زكي نجيب محمود يحل مشكلاتنا العربية إذا قررنا استعادته

استعادة علم فكري أو ثقافي ما ليست عودة إلى الماضي، وإنما اكتشاف لمسارات فكرية يمكن البناء عليها لتجاوز معضلات الحاضر. هكذا يمكننا دوما العودة إلى رموز التنوير العرب، خاصة مع انتشار الأفكار السطحية المنغلقة في مجتمعاتنا، لذلك فإن استعادة مفكرين تنويريين من أمثال زكي نجيب محمود هي انتصار لمشروع التنوير.
الإسكندرية (مصر)- مشكلاتنا العربية معقدة، خيوطها متداخلة، تفاصيلها ملتبسة، يقف المرء في الكثير من الأحيان أمامها عاجزا عن الفهم والتحليل، فيميل في التعامل مع ما يداهمه من أحداث وقضايا إلى الأسهل، وهو أسلوب مشجعي كرة القدم، المحصورين في التنافس بين قطبين وحيدين، فإما التأييد الكامل أو الرفض المطلق، مع أو ضد، ولا شيء في المنتصف.
يكون الحل أحيانا في الرجوع إلى الماضي، فلدينا في تاريخنا حقب مزدهرة، وليست كل عودة إلى الوراء ردة معرفية، لكن بشرط أن نختار ما نعود إليه، فماذا نختار؟ وإلى أي ماضٍ نعود؟
الإجابات أصبحت رهينة بمستوى وعي كل امرئ وثقافته، فلدينا حقب القتل والدم والإرهاب، ولدينا أيضا عقود من الفكر والتنوير والازدهار.
المفكر الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1905- 1993) واحد من أعلام العقل والعلم في ثقافتنا العربية، ونموذج مضيء يمكن أن تنير العودة إليه طريقنا، لفهم مشاكلنا أولا ثم حلها. وهذا ما فعله منبر ثقافي مهم هو مكتبة الإسكندرية بمصر التي أقام قطاع التواصل الثقافي فيها مؤخرا ندوة شاركت فيها نخبة متميزة من العقول، تحت عنوان “زكي نجيب محمود الفيلسوف الأديب”.
أي ذاكرة نسترجع؟
تبدو محاولة استعادة فكر زكي نجيب محمود في وقتها تماما، فهو بوصف الأكاديمي مدحت عيسى مدير مركز ومتحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية في كلمته لتقديم الندوة “أحد أئمة الفلسفة العربية العقلانية في القرن العشرين، وعلامة للثقافة العربية وفكرها الحداثي، وإليه يرجع الفضل في اقتحام المنهج العلمي خطاب الثقافة العربية.”
وأكد أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية أننا في مجتمعنا العربي المعاصر بطوله وعرضه ربما نكون في حاجة إلى أن نسترد ذاكرتنا، لنستعيد زخمنا الحضاري عبر التاريخ وإنتاج مصر مفكرين وفلاسفة وما شهدته من نهضة ثقافية ازدهرت منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. لكن أي ذاكرة نسترجع؟
فرق زايد بين ما يسميه الذاكرة الحديثة والذاكرة التقليدية، قائلا “إن المزاج العربي العام أصبح أكثر ميلا إلى التعمق في الذاكرة التقليدية على حساب الحديثة التي تكاد تُنسى أو تُطمس أو تقتل أحيانا على مدافع الكلمات القاسية التي يطلقها المتطرفون، الذين يتخذون من الدين ستارا للسعي نحو السياسة، أو يفسرون الدين على أهوائهم بتفسيرات لا تمت للدين بصلة.”
والمحصلة أن المجتمع يتحول ليبدو كما لو كان يحن إلى التقليد أكثر من حنينه إلى الحداثة والفكر العقلي الذي صنعه عدد كبير من المفكرين بدءًا من محمد عبده وعبدالله النديم وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وعباس العقاد وطه حسين وعلي عبدالرازق وأحمد شوقي، وغيرهم كثيرون.
