كيف يتعامل المسرح مع التاريخ

للفن المسرحي العماني بصمة خاصة تلمّسها كل من شاهد عروضه في العقود الأخيرة في مختلف العواصم العربية، بصمة لم تأت من فراغ بل مهدت لها أجيال ثمنت التراث الثقافي العريق لسلطنة عمان، بينما مازال المسار مستمرا للتطوير أكثر فنيا وجماليا وفكريا في المسرح العماني، لكن لن يكون ذلك دون الإضاءة على خفاياه وهو ما قام به عبدالرزاق الربيعي.
يسلط الشاعر والكاتب عبدالرزاق الربيعي في كتابه “المشهد المسرحي العماني – إضاءات ورؤى” الصادر عن الهيئة العربية للمسرح، بالتزامن مع إقامة المهرجان العربي للمسرح بدورته الـ15 في مسقط، الضوء على المشهد المسرحي العماني؛ تاريخه ومراحل تطوره وأبرز أعماله.
انطلق الربيعي في كتابه من طرح عدة تساؤلات مهمة منها: متى استعان المسرح العماني بالحدث التاريخي؟ وما هي أنواع التوظيف التاريخي في المسرح العماني؟ ما هي أبرز الأعمال المسرحية التي استفادت من المادة التاريخية في المسرح العماني؟ وكيف وظف الكاتب المسرحي العماني المادة التاريخية في عروضه؟
شكسبير والتاريخ
بين المؤلف حول استلهام المسرح العماني للمادة التاريخية وتوظيف الكاتب المسرحي لها في عروضه أن هناك غنى في موضوع التاريخ لتناوله، وفقرا في التناول لأن الشكل التاريخي يحتاج إلى دعم مالي كبير، ورصد ميزانيات تنفق على المجاميع والديكورات والأزياء والإكسسوارات بشكل عام، وتصميم المعارك، لذا لجأ المخرجون إلى المسرح الفقير، في أفضل الحالات، أو تجنبوا المسرح التاريخي، لأن الأعمال التاريخية تتطلب قدرة عالية على الأداء، والنطق السليم لمخارج الحروف، وهذه تحتاج إلى ورش، لذا تعاطى المخرجون مع الأعمال التاريخية بحذر.
وأشار إلى أن الإنتاج اقتصر على التكليفات التي تظهر في المناسبات، وتختفي بعد انتهائها، وانسحب ذلك على المؤلفين، والتركيز على شخصيات مؤثرة في التاريخ العماني دون سواها: مالك بن فهم وأحمد بن سعيد وناصر بن مرشد مؤسس الدولة اليعربية، والاقتصار في تقديم العروض التاريخية على الأعياد والمناسبات الوطنية، ولم يتناول التاريخ كتاريخ بل كشخصية دون ذكر التناول ولكن أخذت من الشخصيات ملامحها نظرا إلى أن المحاذير كثيرة في تناول التاريخ خاصة أسماء بعض الشخصيات والقبائل.
خرج الربيعي من هذا الطرح بعدد من التوصيات منها: ضرورة الرجوع إلى التاريخ بتنوع مصادره ليكون مصدرا للنصوص المسرحية دون التركيز على شخصيات دون سواها، وضرورة إبداع أشكال جديدة قادرة على قراءة التاريخ العماني قراءة واعية لا تستنسخ ما سبقها من تجارب، وضرورة المزج بين الحدث التاريخي والحدث المعاصر بإطار درامي، إضافة إلى وجوب الالتفات إلى سير الشعراء العمانيين، وتجنب الكتاب الوقوع في الأخطاء التاريخية عند تناولهم المادة التاريخية، والدخول في مناطق وعرة، والمهم هو أخذ الدروس والعبر من تجارب الماضي.
وحول رمزية خطاب الفرجة في المسرح العماني أوضخ الربيعي أن “خطاب الفرجة في المجتمع العماني يمكن استنباطه من المهرجانات والاحتفالات التي تقام في المناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية والأفراح والألعاب الرياضية، فهو فن وجد قبل ظهور المسرح، وكانت الساحات العامة ميدانه وكذلك الأسواق، من هنا ينبغي أن تكون الفرجة أكثر التصاقا بالمتفرج، ويمكن تفعيل ذلك من خلال إقامة العروض الفنية المتتابعة في الفنون كافة، إقامة المهرجانات المحلية والمشاركة في المهرجانات الدولية، إقامة المسابقات الفنية في سائر الفنون البصرية، رصد جوائز قيمة للمشاركين، رعاية الدولة والقطاع الخاص للفعاليات.”
