"المستأجر".. لعبة كافكاوية في حرم جامعة أميركية

رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على صدور “المستأجر” للمرة الأولى، لا تزال رواية الكاتب الإسباني خابيير ثيركاس مثيرة للاهتمام والدهشة من أسلوبها، وحتى من حيث موضوعها، إذ تكشف خفايا الجامعات والذات والأفكار والتصورات الأكثر غرابة في جو فانتازي بامتياز.
في اليوم نفسه الذي التقى فيه بدانيال بيركويكس، جاره الجديد في السكن وزميله غير المتوقع في العمل، يصاب ماريو روتا بالتواء في كاحله. يمثل هذان الحدثان غير المتوقعين المتزامنين بداية دخول الانزعاج والارتباك في حياته الرتيبة كأستاذ لعلم الأصوات في إحدى جامعات الغرب الأوسط الأميركي، لكنهما فوق كل شيء يثيران كابوسا مليئا بالتهديدات، وينذران بأحداث وشيكة لا يستطيع القارئ الوصول إليها. حيث ليس لديه خيار سوى مرافقة روتا الذي يكتشف بالنهاية أن لا وجود لشخصية بيركويكس، لا في العمل ولا في السكن.
إن أحداث رواية “المستأجر” للروائي الإسباني خابيير ثيركاس كافكاوية بامتياز، ففكرتها ليست بعيدة عن فكرة قصة “المسخ” لكافكا. إنها لعبة كافكاوية للمرايا، في نهايتها هناك شيء رئيسي، مزعج بقدر ما هو غريب: المقالة التي جلبها بيركويكس الافتراضي أو الحلم أو المتوقع إلى روتا من منطقته الهلوسة والمُرآئية والشريرة.
تجربة شخصية
الفانتازيا والهزل عنصران تعريفيان لهذه الرواية علاوة على ميزتها التصويرية مع وجود إحساس دائم بالغرابة فيها
يظهر المقال مرة أخرى في حياة روتا “الحقيقية”، في تلك المساحة المطمئنة والقابلة للتحقق حيث يعيش الأستاذ المضطرب مرة أخرى. إن مجرد وجود المقالة هناك، في نهاية النص، هو الزلزال الذي يشكك في جودة الواقع التي يمكن التحقق منها والمطمئنة. وبعيدا عن التهرب من اليقين والتأكيد الذي تقترحه ما بعد الحداثة السائلة، فإن المواجهة بين حقيقة يبنيها السرد وأخرى مسجلة في المراجع “الواقعية” للتاريخ، تضع مفهوم الحقيقة ذاته تحت السيطرة.
يقدم ثيركاس لروايته كاشفا عن الأجواء التي أحاطت بكتابتها والقراءات التي ألقت بظلالها على أفكاره ورؤاه التي كانت تتفتح في مخيلته في مكتبة تلك الجامعة الأميركية أوربانيا، ولكن قبل ذلك نتوقف مع قوله في أحد مقالاته “إن الآلية التي تحكم روايات النقطة العمياء هي أن هناك دائما سؤالا، والرواية بأكملها تتكون من بحث عن إجابة لسؤال مركزي، ولكن في نهاية ذلك البحث تكون الإجابة عنه أنه لا توجد إجابة، أي أن الإجابة هي البحث عن الإجابة نفسها، السؤال نفسه، الكتاب نفسه”.
إن مفهوم النقطة العمياء (ما هو موجود ولكن لا يمكن رؤيته، ما يفترض وجوده ولكن كل ما هو متاح لرؤيته لا يظهره) يدعونا إلى إعادة قراءة رواية “المستأجر”، أن نتعامل مع هذه المفاهيم بطريقة سردية ونفهم لماذا الإجابة هي البحث عن الإجابة بحد ذاتها، والسؤال نفسه، والكتاب نفسه”.
