انزعاج أسري وحكومي في مصر من تحول مدرسة دولية لساحة معركة

تعكس أحداث العنف المتتالية التي تشهدها المؤسسات التربوية في مصر مدى تراجع الدور التربوي للمدارس بالتوازي مع غياب التوجيه النفسي داخل المؤسسات التعليمية، ما ساعد على تبني شريحة من الطلاب سلوكيات عدوانية خطيرة. وتكمن المعضلة في أن بعض الأسر أصبحت مثل أبنائها تشجع على العنف والترهيب وحث أولادها على أخذ حقهم باليد، ما ساعد على تفشي الظاهرة.
القاهرة - أكدت حادثة إصابة طالبة بمدرسة دولية في مصر بكسور في الوجه على يد زميلاتها، إلى أي درجة يتسبب تراجع الدور التربوي في تحول المدارس إلى ساحات معارك أمام ارتفاع منسوب العنف إلى مستويات قياسية، بالتوازي مع غياب التوجيه النفسي داخل المؤسسات التعليمية، ما ساعد على تبني شريحة من الطلاب سلوكيات عدوانية خطيرة.
وأثارت الواقعة غضبا أسريا واجتماعيا، وأصبحت حديث الرأي العام بمصر، بعد أن انتشرت مقاطع مصورة نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت أن الاعتداء كان وحشيا من جانب بعض الطالبات على زميلتهن، دون أن يتدخل أحد لإنقاذها، ما استدعى وزارة التعليم لفتح تحقيق انتهى إلى الفصل النهائي للطالبات المعتديات.
وتدخلت النيابة العامة في القضية بالتحقيق مع عناصر المشاجرة، وقامت باستدعاء أسر الطالبات، لكنها أفرجت عنهن بكفالة مالية حفاظا على مستقبلهن التعليمي.
وتحفظت أغلبية مجتمعية على الإجراءات الإدارية التي تم اتخاذها باعتبار أن استسهال الحل في فرض عقوبات على المتورطين في العنف ليس حلا، ويجب تقويمهن نفسيا وسلوكيا أولا.
وما أثار حفيظة كثيرين أن المدرسة محل الحادث تقع في منطقة راقية ولا يلتحق بها سوى أبناء الفئات الميسورة، والمفترض أن لها قواعد صارمة تمنع الخروج عن النص من جانب الطلاب، ما جعل أصابع الاتهام تصوب ناحية الأسر نفسها، وغياب الدور التربوي وتقويم السلوك وإرشاد الأبناء وتنشئتهم على أخلاقيات تُعادي العنف.
تظل المشكلة الحقيقية في اتكال بعض الأسر على إدارات المدارس لتربية أولادهم بشكل صحيح، وهناك من يُحمل المؤسسة التعليمية مسؤولية الانفلات الأخلاقي والسلوكي بين الطلاب دون فتح نقاش جاد وعقلاني حول دور الأسرة في السيطرة على الأبناء والتعاون مع المدارس، بعيدا عن أن يكون طرف واحد معنيا بالتربية.
والمشكلة الأكثر تعقيدا، عندما تتعامل بعض إدارات المدارس مع التدخل لتقويم سلوك الطالب العنيف برعونة، وتعتبر أن المشاجرات أمر طبيعي ولا تستحق العقاب، وهو ما حدث في واقعة المدرسة الدولية عندما خرجت وكيلة المدرسة لتتهم وزير التعليم بالتدخل في شؤون لا تخصه وقالت إن ما حدث لا يستحق، رغم وجود طالبة أصيبت بكسور في الوجه.
وثمة معضلة تتعلق بأن بعض الأسر أصبحت مثل أبنائها تشجع على العنف والترهيب وحث أولادها على أخذ حقهم باليد، بعيدا عن القانون أو الشكوى لإدارة المدرسة، باعتبار أن من يفعل ذلك هو طالب ضعيف قليل الحيلة، بعكس الذي يمارس العنف ضد زملائه ليكون زعيما عليهم، ما يعني أن المشكلة متشعبة وتتشارك فيها كل الأطراف بلا استثناء.
ويتفق متخصصون في شؤون التربية على أنه كلما تباعدت المسافات بين المؤسسات التعليمية والآباء حول هوية من يقوم بالتربية تظل هناك فجوة في خلق بيئة مدرسية خالية من العنف، بالتوازي مع عدم وجود خطة فعالة تكرس ثقافة التسامح داخل المجتمع التعليمي وحل مشاكل الطلاب بأساليب تربوية لتكون العقوبة آخر الحلول.
♦ بعض الأسر أصبحت مثل أبنائها تشجع على العنف والترهيب وحث أولادها على أخذ حقهم باليد
وأمام تلك المعادلة الصعبة، اضطرت هدى الزيني – ربة منزل – إلى تحويل أبنائها من أكثر من مدرسة بسبب التردي الأخلاقي، وخوفا عليهم من التأثر بالبيئة المدرسية السلبية والعنف السائد بين الطلبة، وبعد رحلة طويلة مع المدارس وجدت أن أغلبها غير منضبط سلوكيا، سواء أكانت حكومية أو خاصة أو دولية، ولم تعد هناك مدرسة تُربي بالفعل كما كان يحدث في الماضي.