يعتبر مدير مكتبة الإسكندرية أن استرجاع التراث العقلي في ثقافتنا، والبناء عليه، وإزاحة التراث الذي يرجعنا إلى الماضي، والتأكيد على الروح المدنية التي ازدهرت في تاريخ العرب في الزمن الحديث، أمور قد تؤدي بنا إلى الانتصار في المستقبل، لتغدو المجتمعات العربية مدنية بحق.
ويعد زكي نجيب محمود من أهم المفكرين المصريين الذين يجب الالتفات إليهم، في رأي أحمد زايد، معتبرا أنه لم يأخذ حقه كثيرا في الاحتفاء به واستعادة فكره القائم على العقل والعلم، فهو من أكثر من دافعوا عن العقل في مقابل الخرافة وعن العلم ضد التخلف والجهل، وعندما نقرأ بعض أطروحاته عن المجتمع المصري نجد أننا نعيش اليوم في نفس المشكلات ونواجه نفس التحديات.
هو رجل صاحب قضية تمسك بها ودافع عنها حتى آخر لحظة في حياته، وحتى عندما رجع إلى التراث كان يبحث عن المعقول فيه ويعترف بأن به جوانب لا معقولة وأننا يجب ألا نتكئ عليها، أو كما يفسر زايد “ربما نقول إنه كان يبحث عن جذر حداثي في التراث.”
ويؤكد حاجتنا الآن إلى إعادة إحياء هذه الذاكرة بدلا من ذاكرة التقليد أو أن نقوم بقلدنة الحداثة أي أن نحولها إلى مجموعة من التقاليد، ويصبح التقليد هو النموذج، فالمجتمعات التي تتقدم إلى الأمام تناقش التقليد وتأخذ منه ما تريد أما نحن فننبهر جدا بالتقليد ونحبه.. نعشقه.
وليس البسطاء فقط هم من يعيدون إنتاج التقاليد، في رأي أحمد زايد، إنما حتى الطبقة الوسطى المتعلمة التي تدير الحياة الجامعية أو الإعلامية مثلا أو أي مجال، فهي تطبق أيضا أساليب تقليدية في سلوكها، فنحن نحب الزعامة والشللية والقبلية، وهذه الطبقة نفسها منها من ظهر داعيا إلى إعادة إنتاج التقاليد في أشكال دينية متطرفة، فخرج وتطرف وحمل سلاحا رغم أنه من المتعلمين.
“مجتمع جديد أو الكارثة” عنوان كتاب مهم للمفكر الفيلسوف زكي نجيب محمود، قدم رسالة واضحة وهي أن هذا العمران البشري في خطر، وإذا لم يتغير فسيتحول إلى كارثة، فهو كتاب يمثل نموذجا حيا لما يمكن تسميته بالفلسفة التطبيقية التي تنظر إلى المجتمع بعين ثاقبة، وما أحوجنا الآن إلى إعادة قراءته قراءة فاحصة.
ضد تيارات الظلام
يؤكد الأكاديمي مصطفى النشار رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة أن الاهتمام بالفكر الفلسفي في مصر أصبح ضرورة ملحة بعد أن همشت وزارة التربية والتعليم مادة الفلسفة، قائلا إن فلسفة زكي نجيب تقف على قدمين، هما العلم والعقل، وهما أساس التقدم في أي مجتمع، وبالتالي فإن تهميش الفلسفة يعني أنه لا عقل ولا علم.
أطفأت التيارات الظلامية نور زكي نجيب محمود، برغم أنه فيلسوف القرن العشرين في مصر والعالم العربي، كما يقول النشار. وفي أواخر كتاباته في صحيفة “الأهرام” كتب ردا على الهجومات الكثيرة عليه: “لا لن أكسر مغزلي”. واستمر في الكتابة حالما بأن يغير مجتمعا كاملا، وأن ينقل الواقع العربي والإسلامي من التهميش والتقليد إلى الحداثة وآفاق العالمية، لكننا كعادتنا دائما لا نستفيد ولا نواصل الاستفادة إذا وعينا بأهمية الرجل.
