"المصارع 2" دراما ملحمية تاريخية متكاملة في شقيها الفني والتقني

عمل سينمائي يُنهض ريدلي سكوت بعد فشل "نابليون".
الأربعاء 2024/12/25
ملحمة تاريخية سينمائية

يأتي فيلم "المصارع 2" ليكمل مسيرة جزء أول حظي بشهرة واسعة، حيث يركز على تصوير الصراعات والمعارك خلال الحضارة الرومانية، مراهنا على نجوم سينمائيين تحت إشراف المخرج ريدلي سكوت، الذي يؤكد قيمته الفنية في هذا الفيلم بعد فيلمه "نابليون" الذي كان مخيبا للآمال.

الرباط - تدور أحداث فيلم “المصارع 2” للمخرج ريدلي سكوت حول شخصية تدعى لوسيوس هو ابن ماكسيموس ولوسيلا، الذي يصبح مصارعا بعد أن دمر الجيش الروماني بقيادة الجنرال ماركوس أكاسيوس منزله، يسعى للانتقام من أكاسيوس، ويخوض معارك المصارعة تحت قيادة ماكرينوس، العبد السابق الذي يخطط للإطاحة بالإمبراطورين جيتا وكاراكالا.

الفيلم يصنف عملا تاريخيا ملحميا، وهو تكملة لفيلم “المصارع 1” الذي صدر عام 2000، من سيناريو ديفيد سكاربا، وبطولة كل من: بول ميسكال، بيدرو باسكال، جوزيف كوين، فريد هيشينجر، ليور راز، ديريك جاكوبي، كوني نيلسن، ودينزل واشنطن. يجسد ديريك جاكوبي وكوني نيلسن شخصياتهما من الجزء الأول، بينما يلعب بول ميسكال دور لوسيوس بدلا من سبنسر تريت كلارك.

تركز أحداث القصة على رحلة لوسيوس، الذي يجد نفسه في مواجهة مع قوى متعددة داخل الإمبراطورية الرومانية، منها الانتقام الشخصي من ماركوس أكاسيوس والانتقام السياسي من الإمبراطورين جيتا وكاراكالا، فالحبكة الأساسية تطرح تساؤلات حول العدالة والحرية في سياق نظام سياسي فاسد، وهذا يمنحها أبعادا اجتماعية تتجاوز الصراع الفردي. وتعتبر شخصية لوسيوس هي المحور الرئيسي في الملحمة، حيث تنطلق من مأساة الغزو إلى اكتشاف قوته كمصارع، مع تطور واضح في دافعه النفسي من الانتقام إلى تحقيق العدالة، بينما باقي الشخصيات تعمل كعناصر مساعدة تدفع القصة إلى الأمام، مثل رافي الذي يقدم زاوية إنسانية كطبيب ومصارع سابق، بينما ثريكس يجسد الفساد السياسي في مجلس الشيوخ، كل ذلك لتعقيد الأبعاد الدرامية للصراع.

أسلوب المخرج بين الجزء الأول والثاني لفيلم {المصارع 2} يتميز بالانسجام بين العناصر البصرية والملحمية
أسلوب المخرج بين الجزء الأول والثاني لفيلم "المصارع 2" يتميز بالانسجام بين العناصر البصرية والملحمية

يتبع التسلسل الزمني للأحداث هيكلا ثلاثيًا دقيقا، فالبداية تصور الغزو الذي يقلب حياة لوسيوس رأسًا على عقب، والوسط يتمحور حول رحلته كمصارع وصراعه داخل الساحة وخارجها، والنهاية تمثل ذروة الصراع بينه وبين أكاسيوس، مع انقلاب سياسي يطيح بالإمبراطورين، في بنية سردية متماسكة تدمج بين مشاهد القتال والتآمر السياسي لتقديم حبكة مترابطة.

