حالات تشكيلية متناغمة بين الرسم والموسيقى

العلاقة بين الموسيقى والرسم تكاد تكون علاقة وثيقة منذ اكتشافهما كفنيْن، على الأقل للفنانين التشكيليين الذين يحبون الرسم على وقع أنغام موسيقاهم الخاصة، متأملين أنغام الأشياء من حولهم، ومحاولين إعادة استنطاقها على أسطح لوحاتهم علهم يرسمون نوتات بصرية من نوع خاص تبوح بمشاعرهم وأفكارهم العميقة التي هربوا منها واستفزتها الأنغام العذبة.
سماع الموسيقى يصنع ذائقة تشكيلية تكون دافعا إلى الرسم خصوصا لأولئك الذين عجزوا بامتياز عن تعلم العزف والغناء بصوت عال وفضلوا الركون إلى صمتهم وكانت أرواحهم مسكونة بعشق موسيقاها، تتغير الأدوات والدروب ولا تتغير النتائج، بين القيثارة والفرشاة حالات تشكيلية متناغمة مع الموسيقى كتلك التي اقترحها فاسيلي كاندينسكي في تنظيره عن الرسم مع اختلاف الأزمنة بين بدايات القرن العشرين ونهاياته، أو مناخ البوب آرت لـبيتر بليك مع أشهر الأغاني والأفلام، وسيمفونية ديفيد هوكني في رسم الحياة بأنغام من ألوان معاصرة جدا ومنسجمة مع ما نعيشه اليوم من تبدل سريع للذائقة من خلال العيش على عجل، وما خلفه من ارتدادات على النفس البشرية وبالتالي على الفنان التشكيلي وحساسيته بشكل خاص أو الجمهور وما يحتاجه من فن.
واليوم ما زالت الموسيقى مصاحبة لأشرطة الأفلام التسجيلية والواقعية وأفلام الفنتازيا والأفلام الفنية ذات الصيغ البصرية التي يشتغل عليها الفنانون التشكيليون، كأداة أخرى للتعبير وفضاء تكنولوجي معاصر لمقترحاتهم التشكيلية، حيث تكون الموسيقى التصويرية من أسس العمل الفني ومن شروط اكتماله، حتى بغيابها في هذه الأعمال تعلو من بين ركام الصمت المطبق نغمات أخرى كأنها همسات مرهفة وراء الكاميرات وأشبه بشهقات النفس وتنهداتها، بخوفها وفرحها، دهشتها وانشراحها، وأصوات الأبواب والنوافذ والأواني وحفيف أوراق الأشجار عند نسمات المساء الزرقاء، أو شدة اصفرار هدير الريح أو هبوبها، من داخل الحدث أو في محيطه، تحت الشمس الساطعة أو بين ظلال أشجار وارفة بألوانها شديدة الخضرة على أطراف القرى الساكنة، أو في أزقة المدن وشوارعها التي تضج بالحياة وشكواها.
وفي تجربتي التشكيلية الخاصة كنت دائما أثناء الرسم أستمع إلى موسيقى الروك وخصوصا أغاني الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، في الغرفة المركونة بزاوية الباحة الخلفية لبيتنا، والتي أعددتها كمرسم صغير في منطقة المقاوبة. تلك الفترة لم تكن بعيدة زمنيا عن شبابي حيث تمتد من 1992 إلى 2009، تزامنت مع بداياتي الأولى في رسم اللوحة الزيتية، دون أي وعي مني أو معرفة مسبقة بفكرة الفنان كاندينسكي، كنت أفكر فقط في العمل والتعبير الموسيقي بالرسم، أحاول دائما أن أربط مشاعري تجاه الموسيقى بفعل شيء ما في اللوحة أو على الأقل أن يكون شكل الأداء في الرسم يقترب من الأداء الحر في الموسيقى وروحها المعاصرة.
كنت أحاول أن أطور مهاراتي في الرسم الواقعي والتعبيري بشكل مباشر، كتلك الرسومات التي تنشر على ملصقات الأفلام وألبومات الأغاني، مثل أغلفة فرقة كينغ كريمسون أو بينك فلويد أو فرقة إيرون ميدن أو ألبومات أغاني المغني الفنان المذهل ديفيد بوي، ولكنْ شيء ما يشدني إلى الخلف أو يدفعني إلى الأمام، لم أكن متأكدا على أي حال!
أقف مشدوها على عتبات التلوين والتناغم والانسجام بين الألوان المتجاورة وأشكالها والابتعاد عن التدوين للأفكار الجاهزة والمعاني شديدة الوضوح، كما كنت أحاول في هذه البدايات المبكرة من تاريخي الشخصي في عالم الرسم، بل أصبح الأمر أكثر تعقيدا بخصوص البحث عن معنى لكل هذه الأشياء، معنى أكثر قربا وتمثيلا للحالة التشكيلية البصرية وموسيقاها الخاصة وما أصبحت عليه في عالمنا المعاصر.
تلك الطريقة كانت الأمثل للتعبير عن تجاربي البصرية وليس تقليدا مباشرا أو محاكاة لأعمال وتجارب سابقة من انعكاسات الجانب الموسيقي أو من تأثيرات التجارب الرائدة في تاريخ فن الرسم مثل عوالم السرياليين وأتباعهم التي كانت المعبر عن لسان حال كل ثورة جديدة وكل الفئات العمرية الشابة المرتبطة بالموسيقى في العديد من البلدان، ومنطلقا لأغلب الفنانين وتجاربهم التشكيلية في بداية حياتهم الفنية لتعبيرها الأقرب لحالات الشباب وعنفوانه.
كان الأمر محاولة إضفاء أجواء ومناخات لونية تشبه الحلم في وقت المغيب، أو عند انبلاج فجر كل يوم جديد، كل يوم بألوانه المتجددة وبطموحاته العالية وأحلامه التي لا تمتلك سقوفا ولا حدودا، حتى البورتريهات كانت بألوان أخرى غير واقعيتها المعهودة، لأني دائما رغم كل النظريات والحقائق العلمية الحديثة أتساءل إلى أين تذهب الألوان عند الزوال؟ وكيف تتغير في الحقول وتختفي عندما يهبط الليل وفي تبدل الفصول وتعاقب السنوات والعصور؟ وكيف تبلى الأشياء مع مرور الوقت؟ حتى الأحاسيس تضمر وانطباعاتنا النضرة تجاه الآخر تفقد بريقها الأول.
والتعبير عن كل هذا ينبغي أن يكون فعلا مرهفا كالموسيقى والشعر على أسطح اللوحات، مرفقا بعنفوان ضربات الفرشاة وتنهداتها، مع خبرة كافية في التعامل مع المادة وقبل كل شيء مع الروح المبدعة التي تقود هذا الفعل المجهول في حينه، والمشوق عندما تتكشف أجزاء منه في كل خطوة من مراحل إنجازه على أسطح محيط الفن الناصحة، فهناك من يمشي على سطح الماء بخفة لا تحتمل وآخر يمتنع عن المسير لإحساسه العميق بغرق لا محال في أول جداوله الدافئة وقبل أن يبدأ الطريق.