وأضافت لـ”العرب” أنها لجأت إلى التعليم المنزلي مع ابنها الثالث الذي يدرس في مرحلة البكالوريا حتى تستطيع حمايته مما يحدث في المدارس من العنف قائلة “ابني الكبير أصبح عنيفا للغاية وتغير سلوكه بشكل سلبي في المنزل، متأثرا برفاقه الذين يرون أن العنف والضرب لزملائهم والتنمر عليهم، رجولة، ولا أريد أن يُكمل ابني تعليمه وسط هذه البيئة السلبية.”
ويوجد فريق يُلقي بمسؤولية العنف بين الطلاب على كراهية شريحة كبيرة منهم لكل ما يرتبط بالمدرسة، لأنها أصبحت بيئة طاردة وغير سوية وتفتقد الأنشطة التي يخرج فيها التلاميذ طاقاتهم السلبية، وصاروا يوجهون الغضب والضغوط ضد بعضهم البعض، لكن شريحة أخرى ترفض تلك المبررات بدليل أن هناك مدرسة دولية تعج بالأنشطة ولا تخلو من وجود العنف.
قالت بثينة عبدالرؤوف الخبيرة التربوية في القاهرة إن ما يحدث من عنف بالمدارس يعود إلى أن الأجيال الجديدة تتأثر بثقافة التحرر غير المنضبطة، وهناك أولياء أمور يعتقدون أنه كلما أنفقوا على المدارس، سوف يوفرون لأبنائهم بيئة تربوية سليمة، وأن الأبناء يختلطون بمن هم على شاكلتهم من نفس الطبقة الاجتماعية.
وأوضحت لـ”العرب” أن الأهالي لا يُدركون أن الطبقة الثرية وإن تشابهت في الحياة المظهرية تختلف في الأخلاق والتربية بالتبعية، ودور الأسرة يسبق دور المدرسة في التنشئة السوية، ولو كان هناك مدير قيادي واستطاع أن يُحاسب الطالب المتجاوز، فإنه قد يصطدم برفض تام من الأسرة لتدخل المدرسة في التربية بحجة أنهم صفوة.
وتشير الكثير من الوقائع إلى أن المدرسة إذا كانت فقدت دورها التربوي، فإن وزارة التعليم أيضا وقعت في نفس الخطأ عندما أهملت رقابة المدارس، خاصة الدولية منها، لأسباب مرتبطة بالنفوذ ودائرة العلاقات كون أصحابها من شريحة رجال الأعمال وبعضهم يعتقد أنه فوق القانون، وانتقل ذلك بالتبعية إلى الأهل، وأنهم يدفعون مبالغ طائلة نظير تعليم وحرية أولادهم.
وقالت نهى عدلي، وهي أخصائية نفسية بمدرسة دولية، لـ “العرب” إن بعض الطلاب يعانون من مشكلات نفسية كبيرة يأتون بها من المنزل إلى المدرسة، والكثير منهم يشكلون ما يشبه العصابة ويمارسون التمرد الجماعي على القواعد المدرسية ويرفضون فرض المدرسة لدور رقابي، ما يعني أن الأسرة الأساس وليست الاستثناء.
وأكدت أن بعض أولياء الأمور يتعاملون مع المعلمين والمعلمات كأنهم يعملون لديهم، وليسوا شركاء في تربية أولادهم، وهناك وقائع عنف وتنمر بشكل متكرر لا يتم الكشف عنها، ولا تتحرك الجهات المختصة قبل نشر الواقعة على مواقع التواصل، ما يعكس وجود خلل حقيقي في التربية قبل التعليم داخل المدارس.
وعقّبت سهير صفوت أستاذ علم الاجتماع ومستشار وحدة دعم المرأة ومناهضة العنف بجامعة عين شمس في القاهرة، بأن ما يحدث من انفلات أخلاقي بين بعض الطلاب في المدارس من انتهاج للعنف بأشكاله المختلفة يعود إلى عدة عوامل، أبرزها غياب دور الأهل واعتقادهم أن توفير مقومات المعيشة والرفاهية لأبنائهم يكفي، وهذا خلل واضح في مفاهيم التربية.
وأشارت في تصريح لـ”العرب” إلى أن انشغال الأبوين بالعمل والربح المادي يفقدهما التواصل والحوار مع الأبناء، ويتركانهم وقتا طويلا خارج أو داخل المنزل دون رقابة حقيقية، كما أن المشكلات الأسرية أخطر شيء على سلوك الأبناء وجعلهم يدمنون العنف تجاه الآخرين، ومن سوءات بعض الأسر المجاهرة بالمشاجرة أمام الأبناء، لأنها تنتقل إلى المدرسة.