عادي! لا مش عادي

الأمر العادي هو الأمر المألوف لدى الغالبية، الشيء الشائع المعتاد الذي يمكن أن نصادفه يوميا ولا يتميز بشيء عن بقية ما نصادفه في العادة. والمواضيع العادية تعتبر في الغالب غير ملحوظة لا يتفاعل معها البشر كما يتفاعلون مع الأمر المفاجئ، تتبلد مشاعرهم تجاهها، تستقر هرموناتهم فلا تتحكم فيهم وتحركهم نحوها بإلحاح. لكن أن تتحول عبارة “عادي” إلى إجابة على كل تساؤلاتنا وأسئلة الآخرين، إلى وصف لكل ما يحدث من تغيرات، ووصف لكل ما نحس ونشعر به، ذلك ما ليس عاديا.
كلما قلت لأحدهم شيئا أجابك “عادي،” تقول له سقط نظام دكتاتوري في دولة مجاورة فيجيبك “عادي، كان متوقعا.” تقول عاد تنظيم داعش للظهور فيقول “عادي،” تصرخ فيه بأن المجتمع يسير نحو التشدد والتعصب والعنصرية يجيبك “عادي، نحن هكذا دائما،” تلفت انتباهه إلى تقاعسه في العمل فيكرر على مسامعك “عادي، كلنا نعمل ما يجب أن نفعله يوميا،” تقولين لأختك إنك تشعرين بأن صحتك النفسية ليست على ما يرام، فترد “عادي، الجميع يعاني في عصرنا،” تسألين لمَ مرض فلان المشهور والمحبوب جدا ولم يزره أيّ من أحبابه وأصحابه، فيقولون لك “عادي، هكذا هم البشر، عند الشدة لا تجد إلا بعضهم”.
وفي خضم تساؤلي الملح لمَ تحوّل كل شيء إلى عادي؟ ما الذي أفقد البشر حساسيتهم وشعورهم الذي خصهم الله به عن سائر خلقه؟ ألهذا الحد نجحت الحياة المعاصرة في قتل الانتباه والانفعال فينا وغيبت مشاعرنا؟ ظهرت أمامي أغنية “عادي” للفنانة السورية الراحلة ميادة بسيليس.
جددت الحادثة انتباهي إلى أن التكنولوجيا لم تعد تتجسس علينا فقط وإنما هي تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا، ربما هي تعامل كل فرد فينا كشيء غير عادي، تجب دراسته وفهم سلوكه، ما يعني فهم أفكاره وتوقعها.
أغنية ميادة هذه كانت تبث في الإذاعة الوطنية التونسية وإبان ثورة 2011 لأكثر من مرة في اليوم الواحد، فميادة بسيليس واحدة من الفنانين غير العاديين الذين وصلتنا أصواتهم منذ سنوات أعمارنا الأولى عبر الأثير، أحببنا مسحة الحزن في صوتها وتفاعلنا مع كلمات أغانيها وهويتها السورية، وكانت تدخل من آذاننا نحو عقولنا مباشرة مستفزة ملكة التفكير في كلماتها.
ما الذي استفز الراحلة لتغني “عادي” وتختار عنوان الأغنية لتكون عنوان ألبومها الغنائي الصادر عام 2007؟ ربما هو الشعور ذاته بأن لا شيء عاديا في الحياة، رغبة في لفت انتباه الناس إلى “برودتهم” الشعورية المفرطة في التعامل مع غير العادي.
الحياة في 2007 غير الحياة في يومنا، ورغم ذلك تبدو معاناة البعض مع تعامل الناس مع كل شيء أنه عادي مأساة أزلية.
وبسماع الأغنية على موقع يوتيوب، انتبهت إلى تعليقات العديد من الأشخاص، تعليقات تكشف مدى استنكارهم لكلمة عادي رغم إعجابهم بالمطربة الراحلة، هكذا هي تعليقات مستخدمي اليوتيوب تجعلك تقف أمامها متأملا وحائرا، تعليقات تحتاج دراسة عميقة فهي تكشف الكثير عن الأفراد داخل مجتمعاتنا.
إحداهن كتبت للراحلة “لم تَستطع أيّ جُملة عربيّة أن تتفوّق على عبارة عادي في دسّ كميّة هائلة مـن الخيبة والأسى بين حروفها.. حينَ يقولها المَخذول وهو يَهزّ كتفه.. مازلت أغيب عندما يؤلمني أمر ما وبعدها يسألونني بهدوء: أين كنت؟ فأجيبهم بابتسامة “عادي.. في الدنيا”.
نحن بالفعل نعامل كل شيء في الدنيا أنه “عادي” رغم إدراكنا أن الحياة بكاملها غير عادية، إنها معجزة تنفلت من بين أيدينا يوما تلو الآخر، تذكّرنا بضرورة أن ننتبه ولا نألف “عاديتنا” ونفيق بعد فوات الأوان.
لقد اختصرتها ميادة بسيليس حين صرخت فينا “أي حاجة تقولولي عادي لاء مو عادي.. عفن قلبي من العادي وبتقولو عادي..مو عادي إلا الفاضي..عادي عادي.. عندو كلشي شي عادي..عادي عادي”.