رواية سعودية تعيدنا إلى قول نيتشه: لا توجد حقيقة بل تأويلات لها

أميمة الخميس تكشف الصراع بين التاريخ الرسمي والرواية الأدبية.
الجمعة 2025/01/10
تحد لصورة الشرق التقليدية (عمل للفنانة زينب الماحوزي)

الحقيقة نسبية دائما، هذا ما أقره العلم وما أثبتته الفلسفة، لا يوجد وجه واحد للحقيقة، وهذا ما يطرح تحديات كبرى لكل من يريد تناول التاريخ، خاصة في الفنون، فبينما يراه البعض حقيقة كاملة لا يجوز المساس بها، يرى آخرون أن هناك قراءات متعددة يمكن أن نقرأ بها التاريخ، هذا الجدل نجده مثلا في رواية الكاتبة السعودية أميمة الخميس.

رواية “عمة آل مشرق” للروائية أميمة الخميس تشكل حكاية أدبية تجمع بين الذاكرة التاريخية والتأويل الأدبي، موضحة الصراع بين التاريخ والرواية، وبين التوثيق الرسمي والتفسير الشخصي. يظهر هذا الصراع جليًا في الحوار الدائر حول حكاية ترغب عائلة آل مشرق في توثيقها، إذ تظهر التوترات حول ماهية التوثيق وحقيقته، ومن يملك الحق في تحديده.

إذًا هل يمكننا اعتبار الرواية تأملًا فلسفيًا في وجود الإنسان ومعاناته؟ أم أنها تركز بشكل أكبر على البُعد الدرامي والتاريخي؟ وهل يُعد الصراع بين التوثيق الرسمي والرواية جوهر الرواية الأساسي؟ أم أنه بين التوثيق والرواية شهدنا صراع الحقيقة والخيال في “عمة آل مشرق”؟

التوثيق والرواية

الرواية تقدم لنا دروسًا هامة حول التفاعل بين الثقافات وفهم الاستعمار الثقافي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية
الرواية تقدم لنا دروسًا هامة حول التفاعل بين الثقافات وفهم الاستعمار الثقافي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية

تتناول الرواية قضية هامة، هي التوتر بين التوثيق التاريخي الرسمي والرواية الأدبية. في مسعى أفراد العائلة لتوثيق حكاية عمتهم، يتمسك البعض بفكرة الحفاظ على السرد بعيدًا عن القيود التي يفرضها التوثيق الرسمي. الشخصية التي تتحدث نيابة عن عائلة آل مشرق تُوضح: “وهذا ما لا نريده أبدًا ونتحاشاه كعائلة، التوثيق سيتطلب صيغة رسمية، وموافقات من جهات معينة، أي حكاية رسمية هي جزء من تاريخ المنتصر.” هذه الجملة تبرز الصراع بين التاريخ الرسمي، الذي يخضع للسلطة السياسية أو التاريخية، وبين الرواية الأدبية التي تُتيح حرية التأويل والتفسير.

بينما يتطلب التوثيق التاريخي شهادة رسمية لجميع المشاركين فيه، ما قد يحد من حرية السرد، تقدم الرواية مساحة مرنة تسمح للراوي بالتحرك بحرية بين الحقيقة التاريخية والخيال، مُحافظة على “الجانب الآمن” من السرد حيث “تتحرك بحرية في تلك المساحة، المتراوحة بين الحقيقة التاريخية والسبحونة الخيالية.”

