طفل أحمد عبدالحسين يحول الشعر إلى عقيدة

لا شيء أصعب من كتابة السيرة، فهي لا بد أن تكون صادقة، كاشفة العالم الخفي للكاتب، وإلا، فإنها ستكون مجرد سرد وتزويق للحدث، وقضم ما يراد طمسه، وتحوّلها إلى مجرد كتابة من وحي الخيال.
“طفل لاعب باللاهوت” كتاب سيرة أحمد عبدالحسين، بدأه من حيث يفترض أن ينتهي. بدايات، غالبا ما كانت تنتهي بالموت، واللانهاية. حين وضع الطفل إصبعه على الخارطة، كان اللاهوت هو الذي يحرك الحدث، بعيدا عن أي تخطيط أو مراجعة.
يا لها من سيرة، أن تبدأ برحلة ملونة بشتى ألوان اللاجدوى والفراغ من كل شيء، إلا من الشعر، رحلة تنطلق بك، بعيدا عن وطنك وحياتك، لا لشيء إلا لتكون في مأمن من القدر. ثم يعود إلى الوراء، حيث يتذكر أول رفقة له، تلك الرفقة التي انتهت بموت رفيقه خالد جابر يوسف. إن خالدا هذا كان قريبا ورفيقا، عاش مغامرة الكتاب واللحظات الأولى لهاجس الامتلاك، امتلاك الكتاب الذي لا بد من السطو لامتلاكه، لأن ثمنه لا يقدر عليه أحد بمثل ظروفه في ذلك الوقت.
أول صدمة لأحمد، كانت الحرب، حيث قطعت صافرات الإنذار لعبه في الساحة المكشوفة، وأجبرته ورفاقه على العودة إلى البيت، حيث ينتظره الوالد الذي سيموت بعد مدة وجيزة، بسبب المرض.
موت خالد، كان الصدمة الثانية له بعد موت أبيه. وستتوالى الصدمات لاحقا بالموت. لوبير، الصديق الجديد لأحمد، مات هو الآخر مبكرا، بعد أن هاجر إلى ألمانيا، حيث قتل هناك.
“طفل لاعب باللاهوت” عنوان يوحي بالكثير، هو يحيلنا إلى النضج المبكر للطفل، اللاهوت بأبسط صورة له هو علم دراسة الغيبيات. الكاتب هنا، جعل من كلمة لاهوت علامة لفكرة أكبر من التعريف المبسط، ذلك الطفل اللاعب باللاهوت، نضج قبل أقرانه، وعاش هرمه قبل طفولته، وأحمد هنا حين بدأ كتابه بأهم وأنضج لحظة في حياته السابقة، هي لحظة السؤال: قبل ثلاثين سنة قال لي شيخي في قم: إن الميم هو حرف الحقيقة الآدمية، قال: انظر في تأخره في آدم ثم انظر إلى وروده في اسم محمد مرتين، متقدما ومتوسطا، وستفهم. لكنني لم أفهم.
ليس اعتباطا أن يقول لنا أحمد أنه لم يفهم، فهو يصر على أنه مازال يسأل، لم يكتف بالسؤال بعد، حتى بعد أن أنفق كل هذا العمر من حياته في طلب الكلمة والسؤال.
ثم يعود ليذكرنا في منتصف الرحلة هذه، أن ولادة الطفل اللاعب باللاهوت بدأت بحادثة يتذكرها في بداياته مع الوعي والحياة، حيث زار بيتهم رجل، أثناء حادثة فيضان ضرب منطقة خلف السدة، حيث يسكن قريبا من هناك، الرجل دخل بيتهم، ثم اختفى فجأة، مما جعل الأهل يعتقدون أنه المهدي المنتظر.
ذلك الطفل، صاغته آلام عدة، أهمها وأشدها إيلاما موت الأب، الذي أحال الطفل إلى كائن آخر، لا ملامح للطفولة فيه سوى المظهر الخارجي. الخلفية الثقافية والدينية له، دراسته الدينية في منفاه في قم، كلها عوامل كان من المفترض أن تجعل منه رجل دين تقليدي، يرتدي الزي الحوزوي، ويمارس الطقوس التي يمارسها رجال الدين. لكنّ حصنا منيعا حال بينه وبين كل ذلك. كان الشعر.