وخصص الربيعي بحثا وسمه بـ”شكسبير في أعمال المخرج عبدالغفور البلوشي”، أكد فيه أن المسرح العماني لم يقف بعيدا عن ذلك، حيث جرى تقديم العديد من أعمال شكسبير، بخاصة من قبل فرقة الشباب في بداية الحركة المسرحية لمسرح الشباب منذ انطلاقته عام 1980 وذلك بسبب “قلة النصوص المسرحية التي تناسب المجتمع العماني في تلك الفترة” كما يقول د. شبر الموسوي، مضيفا “لقد لجأ بعض كتاب مسرح الشباب في تلك الفترة إلى تعريب المسرحيات العالمية وتعمين المسرحيات العربية، فشاهدنا مثلا مسرحية ‘تاجر البندقية’ لشكسبير ومسرحية ‘عيال النوخذة’ المأخوذة عن مسرحية لنعمان عاشور ‘عيلة الدغروي’.”
وعن تعاطي المخرجين مع النص الشكسبيري يقول “من ميزات نصوص شكسبير أنها تمتلك فضاءات مفتوحة للتأويل، والاشتغال، والاجتهاد، مع أن البعض من المخرجين قدموا أعمال شكسبير، كما قدمت في أيامه، وهنا يكمن الإبداع والتميز، فرأينا البعض يقرأ النص قراءة جديدة مختلفة، وكانت تلك القراءات فيها نوع من الاجتهاد، وقد بني هذا الاجتهاد على الخروج على متحفية النص الشكسبيري من خلال إعادة ترتيب الأحداث للخروج بصيغ فنية جديدة، أما في السلطنة، ففي عام 1980 عرض مسرح الشباب مسرحية ‘تاجر البندقية’، وكانت من إخراج مصطفى حشيش، فأفردت جريدة عمان مساحة للعرض الذي قدم ضمن المهرجان الشبابي الثقافي والفني الذي أقيم بفندق الانتركونتننتال في عددها الصادر يوم الثلاثاء الموافق 25 نوفمبر 1980 وكتب المحرر ‘شاهدنا لأول مرة شكسبير على المسرح العماني،’ وقد أشاد محرر الصفحة الذي وقع باسم ‘بدر’ في كلمته بالشباب.”
وأشار “بالنسبة إلي، فأول عرض شاهدته مأخوذ عن عمل لشكسبير كان على مسرح الشباب بالهيئة العامة لأنشطة الشباب الرياضية والثقافية (سابقا) عنوانه ‘وداعا سيدي ماكبث’، عام 2004، وهو من إعداد وإخراج الفنان عبدالغفور بن أحمد البلوشي الذي قدم للمسرح العماني العديد من التجارب المسرحية التي يغلب عليها طابع التجريب من بينها: ‘ياليل ياليل’، و’تحت الرماد’، و’شروط’، و’الخوف’، و’عطيل’، والعديد من الأعمال المتميزة، وجاء عرض ‘وداعا سيدي ماكبث’ ليتوج مسيرته الفنية بواحد من الأعمال التي شكلت له هاجسا منذ أن كان طالبا في معهد الفنون الجميلة ببغداد في أواخر السبعينيات، وفي جميع اشتغالات البلوشي على النص الشكسبيري لم يتعاط معه كحالة جامدة، مفروغ منها عند كتابته قبل أكثر من 400 سنة، بل كفضاء مفتوح للتأويل والتفاعل مع العصر، وهذا سر خلوده.”
الشعر والمسرح العربي
تناول الربيعي أيضا كيفية توظيف المادة الشعرية في المسرح العماني، حيث رأى أن “النص المسرحي هو العمود الفقري لأي عرض مسرحي، والأرضية التي يشيد فوقها المخرج معماره المسرحي، بكل عناصره، ومهما حاول العاملون بالمسرح المولعون بالتجارب الجديدة كسر الإطار التقليدي لشكل العرض المسرحي إلا أنهم لن يتمكنوا من الاستغناء عن النص، وإذا كان الكثير من المسرحيين العرب حاول تأصيل المسرح العربي، والبحث عن جذور له في تراثنا، رافضا أن يكون المسرح قد وفد إلينا مع الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 ناكرا جهود مارون
النقاش في منتصف القرن التاسع عشر، داحضا مقولة زكي نجيب محمود التي تذهب إلى أن ‘العرب لم يعرفوا الأدب المسرحي’ وما ذهب إليه آخرون رأوا أن العامل الديني وراء غياب المسرح فالتصوير والتجسيم جعلت تاريخنا يخلو من المسرح، ومنهم أحمد أمين.”
وأضاف “هناك من وجد المسرح متجسدا في الاحتفاليات الاجتماعية والفنون الشعبية والدينية المرتجلة والحلقات التي تروى بها السير كالسيرة الهلالية وسيف بن ذي يزن والأراجوز، والحكواتي، وسعى المشتغلون في المسرح الاحتفالي إلى مد جسور مع تلك الجذور من خلال استلهام التراث العربي والتاريخ، وهو مسرح قائم على فلسفة عميقة تذهب إلى ما هو أبعد من الشكل والتقنيات المختلفة والفضاء المسرحي المفتوح الذي ينسجم مع المنظور الاحتفالي وكسر الإيهام.”