 الرواية تمنح السارد حرية واسعة في تقديم الأحداث كما يراها، وهو ما يُبرز مفهوم “الحقيقة الثالثة” التي تجمع بين الواقع والخيال. فالحقيقة، وفقًا للرواية، ليست ثابتة أو مطلقة، بل هي مجال لتعدد التأويلات، تُرك فيه مكان للانطباعات الشخصية والخيال. فهل يمكننا، كما تشير الرواية، الوصول إلى “الحقيقة الثالثة” التي تقع بين الصدق والكذب؟

الرواية تشير أيضًا إلى تأثير الصناعة الثقافية الغربية على القصص المحلية، مثلما يُظهر القلق من تشويه حكاية العمة في فيلم أميركي. الشخصية تشير إلى أنه كان هناك مشروع جامعي حول الحكاية، قبل أن يتحول إلى فيلم أميركي، ما يفتح نقاشًا حول كيفية تأثير الثقافة الغربية في سرد القصص المحلية. في هذا السياق يشعر أفراد العائلة بأن السرد قد يُشوه ليتناسب مع تصورات الغرب أو الجمهور الأميركي، ما يؤدي إلى فقدان الأثر الثقافي للقصص الأصلية.

هذا الخوف من التشويه يعزز تفضيل العائلة للحفاظ على الحكاية في شكلها الأدبي، بعيدًا عن التوثيق الرسمي أو التحويل إلى فيلم. فالرواية أكثر مرونة في عرض القصة كما هي، دون التقيد بتفسير ضيق قد يقدمه التاريخ الرسمي أو السينما التجارية. ومع ذلك، يعكس السارد ترددًا داخليًا حيال هذا القرار، وهو ما يعكس الاستجابة الطبيعية لأي شخص يتعامل مع مهمة تتطلب الحفر في الماضي، خصوصًا عندما يكون الموضوع حساسًا ويعكس هوية ثقافية غنية. هذا التردد يتبدد مع اكتشاف الساردة أن الفيلم الأميركي قد يحرف التفاصيل، ما يثير في نفسها رغبة ملحة في اكتشاف المزيد من الحقيقة.

تقدم الرواية لمحات عميقة حول جدلية التوثيق والرواية، مؤكدة أن الحكاية ليست مجرد سرد للأحداث بل هي عملية معقدة تتشابك فيها الرغبات الفردية والجماعية، والتأثيرات الثقافية، والخيال. فالحقيقة، كما تُظهر الرواية، ليست ثابتة أو مطلقة، بل هي بناء مرن يمكن تعديله حسب الظروف والتأويلات المختلفة. بذلك، تصبح الرواية ملاذًا لحماية الذاكرة الجماعية من التشويه، إذ تتيح لها التنقل بحرية بين الواقع والخيال.

في الفصل الأخير، الذي يعكس صراعًا داخليًا بين السارد وعائلة آل مشرق، يظهر توتر واضح بين التوثيق الأكاديمي والتاريخ الشفوي. ويتضح أن التوثيق الرسمي قد يقتطع تفاصيل قد تكون غائبة عن السجل التاريخي، وهو ما يعكس الصراع بين الحقيقة الموثقة والتاريخ الشخصي الذي قد يحتوي على تفاصيل مشوهة أو غير دقيقة. هذا “الهمس” بين أفراد العائلة يصبح محوريًا في بناء الحكاية، حيث تتداخل الذكريات الشخصية مع الوقائع المادية للأحداث.

يستمر السرد في إظهار التحديات الفكرية التي يواجهها السارد في تحديد حدود الحقيقة والرواية، ويستعرض صراعه مع الوثائق القانونية التي قد تقيد حريته في الكتابة. ومع ذلك، يبقى السرد الأدبي أكثر حرية في تقديم الأحداث بطريقة أقل تقيدًا من التاريخ الرسمي أو السينما التجارية.