لقد حوّل أحمد أوجاعه إلى شعر، خلق من الألم لذة يمارسها في ذهنه فتولد على شكل قصيدة. كان الشعر بركانا، أخرج من داخله حمم الأسئلة والرفض للسائد، صاغ منه معادلا موضوعيا لمأساته التي ابتدأت بالموت والسفر والتلاشي وسط أمواج القلق.
"تحول كل ذلك إلى شعر". كل شيء حوّله أحمد إلى شعر، وجعل من الشعر هاجسا وحيدا ومحركا ودافعا لتفكيره وصياغته لنمط حياته. أولى ضحايا الشعر عند أحمد كانت عقيدته. يقول “في صباي كنت أدرس الأصول والمنطق وعقائد الإمامية، إضافة إلى النحو والصرف والتجويد، أي كل أساسيات ما يجعل مني رجل دين شيعيا تقليديا، لكنني لم أصبح كذلك، ربما بسبب الشعر وحده”.
فأيّ سطوة يمتلكها الشعر؟ أيّ مساحة احتلها ذلك الضوء الذي يوقده الله في الروح، فتستحيل إلى كلمات مؤثرة، تنطلق كأنها نبع من نور.
الشعر كما يقول أحمد “جوهر رفض، وجرثومة مخالفة للسائد والشائع والمكرر. نعم، هو ماء جار، يتغير في كل لحظة، لا يتوقف أبدا، ولو توقف لفسد. الشعر ينبوع لا بداية له ولا نهاية، ينطلق من كل الأماكن، ويتحرك كيف يشاء، دون أيّ معرقلات. فمن غير الممكن أن يجتمع مع الشعر شيء من فكر أو عقيدة”.
أحمد الذي خلق من الموت شعرا، لم يشأ تغيير عنوان مجموعته الأولى “عقائد موجعة” حيث أصدر مجموعة ثانية بذات الاسم، ويقول “لو قدرت أن أجعل هذا العنوان لازما لكل كتاب شعري يصدر لي لفعلت”.
ولا نعلم، لمَ الكتاب الشعري فقط، دون النثري؟ لمَ لا يكتب أحمد عبدالحسين كتابا عن العقائد التي سببت له الألم والشعر معا. إنه يفضل أن يستثمر الشعر في كشف مدى الألم والوجع الذي تسببت به تلك العقائد، رغم أن لها الفضل في إيقاد جمرة الشعر داخله.
ذات يوم، كتب لي أحمد عبدالحسين إهداء على غلاف “عقائد موجعة” قال فيه “هذه القصائد بعض عقائدنا التي أورثتنا العدم وأورثتنا الشعر أيضا، فهل في ذلك عزاء؟ نعم، لقد كان الشعر أفضل عزاء لنا في عقائدنا التي أورثتنا لا العدم وحده، بل الألم السرمدي”.
يقول أحمد في إحدى قصائده “يطرح الأب وصيته ويطالبنا نحن الأبناء بأن ننظر إليها كشيء مقدس/ لكن ماذا لو كان الأب يتكلم باللسان القديم، وباللسان المحتضر؟/ ألا يكون الاستماع إلى الوصية حينئذ ضربا من العبث؟”.
هذا نموذج صارخ لعقائد أكلت من العقول الكثير، عقيدة التقديس المفرط لكل ما هو فوقي، حتى لو كان ذلك الفوقي يسعى إلى طمسنا في أسوأ قعر.
الطفل الذي كان يظن نفسه لاعبا باللاهوت، سيغمض عينيه في آخر أيامه ليعرف كم كان لاعبا به وبمصيره. يقول أحمد عبدالحسين. نعم، قد يظن الطفل الساكن في داخلنا أنه تمكن من اللاهوت، لكن في الحقيقة أن اللاهوت هو الذي تمكن منه.
وهكذا، فنحن قد نشعر في لحظة أننا تجردنا من عقائدنا، لكن في الحقيقة أننا لسنا سوى ظل لها.