وتتميز الحوارات بين الشخصيات بالبساطة والوضوح، مع التركيز على كشف دوافع الشخصيات الخفية، فمثلا الحوار بين لوسيوس وأعدائه يعكس الحدة النفسية للصراع، بينما تبرز الحوارات مع رافي البعد الإنساني للقصة، مع

طرح أفكار حول الحرية والاختيار في عالم تحكمه السلطة. كما أن معظم تكوين اللقطات يجمع بين المشاهد القتالية واللحظات الهادئة للتخطيط الماكر، وهذا أسلوب يخلق توازنا بين الأكشن والدراما، فاستخدام الغزو كدافع رئيسي للصراع يجعل القصة تتطور تدريجيًا، ويتحول فيها لوسيوس من شخصية سلبية إلى فاعلة ومتحكمة في مصيرها.

ويبرز دنزل واشنطن أداء متماسكا ومتوازنا يبين خبرته الطويلة في تجسيد الشخصيات المركبة، هنا يجسد شخصيته بتحايل دقيق يظهر في تعبيراته الجسدية ونبرة صوته، ويتقن فيها المزج بين الهيبة والهدوء، كشخصية ذات نفوذ وقوة كاريزما دون المبالغة في الأداء، كما أن تعامله مع الحوارات يثبت حنكته في إيصال المعاني المخفية بين السطور، خاصة في المشاهد التي يتبادل فيها الحديث مع لوسيوس وحكام الإمبراطورية الرومانية، فأداء واشنطن شحن الجزء الثاني لفيلم “المصارع” بالكثير من الطاقة الإيجابية، منذ ظهوره في أول مشاهده إلى حين مشهد وفاته وانتهاء قصته ضمن أحداث الفيلم.

ويقدم بول ميسكال بصفته بطل الفيلم أداء يعتمد كثيرا على التفاعل العاطفي مع وفاة زوجته وعلاقته بأمه التي تعتبر من الأسرة الحاكمة، وقوته في الثأر من خلال الإيحاء بالصراع الداخلي الذي يعيشه بين رغبته في الانتقام والبحث عن العدالة، فتطور أدائه من البداية إلى النهاية يعكس قوة هذا الممثل الشاب، حيث بدأ كشخص محطم نفسيًا ثم تحول إلى مقاتل مصمم على مواجهة أعدائه، وبين هذه المشاهد القوية أتقن ميسكال تشخيص لحظات التردد والخوف من جهة والقوة والغضب من جهة أخرى، كما تظهر لديه لياقة بدنية عالية وانغماس كامل في الدور.

ويمثل التفاعل بين واشنطن وميسكال نقطة قوة في الفيلم، فكلاهما حققا تفاهمًا خلال مجريات الأحداث، وتحمل مشاهد المواجهة أو الحوار المركب بينهما توترًا دراميًا يجعل المشاهد يقبل مكر واشنطن في القصة ويساند ميسكال، وهذا يبرز التباين بين خبرة واشنطن واندفاع ميسكال، وأظن أنه العنصر الأكثر إقناعا وواقعية.

ويوضح ريدلي سكوت قدرته الإبداعية في ربط أحداث “المصارع 2” بجوهر الجزء الأول “المصارع 1” من خلال الحفاظ على الأسلوب البصري الملحمي والدرامي ذاته، فيشعر المشاهد بأنه في نفس العالم السينمائي الذي تركه في الملحمة التاريخية الأولى التي ظفر المخرج بجوائز الأوسكار فيها، فتصميم المشاهد يبرز استمرارًا لملامح الحضارة الرومانية المهيبة، سواء من حيث الديكورات أو الأزياء أو التفاصيل التاريخية الدقيقة، وهذا يخلق أثناء المشاهدة إحساسا بالتكامل.

