"عينا مونا".. رحلة في عوالم الفن بحثا عن العين المطلقة

رواية غير مألوفة تدعونا لإعادة اكتشاف جميع حواسنا.
الأربعاء 2025/01/22
كيف تخلد الفنون وكيف نراها

الكثير من الأعمال الروائية تتناول قضايا فنية مختلفة مثل السينما أو المسرح أو الرسم أو الموسيقى أو القص أو غيرها من الفنون، وقد يكون التناول جزئيا من خلال الشخصيات أو كليا كموضوع، لكن المختلف في رواية "عينا مونا" أنها رحلة وافية لعشاق الفن التشكيلي في تاريخه وبين رموزه وذلك بعيني طفلة تكاد تفقد بصرها.

إيقاع متجذر من روح النقد قدمها الناقد الفني الصحافي والكاتب الفرنسي توماس شليسر في روايته الأولى "Les yeux de Mona" الصادرة عن دار ألبان ميشال، والتي حققت أعلى نسبة مبيعات في فرنسا لسنة 2024، وترجمت إلى أكثر من لغة وانتقلت إلى اللغة العربية مؤخرا بعنوان “عينا مونا” بحسية عالية وتعمق مميز ولغة ثرية طرزتها روز مخلوف ونشرتها دار وسم للنشر.

البصيرة والفن

♦ الرواية تحمل فكرة مختلفة من حيث النمط الكتابي بين الرواية والنقد، بين التأمل والسرد، بين الحبكة والأثر الفني

القصة هي منفذ للحب بروابط عائلية تصارع من أجل الثبات المادي والمعنوي، حياتها مبنية على تفاصيل مُفعمة بالجمال والإنسانية. استطاعت العائلة أن تكون حكاية مفتوحة على تاريخ الفن لمدى خمسة قرون من خلال مونا الطفلة التي تبلغ من العمر عشر سنوات، والتي تعيش في باريس، بينما أمهلها الطب الذي عجز أمام حالتها 52 أسبوعا قبل فقدان بصرها بشكل تام.

تحمل الرواية فكرة مختلفة من حيث النمط الكتابي بين الرواية والنقد، بين التأمل والسرد، بين الحبكة والأثر الفني، لم تخف اختصاص الكاتب في تاريخ الفنون الجميلة، ولكنها حملت رحلة شغفه بين الأعمال الفنية الإنسانية التي أراد تكريمها بفعلين مختلفين ارتكزت عليهما الرواية، النظر والبصر، العين التي ترى والعين التي تُبصر، حملها هنري الجد من خلال حفيدته مونا في رحلة سافر بها وبالمتلقي عبر الفن بعينين من أجنحة وألوان رغم مرض أصاب عينيها ورغم افتقاد الأمل الباقي في وجود علاج لتلك الحاسة الأساسية لتمعن الفن، استطاع شليسر  أن ينتقل بين الحواس والذاكرة بين جيل الجد وجيل الحفيدة مونا، ليطرح الأسئلة ليثير التأملات ليبصر ويرى ويستسخف، ولينهل من أفكار بوتشيلي كرافاجي ودافينشي ورافييل غويا وكلوديل كاهلو وبيكاسو وفان جوخ وجورجيا أوكيف ورامبرانت وفرانز هالز.

“سيكون على مونا التي تثق به، وتوليه مصداقية لا توليها لراشد آخر، أن ترافقه إلى حيث تُحفظ أجمل الأشياء التي قدمها العالم وأكثرها إنسانية.. سيكون عليها أن ترافقه إلى المتاحف. إذا شاء سوء الحظ أن تصبح مونا يوما ما عمياء إلى الأبد، سيكون لديها على الأقل، في عمق دماغها، نوع من خزان تستقي منه روائع بصرية.”

حسب المنطلق السردي يطرح شليسر تساؤلاته الضمنية كيف نرى الفن؟ بالعين أو بالروح، بالذاكرة والتفاصيل أو باللحظة والسفر فيها، بالشغف والاكتشاف أو بتبعية البحث السائد في قوالب الأعمال الأشهر والاكتفاء بزيارة المتاحف، فبين اللوفر وأورساي وبومبيدو، غاص هنري الجد في ذاكرته وتماس الشغف الأول بالفن بشكل ذكي وبتدرج مرحلي، فغرقت مونا في حيرتها وتأملاتها التي استفزت انغماسها في اللون والحركة والإيقاع والحكمة الخالدة لكل أثر بين الدهشة والسذاجة والسؤال والاقتناع.

