خالد خليفة يجيب بطريقته عن سؤال: هل يشفينا الهروب؟

"سمك ميت يتنفس قشور الليمون" للكاتب السوري خالد خليفة (1964 – 2023)، هي الرواية الأخيرة التي كتبها خليفة قبل وفاته، لتصدر بعد غيابه بعام. رواية يعيد فيها محاكمة الواقع والنبش في أعماق الذوات. يصحبنا معه في رحلة بطله الهارب، ويكشف لنا جدوى فعل الهروب، كل ذلك بأسلوبه الأدبي المدروس وشخصياته المبنية وأمكنته الرمزية، وأسئلته الجارفة.
تأتي رواية "سمك ميت يتنفس قشور الليمون" للروائي السوري خالد خليفة كعمل أدبي يعكس تعقيدات النفس البشرية وصراعاتها الداخلية، من خلال سرد يلامس جوهر الحياة الإنسانية بكل تناقضاتها.
إذا كان الأدب العربي المعاصر يعكس في الكثير من الأحيان الحروب النفسية والاجتماعية التي يخوضها الفرد في مواجهة واقعه، فإن هذه الرواية تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لتغوص في عالم الذات الممزقة، مُظهِرةً تأثير الهزائم العاطفية والنفسية على الكائن البشري.
تساؤلات وجودية
عند الحديث عن بطل الرواية أنس نجد أنفسنا أمام إنسان عالق بين فشلين: الأول هو فشل الحب، والثاني هو فشل الهروب من هذا الفشل. في تتبع شخصية أنس يظهر أن العذاب الذي يعيشه ليس نتيجة فشل علاقة عاطفية فحسب، بل هو نتيجة انهيار داخلي عميق، حيث يرسخ النص في أذهاننا أن هزيمة الذات تكون أشد وقعًا من الهزيمة في العلاقات. البطل، الذي يعيش وحيدًا في دمشق، يعكس حالة من الاغتراب الداخلي. هو لا يبحث عن منقذ، ولا يسعى للشفاء، بل يظل غارقًا في استسلام تام للتراجيديا التي صنعها بنفسه، حين قبل أن يعيش كطيفٍ معلق في ذاكرة امرأة لا تعود.
أما بالنسبة إلى المكان في الرواية، فيلعب دورًا محوريًا في تحديد أبعاد الصراع الداخلي لشخصيات الرواية. اللاذقية، المدينة الساحلية الهادئة، ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي رمز للمكان الذي يُفترض أن يكون ملاذًا للعلاج أو الهروب من مآسي الداخل. لكن خليفة يجعل منها مكانًا مزدوج المعنى، مليئًا بالآلام الخفية أكثر من كونه ملاذًا للشفاء. تتسرب هذه الحالة الرمزية عبر العبارات الشعرية التي يصف بها المكان، مثل “الرطوبة التي تنسحب” و”نسمات البحر المحملة برائحة الملح وأغصان الليمون”. هذه المشاهد الطبيعية الجميلة تقابلها روح الشخصيات المكسورة، فلا أمل في الشفاء رغم كثافة الأجواء المريحة التي توفرها المدينة. يصبح المكان هنا مكملًا للمأساة النفسية، حيث تبقى الروح حبيسة في صندوق من ذكريات الماضي العاطفية.
خالد خليفة استطاع أن يخلق نصًا يتأرجح بين الحب والخيبة، بين العدمية والتطلع، بين الرغبة في الشفاء والموت الروحي
أما ماريان، الشخصية الأنثوية في الرواية، فهي تمثل نوعًا من العنف العاطفي، الذي لا يتجسد في الأفعال المادية، بل في الكلمات والأفعال التي تُبدي مشاعر الجفاء والخيانة. يتبادل أنس وماريان الأحاسيس التي لا تكتمل، فالحب بينهما يتحول إلى معركة مستمرة، حيث تحدث الفجوات بين الكلمات والأفعال، ليجد كل منهما نفسه عالقًا في دائرة مفرغة من الأحاسيس المتناقضة. في هذه الأجواء يصبح الحب ليس نقيضًا للبغضاء فحسب، بل يحمل في طياته دلالات من القسوة والانكسار، ما يؤدي إلى تفكيك العلاقة وتحطيمها من الداخل.
بعيدًا عن مسألة الحب والخيانة، تطرح “سمك ميت يتنفس قشور الليمون” قضية أعمق تتعلق بالوجود نفسه، وبالخيبة الناتجة عن التجارب الحياتية. تُطرح في النص تساؤلات وجودية، مثل: هل نحن مجبرون على العيش في عالم مليء بالخيبات والفشل؟ الخطابات الفلسفية التي تطرأ على لسان الشخصيات تحمل طابع العدمية الوجودية، ما يشير إلى الغموض العميق الذي يكتنف معنى الحياة في ظل معاناة مستمرة. عندما يسأل أنس “لماذا ندمي قلوبنا ونرميها في الطرق الوعرة لتدوسها البغال؟” فهو لا يستفهم عن معنى حياته فقط، بل عن مصير الإنسان بشكل عام. هذه الأسئلة الوجودية تظل بلا إجابة، ما يترك الإنسان عالقًا في دورة لا تنتهي من الألم والفراغ.
أما الهروب فيشكل جزءًا لا يتجزأ من الصورة النفسية التي يرسمها خليفة في الرواية. هروب أنس من الماضي، وهروب آخر عبر الارتباط بماريان، وفي كل مرة يكتشف أنه لا فائدة من الهروب. فالماضي يظل حاضرًا أمامه كظلٍ ثقيل، لا يستطيع الفكاك منه.