يقول ثيركاس في مقدمته للرواية، التي ترجمها الكاتب والقاص محمد الفولي، والصادرة أخيرا بالتعاون بين دار ممدوح عدوان ودار سرد، “كتبت هذا العمل في عام 1988، وكنت قد أكملت للتو عامي السابع والعشرين، بعد أن مر عام عليّ وأنا أعيش في أوربانيا، إلينوي، وهي مدينة أميركية جامعية صغيرة تقع على بعد ساعتين بالسيارة من شيكاغو، إنها المدينة نفسها التي تجري فيها أحداث هذه الرواية. يعمل بطلها أستاذ علم النطقيات ماريو روتا، في المكان نفسه الذي عملت فيه، ألا وهو ‘مبنى اللغات الأجنبية’، ويعيش في المكان نفسه الذي عشت فيه، وهو شقة في بيت من طابقين يقع في شارع ‘ويست أوريغون’، ولها مدخل مسقوف، يدخل ضوء فياض عبر نوافذها الكبيرة المشمسة. لا داعي للقول إن هذه الرواية، ككل الروايات التي كتبتها، أو ببساطة ككل رواية كتبتها، أو ببساطة ككل رواية مقبولة، تعتمد على السيرة، لا لأنها تتناول حادثا معينا وقع لي فعلا في أوربانا، وإنما لأنها إعادة بناء استعارية وانعكاس مخلص جدا لتجربتي إبان تلك السنوات في الولايات المتحدة”.
ويضيف “كانت حقبة رائعة. غادرت إسبانيا وكتابي الأول أسفل ذراعي، وأنا أفر من الوجود الفوضوي في برشلونة، بعد أن جذبني عرض الوظيفة والراتب الثابت وبريق أميركا الذي لا يصدأ. هكذا وفي ظل انبهاري بكتاب أميركيين معينين، أحسب أنني تطلعت، في السر تقريبا، إلى أن أغدو كاتبا أميركيا، أو كاتبا أميركيا ما بعد حداثي على وجه الخصوص. مع ذلك لم أستغرق وقتا طويلا في التوصل إلى اكتشاف مفاجئ، على الأقل بالنسبة إليّ، وهو أنني إسباني (أو هذا المزيج بين الطباع الكتالونية والإكسترامادورية التي لا يخطر على بالي سوى أن أسمي نفسي بسببها إسبانيا). لهذا بدأت أفعل الأمور التي يفترض أن معشر الإسبان يفعلونها، على الرغم من أنني لم أقدم عليها قبلئذ قط: نوم القيلولة، وتناول الغداء في الثالثة مساء، أو التحدث بعلو الصوت”.
ويتابع “يعرف كل من عاش فترة معقولة بعيدا عن بلاده، أنه لا غرابة في كل هذا، إذ لا يتبين المرء مكانه في العالم إلا حين يفقده ولا يعرف أي منزل هو بيته، إلا حين يغادره ولا يبدأ في استقصاء ذاته إلا حين يبدأ في النظر إلى نفسه من بعيد. في ما يتعلق بالوظيفة، ارتكزت على تدريس محاضرات لغة إسبانية لطلاب جامعتين من وسط شرق الولايات المتحدة، وحضور صفوف برنامج الدكتوراه في الأدب الأسباني في مقابل الحصول على مكافأة تكفيني للعيش والسفر عبر البلاد، والعودة إلى إسبانيا مرتين في السنة. أتممت التزاماتي الأكاديمية بحذافيرها، لكن من دون حماس. احتفظت بالحماس للقراءة والكتابة، وأيضا لإنجاز بعض الأعمال التحريرية التي جاءتني من برشلونة، واهتممت بها أكثر من الصفوف، ومنها إصدار من ‘أماديس دي غاولا’ كلفني به فرانثيسكو ريكو، ومختارات لقصص إتش.جي.ويلز، وترجمة أحد مقالات جوان فيراتيه، عن قصيدة ‘الأرض اليباب’، لتي.أس.إليوت، وترجمة ‘الرجل الذي تاه’ لفرنسيسك ترابال”.