رغم كثافتها فالرواية عابرة للأزمنة ومختلفة من حيث الطرح النقدي - كتاب من 524 صفحة - إنها رحلة في عوالم الفن من عصر النهضة إلى الكلاسيكي والحديث والمعاصر تفاصيل الأثر والفنان، إلا أن قارئ الرواية بالفرنسية وقارئها بالعربية لن يشعر بالملل من حيث تلك الصنعة الحسية في تطويع الفن في حكاية قصة اعتيادية مألوفة الحبك والأحداث، عائلة بسيطة، هواجس واقع وإيقاع مختلف بين الأجيال، بين الهوية والذاكرة والتذكر، لغة تبدو سلسلة مألوفة وحكاية تدور بشكل بسيط ومعقد في آن واحد، تملكت روز مخلوف مفاتيحها برقة وانسياب في أمانة حمل اللغة من اللغة.

تحتاج الرواية صبر عاشق فنون، يحمل نفسا أطول لكشف سرها الأجمل، ومكتشف فنون للوقوع في ذلك السر، وإنسانا بسيطا عاشقا للحكاية حتى يحمله الجد معه ليكتشف مراحل البدايات الفنية ويغوص في تاريخ الأعمال الخالدة التي وصفها شليسر بدقة وقرأها بعناية وإلمام وكأنه يعيد رسمها باللغة مجددا لتحيا.

العين المطلقة

تخلق الرواية تساؤلات داخلية تعيد تطويع النفس على الاستمرار، ثم ماذا بعد؟ وكأن القارئ نفسه يصبح بدوره مونا ينتظر يوما آخر “أربعاء” لاكتشاف عمل آخر وقصة أخرى تضمينا وبحثا قد حول هنري وضمنيا شليسر إلى شهرزاد الحكاية وهي تحبك القصص في القصص حتى تروض الجمال وتقنع الآخر حتى لا يضجر، وهو في الأصل دور توماس شليسر الكاتب المؤرخ الناقد الذي نجح في تطويع السرد مع النقد بطريقة ذكية حملت اللغة تماهيها بين أسلوبين كانت فيه روز مخلوف وفية للحرف متقمصة لجماله في ترجمتها.

"هذه الطفلة، قال هنري في سره، تتمتع بمخيلة خصبة، لكن الملاحظة لم تكن تفتقر إلى الحدس، أعجبته رؤية فان جوخ على هذا النحو الغوغائي أليس الجنون بالنهاية كرنفالا كبيرا تقيمه مع نفسك؟"

يحاول شليسر أن يطرح الأسئلة الساذجة على لسان مونا وكأنه يتقمص الدورين معا مونا وجدّها، حتى يتجاوز فكرة لماذا تخلد الفنون، وكيف للموناليزا أن تكون الأشهر حتى لو بهتت ألوانها، كيف تكون لوحة الابتسامة وهي حزينة في نظر مونا، فالتحول في حوار هنري ومونا يعكس طرحا مختلفا لفكرة قراءة العمل الفني بالحاسة، بالانتماء بالتمييز بين قسوة النشأة وتفاصيل التمرد، كيف حمل الجنون فان جوخ لتقمص رامبو في جحيمه المنثور، وكيف أقبل رامبرانت على تطويع الظل في نور بحثه عن وجهه داخل مجسم الأطر، فكأنه يحمل تضمينا داخليا استطاع من خلاله استجماع فنانين آخرين وكتابا وعلماء نفس بزخم واضح التفصيل المنبعث من عالم الجد المصقول على المعرفة والمحبة ورحلته عبر مراحل الزمن التي طوعت بصيرته وجعلته “يقسم بكل ما هو جميل في الكون” وعالم طفلة العشر سنوات وهي تكبر بالفن وتستوعب مشكلتها وتفاصيل حياتها داخل أسرتها وما يرشح منها من مشاكل.

