ديفيد لينش مخرج جمع الفنون في فن الصور المتحركة

رحيل فنان جريء سرد قصصا مرئية عن التوترات الاجتماعية.
السبت 2025/01/18
مخرج ربط الواقع برؤاه الفنية

ودعت الأوساط السينمائية في الولايات المتحدة والعالم ديفيد لينش الذي رحل بعد مسيرة حافلة بأفلام متمردة على الضوابط الأكاديمية، اقتربت أكثر من المجتمعات وجعلت منه واحدا من عمالقة السينما في هوليوود، وستظل شاهدة على فرادة أسلوبه وسعيه الدائم نحو مزج الفنون التي يحبها ليروي قصصا بصرية ممتعة.

الرباط - ترك المخرج الأميركي ديفيد لينش (1946 – 2025) مسيرة سينمائية ممتدة على عقود، أحدث خلالها أثرا كبيرا في عالم صناعة الأفلام، حيث طور أسلوبا خاصا امتاز بتوظيفه شغفه بالنحت والنقش وحبه للفنون في تركيب الصور المتحركة، وهذا ما جعله مخرجا يشد الانتباه لأعماله منذ اللحظات الأولى. وكان فيلمه الأول “إيريزر هيد” إعلانا واضحا عن أسلوبه الفريد في التعامل مع السينما، حيث كانت الصور المزعجة والأجواء المظلمة تثير مشاعر الجمهور وتدفعه إلى استكشاف عوالم جديدة مليئة بالغموض صنعها عقل هذا الرجل.

وحصل لينش على ثلاثة ترشيحات لجائزة الأوسكار كأفضل مخرج عن أفلامه البارزة "بلو فيلفت" و"ذا إلفنت مان" و"مولهولاند درايف"، وهذه الترشيحات الثلاثة أفضل دليل على تأثيره الكبير في هوليوود. تبنى أسلوبا مبتكرا في السرد جعله يحظى بإعجاب واسع بين زملائه والجماهير ونقاد السينما، إذ وصفه المخرج رون هاورد بـ”الرجل النبيل والفنان الجريء”، بينما عّبر الموسيقي موبي عن حزنه العميق لفقدانه، مشيرا إلى تأثيره العميق على الفن والموسيقى.

وتجاوز تأثير لينش حدود الفن السابع ليصل إلى عالم التلفزيون من خلال عودة “توين بيكس” في عام 2017، وهذه العودة كانت تجسيدا لشغفه المستمر وإبداعه الذي لم يتوقف حتى في سنواته الأخيرة، حين كان يعاني من انتفاخ في الرئة جراء سنوات طويلة من التدخين، ورغم التحديات الصحية تمسّك بإبداعه ورفض التقاعد، وواصل تقديم أعماله الفنية المميزة التي أثرت في العديد من الأجيال. وفي مقابلة له عام 2024، تحدث عن عملية إبداعه وعن تعاونه مع المؤلف الموسيقي الراحل أنجيلا باتي، حيث أشار إلى أهمية الصوتيات في أعماله التي تساهم في إيصال مشاعر مختلطة.

◙ لينش عمل على تطوير أسلوبه الفني ليكون متنوعا وغير تقليدي، واستلهم من مختلف أنواع الفنون ودمج بينها
◙ لينش عمل على تطوير أسلوبه الفني ليكون متنوعا وغير تقليدي، واستلهم من مختلف أنواع الفنون ودمج بينها

ونال لينش العديد من الجوائز والتكريمات طوال مسيرته المهنية، بما في ذلك “السعفة الذهبية” في مهرجان كان عن فيلمه “وايلد آت هارت” عام 1990، بالإضافة إلى جائزة الأوسكار الشرفية عام 2020، ورغم الجوائز العديدة التي حصل عليها يظل شغفه العميق بالسينما هو ما يميز إرثه الحقيقي. ورحيله يترك فراغا كبيرا في عالم السينما، لكن تأثيره سيستمر في إلهام الأجيال القادمة والاحتفاظ بمكانته كرمز فني خالد.

نشأ ديفيد في بيئة مليئة بالتجارب الفنية التي كان لها دور كبير في تشكيل رؤيته الإبداعية، حيث لم يتبع المسار الأكاديمي التقليدي وقرر أن يكون امتهانه للفن بعيدا عن التعليم الجامعي بعد أن شعر بعدم التوافق مع الأنماط التقليدية للفن، وترك دراسته في مدرسة المتحف في بوسطن وبدأ يتجه نحو البحث عن أسلوبه الخاص، وهذه التجربة المبكرة انعكست على أسلوبه الفني فيما بعد، إذ بدأ يعمل على فهم الفن خارج حدود الدروس الجامعية، ففكرته كانت تنبثق من أسلوب حياة شعبي متأثر بالواقع الاجتماعي والبيئي المحيط به بعيدا عن الأنماط الجامدة.

واستمر الفنان في توجيه اهتمامه نحو خلق أسلوب يعكس هذه التجارب الشخصية، وعاش فترة من الزمن في مدينة فيلادلفيا، حيث كانت بيئتها مليئة بالاشتباكات الاجتماعية والتجاوزات الإنسانية، وهذا الحراك الاجتماعي شكل وعيه الفني وأعطاه الكثير من المواد التي يمكن أن ينطلق منها في مشاريعه المستقبلية، إذ ربط بين الواقع الذي يعيشه وبين رؤاه الفنية، وكان يسعى جاهدا إلى التعبير عن التوترات الاجتماعية من خلال أعماله الفنية.

