حيث أجداده الآشوريون، وهم منشغلون بتخليد حضارتهم، عبر ما سيتركونه من ثروات مادية، وأخرى معنوية، لاتزال شاخصة إلى اليوم، حاول عبر هجرته منذ أيامه الأولى إلى بغداد، ليتحرر من الهيمنة التي ستبقى تلوي عنقه، إذا ما بقي هناك في مدينته “كركوك”، تلك المدينة الهائمة في أبنائها.
ترك سركون كركوك لعله يجد في بغداد ما كان يسعى إليه وهو الحرية التي ينشدها. يقول المعموري “هو مغامر من نوع خاص، لم يستقر، بل حمل حلمه الكلكامشي إلى جغرافيات كثيرة، ولم يقل له الإله مفردات الخلاص والفوز، بل تركه وحيدا ولم يفز بشيء مما حلم به وتمناه لغيره. لقد كان سركون، يتنقل من مدينة إلى أخرى، لعله يحظى بما يتمناه ويريده، ولا شيء أثمن من الحرية، أمنية يسعى إليها سركون، فكان المكان بالنسبة إليه وسيلة لتحقيق ذلك الهدف، فقد ترك بغداد إلى المهجر، إلى حيث مزيد من الحرية والتحرر من كل شيء، كان يسعى لأن يتجرد من التاريخ ومن اليوم، ومن الغد، إلا أن يبقى على قيد الحرية”.
لعلي أختلف مع المعموري عندما يقول إن إلهه لم يقل له مفردات الفوز والخلاص، بل إن إله سركون همس في أذنه مفردتي الحرية والشعر قبل أي شيء، فكان هو الباحث عن عشبة الإنسانية، لا يكترث لأي حكمة أو امرأة أو رفيق، كانت الحرية رفيقته الوحيدة، منها يمكنه أن ينطلق إلى عوالمه الخاصة به. لذلك، فقد انفرد سركون عن غيره من شعراء جيله بأنه كان محسوبا على الأدب فقط، لم يسجل التاريخ له خصومات مع شعراء آخرين، ولم ينخرط في سجالات لا علاقة لها بالشعر.
التجربة السردية
ناجح المعموري، وكعادته، حين يكتب نصا ما أو ينتهي من إنجاز كتاب معين، فإنه يتركه مدة غير معلومة، وربما يتركه في خزانة ما، ويشرع في كتابة أخرى، وبعدها يعود إلى الكتاب الأول ليستشكفه بعين الناقد والفاحص، وهذا الكتاب الذي يفترض أن المعموري كتبه قبل سنة أو سنتين يؤرخه بعام 2016، نعم، لقد قرر المعموري إخراج كتابه هذا بعد ثماني سنوات من إتمامه، وهو أمر نادر الحدوث، إذ إن مجرد ما ينتهي الكاتب من كتابه، فإنه قد يعود لمراجعته بشكل سريع، ثم يدفعه إلى أقرب دار نشر.
في هذا الكتاب نجد المعموري قد استخدم طريقته المعتادة في استدعاء النصوص غير المأهولة بالبحث، لأنه كما قلت في بداية الحديث إنه كاتب مؤسس، خاصة من حيث القصص المنشورة فيه، فقد قام بجمع قصص الراحل سركون، عبر بذله جهدا كبيرا، مستثمرا علاقاته الطيبة مع الأدباء من أصدقاء الراحل.
يختم المعموري مقدمته بقول الشاعر الراحل فوزي كريم “سركون في القصة أكثر أهمية منه في الشعر”.. ربما هذا القول هو الذي دفع إلى أن يسعى لقراءة سركون سرديا، لأن النقد كرس جهده لقراءة سركون الشاعر
وإقحامه بدراسات نقدية مع شعراء من جيله، شغلوا أنفسهم وشغلونا بخصومات وصراعات فيما بينهم، وبقضايا بعيدة تماما عن الشعر. يقول المعموري عن قصص سركون “لكني وجدت في قصص سركون وجود ضحية متكررة وهي المرأة/ الأنوثة”. نعم، لقد تلمس المعموري أن
في قصص سركون ثمة ضحية وهي الطرف الأضعف في المواجهة، وأعني المرأة، ولأن المرأة هي الكائن الأضعف فإن الرجل غالبا ما يمارس سطوته وجبروته عليها. ولأن الإنسان هو الحلقة الأضعف في العلاقة بينه وبين السلطة، فإن تلك السلطة غالبا ما تمارس جبروتها على الإنسان لتدفعه إما إلى الهجرة، هربا من السجن أو الموت.
في حياة سركون، ثمة الكثير من السلطات التي كانت حائلا بينه وبين أحلامه وطموحاته، تلك السلطات كانت السبب في ترحاله الدائم نحو المجهول. في هذا الكتاب، ثمة محاولة مثمرة من المعموري للكشف عن سركون السارد، ولأن عنوان
الكتاب في الحاجب هو فحص سردي، فإن المعموري نجح في فحص سرديات سركون وتأثيثها بكل ما يجعل منها قصصا وسرديات تؤهله لأن يتبوأ مكانا في صدارة الساردين في تلك الفترة.