وتابع الربيعي “هناك من وجد المساجلات الشعرية التي كانت تجري في الأسواق الأدبية كعكاظ والمربد ودومة الجندل شكلا من أشكال المسرح في تراثنا الأدبي، ومن هنا، فبدايات المسرح العربي ترتبط بالشعر، ومن هنا انطلق د. سعيد الوهيبي في كتابه ‘المسرح الشعري العماني المعاصر دراسة وصفية تحليلية فنية’، فقد وجد تشابها كبيرا بين ظاهرة الأسواق الشعرية العمانية والعروض المسرحية فعناصر هذا العرض موجودة فيه وهي: الشاعر، والمتلقي (جمهور السوق)، والقصيدة (النص المسرحي)، وكذلك المجالس الأدبية (السبلة)، فقد تحولت إلى دار للعرض تشبه المسرحية، يتبادلون فيها الأفكار والآراء ومناقشتها في حوار ودي فيما بينهم، ومن بين أشهر الأسواق العمانية قديما: سوق دبا، وسوق صحار، يجتمع الشعراء في هذه الأسواق لكي يمثلوا قبائلهم للمفاخرة بحسبهم ونسبهم ويتنافسون فيما بينهم.”
وواصل “في الأربعينيات والخمسينيات بدأت مرحلة الإرهاصات التجريبية في المسرح العماني، فكانت حاضرة من خلال الظواهر الأدبية والشعبية التقليدية التي كانت مرتبطة بالعادات والتقاليد الاجتماعية كعادات الزواج والحصاد وأغاني البحر وفن المالد وفن النيروز وفن الرزحة، وقد تم توظيف تلك الفنون والعادات والظواهر في العروض المسرحية المقدمة في المسرح العماني، وتمكن الشعر الشعبي مع الأهازيج والفنون الشعبية كـ’الرزحة والميدان والتغرود’، أن يوجد علاقة وثيقة مع المسرح، فهذه الفنون عند أدائها تشعرنا بأننا أمام مشهد مسرحي متكامل العناصر وخاصة في المسرحيات الشعرية.”
وفي وقفة إجرائية حلل الربيعي عشرة عروض مسرحية عمانية هي “مدق الحناء” للكاتب السعودي عباس الحايك، وإخراج يوسف البلوشي وأداء فرقة مزون المسرحية، و”الرحى” تأليف عباس الرحبي، إخراج د. شبير العجمي، تقديم فرقة “الصحوة” وتمثيل سميرة الوهيبي وبلقيس البلوشي، و(قرن الجارية) تأليف وإخراج محمد الهنائي، فرقة الدن، ومسرحية “الليلة الباردة” تأليف عبدالله البطاشي، وإخراج أحمد البلوشي وتمثيل جاسم البطاشي وحنان العجمي وخالد الوهيبي ومجموعة من الممثلين الشباب.
النص المسرحي هو العمود الفقري لأي عرض مسرحي، والأرضية التي يشيد فوقها المخرج معماره المسرحي، بكل عناصره
كما حلل مسرحيات “شجرة الهيل” تأليف وإخراج الراحل محمد بن سهيل المهندس فرقة مسرح ظفار، و”الندبة” تأليف عماد الشنفري، وإخراج خالد الشنفري، وأداء فرقة صلالة، و”زهراء سقطرى” تأليف سمير العريمي واخراج د. عبد الكريم جواد وأداء محسن علي البلوشي وحنان العجمي ومحمد المعمري وحمد الحضرمي وخليفة العامري. و”حارة البخت” تأليف وإخراج مالك المسلماني، مهرجان مسقط السياحي 2017، أداء فرقة “تواصل”، و”الصراع”، مسرحية للكاتب اليوناني يورغورس سكورتيس، والمخرج د. عبدالله شنون، أداء يوسف وفارس البلوشي وبثينة ناجمان، و”أصابع جميل” تأليف وإخراج أسعد السيابي، أداء فرقة الدن بالتعاون مع الجمعية العمانية للمسرح.
قدم الفصل الأخير من الكتاب تعريفات بعدد من رواد المسرح العماني، وبعض من غادرنا مبكرا، وحمل عنوان “علامات مسرحية في المشهد” وفيه تحدث عن كل من: صالح زعل، سعود الدرمكي، فخرية خميس، سالم بهوان، شمعة محمد، محمد المهندس.
وختم الربيعي بمجموعة من التوصيات، تمثلت في: إنشاء متحف يروي حكاية المسرح العماني منذ تأسيسه إلى اليوم تعرض به صور العروض الأولى والرواد مع سيرهم ومقاطع فيديو لبعض العروض التي جرى تصويرها، ونماذج من الصحف المحلية والخليجية والعربية التي كتبت عن العروض والرواد، وإجراء حوارات مرئية مع الرواد وعرضها في غرفة خاصة من المتحف، وإقامة حلقات عمل لإعداد الممثلين، وتطوير قدراتهم في الإلقاء، والنطق السليم مع مراعاة قواعد اللغة العربية لتقديم أعمال تخلو من الأخطاء النحوية.