اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد

الخلود البشري مسألة مستحيلة لكن القراءة في عمقها قد تمنح الإنسان خلودا جزئيا، فتسافر بروحه إلى عوالم أرحب من جدران منزله وأسوار مدينته.
الأربعاء 2025/01/22
اطلبو العلم أينما كنتم

في الرابع والعشرين من يناير في كل عام يحيي العالم اليوم العالمي للتعليم، يوم هذا العام يذكرنا بالكثير من البشر المحرومين من نعمة العلم، بعضهم حرم منها جراء الحرب كأطفال غزة والسودان واليمن وآخرون جراء أوضاع اقتصادية وفقر وانتهاكات لحقوقهم.

العلم لا يقتصر على الطفل، ولا هو محدود بسنوات الدراسة من الابتدائي حتى التعليم الجامعي، إنما هو عادة يومية يمارسها المرء العاقل منذ وعيه على الحياة حتى مماته، ومن لا يؤمن بذلك ويتخلى عن التعلم المستمر سيجد نفسه متخلفا عن الركب البشري.

وأن يتعلم الإنسان لا يعني أن يقرأ الكتب ويشارك في دورات تدريبية ويتعلم وفق الأطر الأكاديمية، بل ربما يتعلم من مخالطة البشر وانتباهه لسلوكياتهم وأفكارهم أكثر مما تختزنه الكتب. الحياة مدرسة كبيرة تمنحنا فرصة التعلم بالدروس والتجارب، ينطبق عليها شعار “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”.

لكن شئنا أم أبينا فإن الباحث عن العلم دوما ستجده شخصا مقبلا على التجارب، قارئا نهما، يبحث عن المعرفة أينما كانت، يقارن هذا بذاك ويصنع لنفسه منهاجا واضحا في الحياة. هكذا هم أشهر المؤثرين في العالم، أغلبهم لديه عادة البحث والتعلم. وحدهم المؤثرون في منطقتنا العربية يزيدون الطين بلة ويقنعون المراهقين والأجيال الناشئة بأن لا فائدة من القراءة والتعلم، بعضهم فقط من تخصص في صناعة فيديوهات تشجع على استمرارية التعلم.

في منطقة أغلب سكانها من المسلمين، يدركون جيدا أن أول أمر نزل على نبيهم هو “اقرأ”، تقول الإحصائيات إن أطفالها متخلفون عن ركب التعلم والقراءة. ففي حين يقرأ الطفل الأميركي 6 دقائق يوميا، يقرأ الطفل العربي 7 دقائق سنويا، وفق تقرير صادر عن منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.

المنظمة تقول إن معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي سنويا هو ربع صفحة فقط، بينما مؤسسة الفكر العربي أصدرت تقريرا يفيد بأن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويا، بينما لا يتعدى متوسط قراءة المواطن العربي 6 دقائق سنويا.

وينشر العالم العربي 1650 كتابا سنويا، في وقت تنشر فيه الولايات المتحدة 85 ألف كتاب سنويا.

ماذا يمكن أن يتعلم رجل قرأ 6 دقائق طوال عام بأكمله؟ إن قرأ في الدين، وهو أكثر ما يقرأ فيه العرب، فلن يكفيه عمره كاملا ليعرف دينه، حتى إن قرأ في أي مجال آخر بهذا المعدل فلن يكتسب شيئا.

هذا التخلف عن ركب القراءة والتعلم وتهذيب النفس هو ما يفسر تبعية العرب وتحولهم إلى شعوب يسهل توجيهها والتحكم فيها وإقناعها بأفكار رجعية، يكفي أن يغلفها المتكلم بغلاف ديني أنيق، ويلعب قليلا على وتر العاطفة والثواب والعقاب ليقودهم حيث شاء وكيفما شاء.

في تونس، يتبنى البعض شعار “إلى قروا ماتوا واللي ماتوا قروا عليهم” (من قرأ مات مثله مثل غيره، ومن مات قُرئ عليه القرآن ودعاء الميت)، هذا المثل الشعبي خير إثبات لعجز البشر، لاستسلامهم، لاقتناعهم بلا جدوى التعلم. من روجه بينهم؟ لا أحد يعلم، ربما قيل في أحد المسلسلات أو المسرحيات أو اللقاءات التلفزيونية، وانتشر بسرعة، ليغطوا به عجزهم عن استمرارية التعلم والقراءة، وتغليفهم الأمر بالهزل وبالاستحالة أيضا، فالمثل يربط القراءة بالموت وكأن من يقرأ يسعى للخلود ليكتشف في الآخر أنه زائل.

والخلود البشري مسألة مستحيلة، لكن القراءة في عمقها قد تمنح الإنسان خلودا جزئيا، فتسافر بروحه إلى عوالم أرحب من جدران منزله، وأسوار مدينته، قد تطلعه على العالم خارج منظور المجموعة التي ينتمي إليها، تعيده إلى أقوام رحلوا وربما تأخذه إلى أقوام متخيلين لم يأتوا بعد. اقرأ إذا، في القراءة حيوات أخرى لم تمنحنا الحياة فرصا لنحياها.

18