ويلفت “أكرر أنني كرست أغلب وقتي للقراءة والكتابة؛ القراءة على وجه الخصوص. كانت أوربانا آنذاك مدينة تحوطها امتدادات هائلة من حقول القمح، تتبعثر في ما بينها قرى صغيرة متطابقة لا تزورها فصول الربيع ولا الخريف، فتختنق من الحر الرطب صيفا ويكسوها الجليد بارتفاع شبرين شتاء، لكن حياتها الجامعية ـ وهي الحياة الوحيدة المعروفة هناك لأن كل شيء دار حول الجامعة ـ كانت عارمة وضوضائية، ففارت كل مبانيها في العطلات الأسبوعية بحفلات طلابية امتدت حتى الفجر، وامتلأت بأحاديث بلغات مختلفة وأطباق من كل أطعمة الكوكب. فوق كل هذه الغبطة، بدا قسم اللغة الإسبانية أحيانا كأنه محتل من قبل المثليين بصورة جعلتنا نحن معشر الغيريين ـ وبالأخص الغيريين الناطقين بالإسبانية ـ هدفا لاهتمام أنثوي لم أحظ به قبلئذ قط، ولم أحظ به لاحقا. إيجازا، لم يكن ثمة شيء ليفعله المرء في هذه المدينة الضائعة وسط العدم، ومع ذلك لم يكن قمة وقت طويل كي يشعر بالملل. أيضا، هناك المكتبة، وهي واحدة من أكثر المكتبات ثراء في أميركا الشمالية، فقد ضمت آنذاك نحو عشرة ملايين مجلد، لكن أفضل شيء في المكتبة ليس كمية ما فيها، وإنما جودته. ما أود قوله هو إن المستخدمين سمح لهم باستعارة الكتب بكميات كبيرة والتجول من دون محاذير عبر متاهة الأرفف، على عكس مكتبات القرن التاسع عشر الإسبانية في تلك الحقبة، بصورة كان المرء يصل معها إن عاجلا أو آجلا إلى أهم اكتشاف يمكن للمرء أن يعثر عليه في مكتبة، وفقا لألبرتو مانغويل، وهو أن تعرف أنك لا تبحث عن الكتاب الذي تبحث عنه، فهذا الكتاب ستقرؤه بكل الطرق، وإنما عن الكتاب الموجود إلى جواره بالضبط”.
ويتابع “قرأت على مدى تلك السنوات، لا كتبا لمؤلفين ما بعد حداثيين أميركيين اشتهيتهم مثل دونالدو بارثيلمي، وروبرت كوفر وجون هوكس، وويليام غاديس، وريتشارد براوتيغان، أو جون إيرفينغ، فحسب، وإنما أيضا كتبا لمؤلفين مشابهين لهم تقريبا وعثرت عليهم بالمصادفة، مثل ستانلي إليكن، وهاري ماثيوز، بل حتى آخرين لا تربطهم ظاهريا أي علاقة بهم مثل إيفيلن ووه أو إيمانويل بوف. قرأت هناك أيضا كتبا لم أعرفها لهيمنغواي وكالفينو وبيوي كاساريس”.
ويضيف “اكتشفت كتابا من أميركا اللاتينية لم أكن قد سمعت بهم قبلئذ قط، بفضل صديقي الشاعر إنريك بالديس، وبالمثل بعضا من الشعراء التشيليين مثل خورخي تيير وإنريكي لين، وعلى وجه الخصوص نيكانور بازا، الذي ذات مساء لا ينسى قط قراءة لقصائده في الجامعة. قرأت هناك أيضا داخل هذه المكتبة التي بدت كأنها تضم كل الكتب، لبعض المؤلفين الإسبان غير المعروفين والمنسيين في إسبانيا آنذاك مثل رفائيل سانشيت وغونثالو سواريث، وصاروا لأسباب متنوعة مهمين لاحقا بالنسبة إليّ”.
ويعترف “لا أعرف ما إذا كانت كل هذه القراءات قد تركت أثرها في ‘المستأجر’. قد تكون مسألة صحيحة، لكنني أعجز عن اقتفاء أثرها، لأن اقتفاء الأثر ليس سهلا كما يظن البعض، خاصة حين يكون أثرا يخص المرء نفسه”.
رواية جامعية
الرواية يمكن اعتبارها لعبة كافكاوية للمرايا في نهايتها يجد القارئ أن هناك شيئا مزعجا بقدر ما هو غريب
رغم أن أحداث الرواية تدور في حرم جامعي أميركي، وأن كل الشخصيات جامعيون، فإن خابيير ثيركاس لم يتخيلها كرواية جامعية، ويضيف “هذا التصنيف الفرعي الأنغلوسكسوني الذي جهلت وجوده تقريبا حين كتبت روايتي، ولطالما أنتج ثمارا مدهشة مثل ‘جيم المحظوظ’ لكينغسلي أميس، أو ‘لوليتا’ إن اعتبر البعض أنها رواية جامعية. في الواقع إن وجدت نفسي مجبرا على تعريف هذا الكتاب، فربما سأقول إنه كابوس واقعي كتبه شخص شغوف بأدب الفانتازيا، كما كانت حالي آنذاك، وإنه تفهم بعد قضاء سنوات كثيرة من قراءة كافكا، بصفته أحد رواد أدب الفانتازيا (أو الرعب)، أن الكاتب التشيكي الذي لا ينضب معينه كان كاتبا هزليا”.