أداء بول ميسكال يعكس قوة الممثل حيث بدأ كشخص محطم نفسيًا ثم تحول إلى مقاتل مصمم على المواجهة

كما يستحضر المخرج روح الجزء الأول من خلال استخدام موسيقى تصويرية ذات طابع ملحمي وإيقاع سردي متصاعد، وتصوير سينمائي يركز على عظمة الحضارة الرومانية، كما يركز على مشاهد القتال داخل الساحات التابعة لتأثيرات الجزء الأول لكنها تطور أساليبها بإضافة المزيد من الواقعية والحركة، خاصة في مشاهد الصراع وسط ديكور المياه و السفن.

ويتميز أسلوب ريدلي سكوت الإخراجي بين الجزء الأول والثاني لفيلم “المصارع” بالانسجام بين العناصر البصرية والملحمية، فالإضاءة كما هي دقيقة في خلق أجواء متباينة بين القهر والخلاص؛ فمشاهد الغزو والتدمير مثلا تتميز بطابع مرعب، بينما تحمل مشاهد الانتصار والتحرر أملا وتغييرا كالمشهد الأخير حيث تتنقل الكاميرا بسلاسة بين اللقطات الواسعة التي تعكس عظمة الحضارة الرومانية، إلى جانب اللقطات القريبة التي تركز على الانفعالات الشخصية للشخصيات، وهو ما يعزز الترابط العاطفي مع الجمهور.

ويكمن نجاح الإخراج في قدرة سكوت على الموازنة بين مشاهد الأكشن واللحظات الدرامية العميقة. والمشاهد القتالية مصممة بعناية لتعكس ليس فقط العنف بل أيضا الرمزية العاطفية للصراع، فالمشاهد التي يقاتل فيها لوسيوس لا تعتبر استعراضا للقوة أو مجانية، إنما هي نضاله الداخلي ورغبته في الانتقام، وهنا أظهر المخرج التوازن في ترتيب المشاهد واللقطات، فكان الإيقاع العام للفيلم مدروسا بعناية، حيث يبدأ بوتيرة بطيئة في تقديم الشخصيات الجديدة وتعريف الجمهور بالمكان والزمان، ثم يتسارع تدريجيا مع تصاعد الصراع وصولا إلى ذروته، وقد تمكن المخرج من الحفاظ على عنصر التشويق طوال الوقت من خلال التنويع في المشاهد وعدم الإطالة في تصوير مشاهد معينة على حساب مشاهد أخرى.

وريدلي سكوت هو مخرج إنجليزي عُرف بأعماله المميزة التي تجمع بين الإبداع البصري والتنوع السينمائي. بدأ مسيرته المهنية في مجال الإعلانات، وبعدها طوّر مهاراته في صناعة أفلام قصيرة إبداعية للتلفزيون، وحاز شهرة واسعة بعد إخراجه فيلم “فضائي”، الذي حقق نجاحا تجاريا كبيرا، ثم قدم مجموعة من الأعمال السينمائية البارزة مثل “عدّاء الشفرة” و“ثيلما ولويز” و“المصارع” و“المريخي”.

تميزت أفلامه بطابعها العاطفي مع اهتمامه بالتاريخ والحضارات التي تنوعت بين روما القديمة والقدس وإنجلترا في العصور الوسطى ومقديشو المعاصرة، وحتى المدن المستقبلية والكواكب البعيدة، كما عُرفت أفلامه أيضا بحضور شخصيات نسائية قوية. رُشّح سكوت لعدة جوائز عالمية، منها جوائز الأوسكار عن إخراجه لأفلام مثل “ثيلما ولويز” و”المصارع”، وحصل على ألقاب وجوائز تقديرية عديدة تكريما لإسهاماته في مجال السينما.

استلهم المخرج الكثير من أعماله من طفولته وقراءاته المبكرة لروايات الخيال العلمي، إلى جانب تأثره بأفلام مثل “ملحمة الفضاء”، بينما كان أول فيلم روائي طويل أخرجه هو “المبارزون”، الذي صُوّر في أوروبا وفاز بجائزة أفضل فيلم لأول مرة في مهرجان كان السينمائي.

14