الغرب والشرق

أميمة الخميس تتناول في روايتها بذكاء قضية هامة هي التوتر بين التوثيق التاريخي الرسمي والرواية الأدبية
أميمة الخميس تتناول في روايتها بذكاء قضية هامة هي التوتر بين التوثيق التاريخي الرسمي والرواية الأدبية

رواية “عمة آل مشرق” تسلط الضوء على المعضلة الفلسفية التي طرحها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “لا توجد حقيقة، بل تأويلات لها.” الرواية تجسد هذه المعضلة عندما تجد نفسها بين التوثيق التاريخي الأكاديمي وتقديم الحكاية بحرية أدبية، حيث تنكشف الحقائق من خلال التأويلات المختلفة التي يقدمها الراوي. ففي النهاية تتجسد الرواية في حالة من التأويلات المتعددة، حيث تُعيد تشكيل الحقيقة وفقًا لرؤية الراوي، ما يعكس التحديات التي تواجهها في محاولات تمثيل الحقيقة في ظل التوتر بين التأريخ الأكاديمي والحكايات الشفهية.

من خلال هذه الصراعات بين التوثيق والرواية، بين الحقيقة والتأويل، يظل النص الأدبي ملاذًا للتعبير عن الذات الإنسانية والمجتمعية في مواجهة القوى الخارجية التي تسعى لتحديد معالم الحقيقة. فالمسيرة العمرية أو الزمنية لعائلة آل مشرق هي تاريخ للخليج ومؤثرات تطوراته حتى الآن.

أعادتني رواية “عمة آل مشرق” إلى “مئة عام من العزلة”، الرواية الكولومبية التي تعتبر واحدة من أبرز أعمال الأدب اللاتيني، حيث تمزج بين التاريخ والخيال، وتستكشف علاقة الأجيال بالأحداث التاريخية من خلال قصة عائلة بوينديا. تحتوي الرواية على عنصر الخيال السحري، ما يعكس كيف تتداخل الحقيقة والتاريخ مع الخيال، وهو موضوع مشابه للتوازن بين التاريخ والرواية في رواية أميمة الخميس.

شخصيات غربية متعددة، منها من ينصهر ومنها من يجعلنا نشعر بتأثير “الغموض” الذي يحيط بماثيو إيدن في محيطه الجديد. فيبدو في وصف تعامله مع الأشخاص الذين يلتقي بهم قائلا “تقاطيع متطابقة، من عظام الوجه إلى أطرافهم السمراء الدقيقة كأجنّة في رحم كبيرة،” وهي جملة تكشف عن النظرة الاستشراقية التي يحملها ماثيو تجاه من يراهم في الشرق. هنا يطرح الكتاب سؤالًا إشكاليًا: هل يستطيع الغربي أن يرى “الآخر” بعيدًا عن التصورات التي تقتصر على تصنيفه في قالب واحد؟

فهل رحلة ماثيو إيدن هي مجرد رحلة جغرافية عبر الشرق، أم هي رحلة في أعماق الذات الإنسانية، التي تسعى لفهم معاني وجودها في عالم مليء بالتناقضات؟ كما أُظهر الدين أنه ليس مجرد مجموعة من الطقوس أو المعتقدات التي يمكن تكرارها بسهولة، بل هو سلسلة من الأسئلة الوجودية التي تسعى لتفسير حياة الإنسان ومعاناته.

 في كل مرة تواجه كورنيلا المرضى تكتشف أن الصلاة التي ترددها تصبح طقسًا غريبًا بالنسبة إليهم. إذ تظهر المسألة ليست مجرد مواجهة بين الأديان، بل اختبارًا لعمق الفهم الإنساني المشترك. يتجسد هذا الصراع في محاولات كورنيلا لاختراق أفق آخر لا تملك مفاتيحه، بينما تواجه تصورات دينية مختلفة. فمن هو د. هاريسون، الطبيب الذي يتقن مهنته، ويحمل طابعًا مزدوجًا؟

الرواية تقدم لنا دروسًا هامة حول التفاعل بين الثقافات وفهم الاستعمار الثقافي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية ويصل إلى أعماق النفس البشرية، كتصوير “الرحم الكبير”، كما تطرح أسئلة عن كيفية رؤية الغرب للشرق. في النهاية الرواية تحتاج إلى دراسة مطولة فقد نجحت أميمة الخميس في تقديم تاريخ خليجي من خلال “عمة آل مشرق”.

13