ويرى أنه أيا كان، لا تبدو قراءة “المستأجر” باعتبارها رواية جامعية لها خصوصيتها أمرا غير جائز، إذ حدث أن قُرئت وفق هذا المنظور طيلة سنوات، على الأقل في قسم اللغة الإسبانية في أوربانيا.
يضيف ثيركاس “أعرف هذا لأنه بعد عقد من نشر الكتاب، حين عدت للمرة الأولى والأخيرة إلى أوربانيا، حكى لي زملائي القدامى أنه كلما انضم أستاذ جديد إلى فريق القسم، ركض إلى المكتبة ليقرأ الرواية للتعرف إلى زملائه عن قرب، وكأن ‘المستأجر’ شأنها شأن كثير من الروايات الجامعية، رواية ذات مفتاح، ويقصد بهذا المصطلح نمط من الخيال السردي تعد فيه كل شخصية مبتكرة قناعا لإنسان من شحم ولحم، أو نسخة خيالية منه”.
ويلفت إلى أن هذا التداخل المتكرر بين الخيالي والواقعي دفع رئيس قسم اللغة الإسبانية ـ الذي شعر على ما يبدو بأن شخصية رئيس القسم في الرواية صورة مرسومة بلا حب له ـ إلى الاضطلاع بهذا الشأن، فانتهى المطاف باختفاء النسخة الوحيدة من الرواية من المكتبة، وهي مسألة ـ بناء على معايير الأمان التي تحمي هذا المبنى ـ لا بد أنها كانت بسيطة تقريبا مثل إخفاء سبيكة ذهب من قاعدة “فورت نوكس” في ولاية كينتاكي.
ويقول “أشرت إلى الفانتازيا والهزل كعنصرين تعرفيين لهذه الرواية. يجب عليّ أن أضيف إليهما ميزتها التصويرية أو ميلها إلى هذا المنحى، ووجود إحساس دائم بالغرابة، وهي الأمور التي تعكس بلا شك انبهاري كشخص أجنبي بالواقع الذي أحاطني. من سيتحمس لقراءة هذه الصفحات، ربما سيفقد أشهر أو أفخم سمات كتبي الأكثر قراءة، ألا وهي إستراتيجيات الأدب من أجل التخييل الذاتي والسرد المعفى من التخييل المجرد، ووجود الماضي كبعد للحاضر، أو الجماعية كبعد للفرد، لكن لو أن ثمة قارئا حسن النية ـ أو بمعنى آخر ينتهج المتعة ـ فلا بد أنه سيقبل أنه ما من شيء ـ أو ما من شيء تقريبا ـ في جوهر هذه الرواية بعيد عن رواياتي اللاحقة، وأن هذه الروايات مجرد تطور غير متوقع ـ لكنه طبيعي ـ لها، بل أحيانا تجل فائق الواقعية للروايات السابقة، خاصة أنني تقريبا بداية من رواية ‘جنود سالامينا’ ـ ومن دون أن أعرف ـ لم أعد كاتبا ما بعد حداثي، وصرت ربما ما يجب علينا أن نستسلم ونسميه بالكاتب ما بعد بعد الحداثي”.
ويكشف “أتذكر أنني لم أقرأ ‘المستأجر’ ثانية إلا منذ نحو عشرين عاما، وأنا أستعد لإعداد طبعة جديدة مثل هذه، وشعرت حينذاك بأن الرواية تتناول في السر خوفي بل ورعبي تقريبا، من أن أظل طيلة حياتي في ذلك البلد الذي أحسن استقبالي واستضافتي، وأن أمضي عبر هذه الحياة السهلة الغريبة الهائمة عديمة القوام، بصفتي أستاذ لغة إسبانية، داخل حرم جامعي شديد الراحة والغرابة مثل حرم أوربانيا، لأن هذا المصير هو الذي كان ستقودني إليه وضعيتي كباحث في الأدب الإسباني. مع ذلك تجنبته بصورة إعجازية تقريبا. أتذكر راقتني طاقة السرد وحيويته، ونضارته وسلاسته، التي أحسب ـ ربما بسخاء زائد عن الحد ـ أنني استشعرتها أثناء القراءة”.