♦ الكاتب يحاول أن يطرح الأسئلة الساذجة على لسان الطفلة متقمصا دورها حتى يتجاوز فكرة لماذا تخلد الفنون

"لم يكن هنري من أولئك الهواة الذين يقصرون اهتمامهم على جسد مصقول عند رفاييل، أو خطوط فحم مقطعة عند ديغا، فقد كان يحب الجوانب شبه الاستفزازية في الأعمال الفنية، كان أحيانا يقول الفن إما أن يُحدث انفجارا أو أنه بلا قيمة، وكان يحب أن تكون الأعمال الفنية بأكملها أو بتفصيل فيها رسما أو نحتا أو تصويرا قادرة على إذكاء معنى الوجود.”

في قراءة للرواية يقول الصحافي الفرنسي باسكال فيردو إن الرواية تحمل تفكيرا عميقا وعلميا حول كيفية رؤية اللوحة، من خلال القماش، المناظر الطبيعية، الوجه، كما كتب شليسر “المشاهدون هم الذين يصنعون الصورة،” وأيضا بعض الرسامين مثل غينزبورو (المحادثة في الحديقة) نكتشف أحيانًا شخوصا تنظر إلى المتفرج وتدعوه إلى دخول اللوحة، فالرواية بمثابة بداية للجمال، ولكنها أيضًا دعوة لإعادة اكتشاف جميع حواسنا: تسعى مونا إلى لمس المادة، والاختباء بصمت في زاوية عمل معاصر.

الرواية تقول انظر إلى الأعمال الفنية أو بالأحرى تعلم النظر إليها، والتأمل مطولاً في أشكالها، وأنماطها، ولعبها بالضوء، ثم دع هذا الإحساس الأول، الحي، المنتشر، يطفو على السطح بشكل غير محسوس، هذا ما نسميه “العاطفة الجمالية”، فكل لقاء مع فنان يؤدي إلى درس في الحياة، أو”رسوب أخلاقي وفلسفي”. ففي كل مرة، يتحدث هذا الجد -الحساس والمثقف – إلى الطفلة وكأنها شخص بالغ، يجعلها كما قال كوكتو تثق بجسدها وحواسها وتأملاتها، وانطباعاتها المباشرة، فلا تحاول إخفاءها، حتى تقتنع بها ويسيطر عليها الجمال.

فبمرور الوقت، تستوعب مونا كل شيء، وتصقل خبرتها، ويلاحظ الجد أنها تمتلك “العين المطلقة”، كما نقول أحيانًا عن الموسيقي، فمن خلال هذه الجولات، تنشأ رابطة عميقة بين هذين الكائنين، مختومة باتفاق سري، “لا تقل أيّ شيء للكبار، الذين سبق للأمير الصغير أن تحدث عنهم بريبة في عصره، فهم عالقون في مشاكلهم اليومية، يتخيلون أن مونا تذهب لزيارة طبيب نفسي للأطفال.”

الرواية التي يقدمها توماس شليسر ليست من النوع المألوف سرديا رغم تكامل النص والاسترسال والترابط ولكن كمّ المعلومات والكثافة قد يحملان القارئ إلى زحمتها لدرجة أنه لا يتوه إذا ضاعت منه صفحة، أو ربما قد يضيع نفسه عمدا وحتما سيجدها بين تفاصيل لوحة وفنان واكتشافات حسية وذهنية.

الرواية وكما قال عنها شليسر ليست دروسا في الفن إنها دروس للحياة، تفاصيل تعيد للجمال رؤاه وللفن دوره في مدى اتساع العين لفهم العميق بالبسيط لأن رغبة الجمال قائمة، ولأن الفن لا يتحدث وحده عن نفسه، فالفن يتحدث عنا نحن، يتحدث عن الإنسانية، عن الوجود، يعلمنا كيف نتلقى، لذلك حرصت على الوصف بدقة دقيقة حتى أحمل الرؤية إلى من يستحقونها، ولذلك حرصت على أن يكون الكتاب بلغة برايل حتى تكون الرؤية ذات جدوى تليق بالجمال الإنساني الخالد.

13