يقدم خليفة هنا بطلًا مسلوب الإرادة، لا يملك القدرة على التخلص من ماضيه، بل يسير في طريقٍ لا نهاية له، فاقدًا القدرة على التغيير.
إذا كانت الرواية تفسر فكرة الحب بشكل عميق، فإنها تبرز أيضًا فكرة الموت، ليس الموت الحرفي، بل الموت المعنوي الناتج عن خيبات الأمل. “سمك ميت يتنفس قشور الليمون” هي استعارة مكثفة لواقع نعيشه جميعًا، عندما نغرق في ماضينا ونحاول التنفس في الحاضر الميت. هذا التناقض بين الموت والحياة في النص يمثل النزاع المستمر بين الإنسان وأحلامه المنكسرة.
الهروب والشفاء
استطاع خالد خليفة أن يخلق نصًا يتأرجح بين الحب والخيبة، بين العدمية والتطلع، بين الرغبة في الشفاء والموت الروحي. هو نص مليء بالصور الرمزية والمعاني العميقة، ويتحدى القارئ للتفكير في معنى الحياة وحقيقة الحب والفشل.
الرواية ليست مجرد سرد لقصص خيبة أمل عاطفية، بل هي تأمل في وجود الإنسان داخل هذا العالم المعقد الذي يعيش فيه. يظل أنس في النهاية نموذجًا للبشرية التي لا تزال تبحث عن مخرج من دائرة الألم، ولو كانت فوهة هذه الدائرة غير مرئية.
أما الفكرة السياسية التي يمكن استخلاصها من “سمك ميت يتنفس قشور الليمون”، فتكمن في تناول الرواية للصراع النفسي الداخلي للشخصيات كمرآة لصراع أوسع بين الفرد والمجتمع، وبين الأفراد وقيمهم وهوياتهم في سياق اجتماعي متغير. فالصراع الذي يعانيه الأبطال ليس صراعًا مع أنفسهم ومع العلاقات العاطفية فحسب، بل هو أيضًا صراع ضد قيود المجتمع وأعرافه، التي تفرض معايير لتحديد قيمة الإنسان وكيفية عيشه.
تقدم الرواية صورة لواقع اجتماعي يفرض ضغوطًا على الأفراد لتلبية توقعات المجتمع وأسرهم، حيث يتصارع الأبطال بين رغباتهم الداخلية في الحرية والانعتاق، وبين التوقعات الاجتماعية التي تفرض عليهم التكيف مع معايير معينة في الحب والعلاقات الإنسانية وحتى في كيفية مواجهة الفشل العاطفي. هذا الصراع يبرز الواقع الذي يعيشه الفرد المعاصر في مجتمعات مشبعة بالتوقعات، حيث لا يُترك للفرد سوى مساحة ضئيلة للتعبير عن ذاته أو الاختيار بحرية.
تظهر الرمزية المرتبطة بالمكان، مثل “اللاذقية” و”الخريف”، حالة من العدمية التي تسيطر على الشخصيات. هذه العدمية لا تتعلق بالوجود الشخصي فقط، بل تعكس أيضًا حالة المجتمع ككل، حيث تغيب المعاني الحقيقية وراء الأفعال والعلاقات. الشخصيات تجد نفسها في دوامة من الروتين والفراغ العاطفي، وهو ما يعكس الفراغ القيمي في المجتمع الذي لا يقدم بدائل حقيقية أو فرصًا للتغيير. يمكن ربط ذلك بالنقد الاجتماعي للحالة السياسية والاقتصادية التي تسهم في خلق هذه العدمية.
"سمك ميت يتنفس قشور الليمون" استعارة مكثفة لواقع نعيشه عندما نغرق في ماضينا ونحاول التنفس في الحاضر الميت
أما وصف التغيرات التي تصيب الأماكن، مثل ردم الشاطئ، فيعتبر رمزًا للتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر في الذاكرة الجمعية للأفراد. مثلما تم ردم الشاطئ، هناك شعور بمحاولة محو الماضي وطمس الذكريات التي كانت تمثل جزءًا من الهوية الجماعية لصالح تغيرات لا يمكن الوقوف أمامها. هذه التغيرات قد تكون استعارة للتاريخ السياسي المتقلب، حيث يتم تجريد الأفراد من مساحات الذاكرة والتاريخ الشخصي في ظل تحولات قسرية تفرضها القوى السياسية.
كما تمثل العائلة قوة قاهرة في حياة الأفراد، حيث يفرض الأب توقعات على ابنته في اختياراتها، سواء في الزواج أو المستقبل العاطفي. هذا يمكن أن يُنظر إليه كنقد للأنظمة الاجتماعية والسياسية التي تمارس الهيمنة عبر العائلة أو المجتمع، وهو ما يقيد حرية التفكير والاختيار الشخصي. فالفتاة التي تشتهي الحرية والحب الحقيقي تجد نفسها محاصرة بين التقاليد والضغوط الاجتماعية.
في النهاية، الهروب والهجر في الرواية لا يمثلان مجرد أحداث عاطفية، بل أيضًا طرقًا للهروب من الواقع الاجتماعي الضاغط. الهروب في الرواية ليس انفصالًا عن الشخص الآخر فحسب، بل هو هروب من المجتمع وقيوده. الكاتب يعكس ببراعة أن الهروب لا يحقق الشفاء ولا يمنح الأفراد السلام الداخلي. هذا الهروب المتكرر من الذات والواقع يعكس فشل الأنظمة السياسية والاجتماعية في توفير مساحة حقيقية للنمو الشخصي والتعبير الحر.