تكمن عظمة زكي نجيب محمود المدهشة في أنه لم يكتب فلسفة اصطلاحية غامضة ما يجعل الناس يكرهون الفلسفة وصناعها. وسأله الأكاديمي مصطفى النشار يوما “كيف تكتب في أعقد المسائل الفلسفية بهذا الأسلوب الواضح؟”
فرد الفيلسوف الأديب قائلا: “هما كلمتان فقط؛ أنا لا أكتب إلا حينما أهضم الموضوع وأقرأ عنه كل ما يمكن أن أقرأه، فما إن قرأت واستوعبت أكتب بالأسلوب الذي تظهر به الكتابة ولا أراجع، لأنني لو راجعت لشطبت الكثير مما كتبته وخرج النص غامضا ولم يفهمه أحد. وأنا أريد أن أكتب للناس؛ نحن نكتب للناس وليس لأنفسنا.”
وفرق زكي نجيب محمود بين رجلين “رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى.” وهو ما حاول الرجل فعله، كما يقول النشار.
وينقل من كتاباته أيضا قوله “معنى الحرية ليس بالضرورة أن أخرج على ما يعتقده الناس، بل معناه أن أعرف هذا الذي أتبعه من عقيدة بالتفصيل حتى لا أستند على أحد في شرحه لي.” كما كتب “لقد فشل الغرب وهو صانع العلم الحديث في أن يقيم لنفسه طريقا للجمع بين العلم والإنسان، فكان له العلم ولكنه فقد الإنسان.”
ويرى مصطفى النشار أن هذه الجملة الأخيرة تعبر عن إشكالية الحضارة الغربية الآن، فهي الحضارة ذات البعد الواحد، إذ تسير على قدم واحدة وتنسى الأخرى.
ومن هنا تأتي مشروعية محاولة زكي نجيب محمود ومشروعه في وضع فلسفة عربية تسد النقص في هذا الاتجاه، وتقوم على العقل والوجدان معا، كما ذهب في كتابه “تجديد الفكر العربي”، وهو ربما ما كان غائبا عنه في بداية حياته.
اكتشفنا أن كل الأفكار العظيمة التي كان الغرب يروج لها ما هي إلا أفكار للتجارة وليس للتطبيق، وللضحك على الناس والسيطرة على العالم دون وجه حق، كما يقول النشار، لذلك فإن دور الحضارة العربية الإسلامية الآن أن نكتشف ذاتنا كما قال زكي نجيب محمود، وأن نوازن بين مطالب العقل ومطالب الروح، لو أردنا أن يكون لنا إسهام في بناء حضارة جديدة.
وشهد فكر زكي نجيب محمود بعض التحولات عبر مسيرته، كما يشير الأكاديمي أنور مغيث أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب في جامعة حلوان إلى تحول عميق منها، جاء بزيارته الفكر الإسلامي زيارة مستفيضة ومدققة.
ويصف الفيلسوف الأديب بنفسه هذا التحول قائلا “ظللت حتى سن الخمسين وأنا أرى أنه لا حل لنا سوى أن نقلد الغرب كما هو، وعلينا أن نزيح من طريقنا كل ما يمنعنا من أن نكون مطابقين للغرب ومشابهين له.”
ويوضح مغيث أن تحوله الجديد جعله يتخلى عن هذه الفكرة، لأن لنا شخصيتنا، ومن الممكن أن نكون منخرطين في الحداثة مع استمرار هويتنا الإسلامية دون مطابقة الغرب تمام المطابقة، لذلك فهو يصف هذه المرحلة بين كل تحولاته الفكرية بأنه فخور بها، فبدأ اهتمامه بـ”المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري” و”ثقافتنا في مواجهة العصر” و”مجتمع جديد أو الكارثة”.
إنها محاولة لتوطين الحداثة والعلمانية التي آمن بها في مجتمعنا، كما يرى أنور مغيث، لأن الاكتفاء بالإشارة إلى مصادرها الغربية وفاعليتها في المجتمعات الغربية ليس كافيا لأن نتبناها، ولكن علينا أن نبين رسوخها في تراثنا، ولا تخالف ديننا، وأننا عندما نؤمن بها فليس معنى هذا أننا تخلينا عن أي شيء في ديننا، وهو ما عبر عنه زكي نجيب محمود في كتابه “رؤية إسلامية”.