وعمل المخرج الراحل على تطوير أسلوبه الفني ليكون متنوعا وغير تقليدي، واستلهم من مختلف أنواع الفنون ودمج بينها، مثل الفنون التشكيلية والفيديو والصوت والموسيقى، فخلق بذلك أعمالا فنية تتسم بالابتكار والتجديد المستمر، وفنه كان يتجاوز حدود المشهد البصري البسيط ليخلق تجربة حسية متكاملة، واستخدم الصور المتحركة بشكل مبتكر، ودمج الأدوات الفنية الحديثة ليصل إلى تجسيد معاناة الإنسان المعاصر بشكل أكثر دقة، وهذا المزج بين الأبعاد المتعددة جعل أعماله أكثر قوة، إذ يستطيع الجمهور التفاعل معها بشكل متنوع بدءا من التفاعل البصري وصولا إلى التأثيرات النفسية.

وبحث ديفيد أيضا عن وسيلة لدمج الواقع الشخصي في أعماله الفنية، فوظف العلاقات التي كانت له مع عدد من الفنانين على امتداد مراحل مختلفة من مسيرته لإثراء أعماله، خاصة علاقته مع بيتر وولف، الذي كان له دور كبير في التأثير على طريقة تفكيره حول العلاقة بين الموسيقى والفن البصري، فتلك الروابط كانت من العوامل التي أضافت إلى أعماله المزيد من الغنى الفني؛ فهو لم يتوقف عند الفن البصري بل وسع أفقه ليشمل الصوت والموسيقى كعنصرين مؤثرين بشكل كبير في سرد القصص المرئية.

◙ ديفيد لينش مخرج ربط بين الواقع الذي يعيشه ورؤاه الفنية، وكان يسعى جاهدا إلى التعبير عن التوترات الاجتماعية
◙ ديفيد لينش مخرج ربط بين الواقع الذي يعيشه ورؤاه الفنية، وكان يسعى جاهدا إلى التعبير عن التوترات الاجتماعية

وفتح ديفيد آفاقه لتطوير أسلوبه الفني من خلال السفر والاحتكاك بثقافات متعددة، مستلهما من الهويات المختلفة التي اكتسبها من بيئات متنوعة، وهذا التنقل الجغرافي كان له تأثير كبير على فنّه، إذ بدأ يرى الهوية كعنصر متغير عبر النظرة الثقافية ومن خلال التفاعل البصري مع العالم من حوله، وعند دخوله في هذه التفاعلات الاجتماعية والثقافية أصبحت أعماله أكثر تعبيرا عن الإنسان المعاصر وتحدياته الداخلية، ما سمح له بأن يصبح أحد أبرز الفنانين في استخدام الفنون المتعددة لخلق تجارب متكاملة.

وانشغل لينش بتطوير أعماله التي تقتصر على نقل الصور المرئية وركز فيها على تقديم تجربة حسية تدمج بين السمع والبصر والحركة، وتجاوزت هذه الأعمال الحدود التقليدية لتصبح نوعا من التفاعل بين المشاهد والعرض، بحيث يستطيع الجمهور أن يكون جزءا من العمل الفني، وركز على فكرة أن الفن يجب أن يكون ذا تأثير مباشر على المشاعر، فتمكن من أن يجعل أعماله مثيرة لجميع الحواس، من خلال استخدام الفنون الأخرى مع الصور والضوء والصوت في صناعة الفن السابع وخلق تجارب المشاهدين النفسية.

وكان ديفيد أيضا يعنى بتقديم أعمال تحتوي على عناصر من التأملات الداخلية والروحانية، فاستطاع أن يعبر عن صراع الإنسان بين الذات والعالم الخارجي، وكان يعتقد أن هذا الصراع هو جوهر الفن، إذ من خلاله يمكن أن يصل الفنان إلى معانٍ أعمق وأكثر تعقيدا، وكان يعبر عن هذه الأفكار في أعماله باستخدام الرمزية والألوان والصور المجازية، لتجسيد العلاقات المتناقضة بين الإنسان والواقع.

وتوفي المخرج الأميركي الشهير في 16 يناير 2025 عن عمر يناهز 78 عاما، تاركا وراءه إرثا إبداعيا في عالم السينما والفنون البصرية، واشتهر بأعماله السينمائية والتلفزيونية التي تميزت بصفات سريالية فريدة جعلته واحدا من أعظم المخرجين في العصر الحديث، ووصفته لجنة من النقاد في صحيفة “الغارديان” عام 2007 بأنه “أهم صانع أفلام في العصر الحالي”، في إشارة إلى تأثيره العميق على الصناعة.

وترك ديفيد لينش بصمته من خلال أفلامه المميزة، مثل “رأس ممحاة” (1977) و”الرجل الفيل” (1980)، وصولاً إلى “طريق مولهولاند” (2001) و”إمبراطورية الداخل” (2006). امتزجت أعماله بالغموض والفلسفة والجمال، ما أكسبها طابعا فنيا يميزها. وكان لينش أيضا فنانا متعدد المواهب، إذ عمل رساما وموسيقيا وممثلا، ليظل اسمه رمزا للإبداع والتجديد في عالم السينما والفنون.

14