وكثيرون قد يكتبون سيرهم الذاتية من المشاهير أو من يعدون أنفسهم كذلك، لكن السيرة الذاتية للفيلسوف هي فلسفته، لأن الفيلسوف عندما يكتب سيرته الذاتية إنما يقص مراحل تطوره العقلي والنفسي، كما يقول الأكاديمي بهاء درويش رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة المنيا، ويشير إلى جوانب من حياة المفكر الكبير وشخصيته قائلا إن التشاؤم والانطواء كانا صفتين ملازمتين له، وكانت أحلام يقظته أن يختبئ في غرفة وحده.
في الصغر ظهرت مشكلة صحية في عين زكي نجيب محمود، تم اكتشافها وهو في التاسعة من عمره، فكان أقرانه في المدرسة يسمونه “الأعمش”، ورأت أسرته أن الأفضل ألا يكمل تعليمه لأنه لن يؤدي به إلى أي وظيفة، فكان هذا يحزنه للغاية، وزاده إصرارا، فإذا قيل له لا تقرأ كثيرا حرصا على بصره كان يقرأ بشكل مضاعف. بدأ الأمر داخله عنادا حتى صار ميلا وعادة، على حد قول درويش.
يحكي زكي نجيب محمود المحب للتأمل منذ الصغر أنه شرد يوما بذهنه عبر النافذة في الفصل المدرسي، ناظرا إلى السحب، فوجد سحابة تشبه الجمل وأخرى تشبه بطة، ثم رأى سحابة كبيرة كأنها تأمر بقية السحب، فقال عندئذ “هذا هو الله.. فقد قالوا لي إن الله في السماء.”
ويستيقظ الطفل من شروده بركلة في جنبه وضربة يد من معلمه بينما يضحك الأطفال عليه. وبعد سنوات طوال يكتب معلقا على الموقف”ليت المعلم يعلم أن العين العوراء مازالت إلى الآن تنظر إلى السماء، لا تبحث عن الله فقط، ولكن عن الكون والوجود وتفسيراتهما، وليته يعلم أن هذه العين العليلة إذا كانت حافزا في وقت من الأوقات لكنها ظلت مصدر خوف ممض مما قد تكشف عنه الأيام.”
ويبدو أن عدم الاهتمام بشكل كافٍ بزكي نجيب محمود وفكره ليس وليد اليوم، إذ يقول الصحافي المصري مصطفى عبدالله الذي اقترب من الفيلسوف الكبير في حياته إن ثلاثين عاما مرت على رحيله قبل عامين ولم يهتم بإحياء ذكراه أحد، فضلا عن مئوية ميلاده عام 2005، ويتساءل: لماذا نهمل هذا الرجل؟
أقام زكي نجيب محمود في شقة بالعمارة المجاورة للعمارة التي كانت تضم مقر السفارة الإسرائيلية، وحولها دارت أحداث الفيلم الشهير “السفارة في العمارة” للفنان عادل إمام، الذي قد نشاهده للمرة المئة لكننا لا نتذكر زكي نجيب محمود في العمارة المجاورة، كما يقول الصحافي المصري.
ويضيف أنه كان يقوم برحلة صيفية سنوية إلى بريطانيا، ليعرف بنفسه آخر ما تم إنتاجه من كتب ودراسات وأفكار جديدة، ولم يكن يسعى إلى جائزة، حتى أنه فوجئ بعد عودته من إحدى الرحلات بخطاب في صندوق بريده وصل قبل شهرين يخطره بحصوله على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فاعتز بها للغاية، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في مصر وجائزة سلطان العويس.
وسأله مصطفى عبدالله يوما قائلا “هل أنصفك النقاد؟” فردَّ بأنهم لا يعملون، أي أنهم لا يقومون بدورهم المفترض أن يقوموا به في ممارسة النقد، إذ أن بعض أعماله ومنها كتاب “حصاد السنين” لم يُكتب عنه أكثر من ربع عامود في الصحف المصرية، بالرغم من اهتمام الصحافة العربية به.
يبقى أن نستعيد جانبا من كلمات الرجل لعلنا نعرف لماذا صرنا على ما نحن عليه، إذ يقول “الأصل في الفكر إذا جرى مجراه الطبيعي أن يكون حوارا بين لا ونعم وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكرا، ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكرا، ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد.”