آرون ماينال يجرد اللون من تفاصيله لينقد العالم الاستهلاكي للبشر

عند التمعن في أعماله الفنية المتنوعة نلاحظ كيف انعكست تجربته وأيقوناته على أفكاره لتقوم مجددا بدور المصفاة الخيالية وتعيد تعميق الصورة حتى تتفوق على تفاصيل الواقع لتنجو من عتمة الصدمة وذهول اللامعقول في التماهي بين الإنسان والإنساني.
بتلك الحركة البصرية المعاصرة التي تحملها اللوحة اختار التشكيلي البريطاني المقيم في الولايات المتحدة آرون ماينال، أن تعبر تجربته الفنية ولوحاته عن مدى التوافق الحسي بين منطق الواقع ومنطق الفن في الفهم والتعبير والسمو والطموح الداعي إلى حياة أفضل وأكثر جمالا رغم البؤس الطافح بالحروب والتشريد بالخوف والموت.
وهي مجموعة لوحات متنوعة ومعبرة اقتناها المتحف اللبناني – الأميركي متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية Farhat Art Museum لتكون ضمن مجموعاته الفنية حيث تنوع فيها التجريب بالأسلوب بين الواقعية المفرطة والسحرية والسريالية التي انتهجها ماينال ليعبر عن ظلمة الواقع بمنفذ النور في الفن حتى يصل صداها أبعد في تفكيك معنى الحياة والتوق إلى السلام.
تحريض العتمة باللون
عن العالم والطفولة، عن التسارع الرقمي وتكنولوجيا الآلات وتحولات الاستهلاك والواقع اليومي الافتراضي المعلب للمشاعر والأفكار، عن الإنسان في كل هذا ووحشية الآلة الجامدة أمام المشاعر المتحركة، وعن الإنسانية وسط كل هذا وذاك اختار ماينال أن يعيد ترميم مسارات الإنسانية المعتمة، حيث تصور أعماله العالم الباهت وغير المستقر من خلال الشخصيات المهجورة في بيئات غريبة غير آمنة، رغم أنها تحمل الجمال والاستقرار في داخلها، ولكنه لا يظهره، بل يدعو المتلقي إلى أن يكشفه ويكتشفه.
يستخدم ماينال فكرة النوم أو السبات كعنصر رمزي أو فضاء أو حالة أو كمكان لشخصياته ليحتوي انزعاجاتها وانفعالاتها أو قلة حيلتها وانغماسها في همومها، لأنه بالأحلام يساعد المتلقي على اكتشاف الأجساد التي خلفتها الشخصيات أو وجودها المتحلل أو المهمل، قد تبدو الصور قاتمة، ولكنها واضحة أو هي ردة فعل منتظرة لعالم استهلاكي الإنسان فيه ضحية المادي.
لم تعد الشخصيات في أعمال آرون ماينال مهتمة بجلدها المكشوف أو المشاعر التي يمكن أن يجلبها الاهتمام الجمالي بها أو الافتتان بتفاصيلها المادية، لأنه يحررها من شوائبها، لتجد حريتها في ثنايا المجهول، فالشخصيات تبدو وكأنها تنقلنا إلى مكان بعيد عن الزمن أو أرض مختلفة كتلك التي يسردها جورج أورويل في قصصه أو تتراءى في تفاصيل أحلام ضاجة بواقعها.
تلتقط رسومات ماينال لحظة من الهدوء التام، يجيد توظيفها في أعماله من خلال الألوان، البرود الملتهم حتى للألوان الحارة في تدريجاتها أو الترابية، فهي تركز العديد من التراكيب على الجسم الرقيق لطائر أو وجه طفل أو آلة أو حتى الفضاء العام للوحة بدقة ناعمة لا تعطي أي تلميح للموقع أو المكان الفعلي الذي قد يبدو للمتلقي فضاء مفتوحا عميقا كمشهد بصري أو صور متخيلة في رواية، يوظف ماينال الأجنحة بتفاصيل رشيقة بزوايا غير متوازنة كمبعث أمل يحاول الانعتاق من سواده وضيقه، يتحكم في الحجم بين تكبير أو تصغير يحمل مرة ضعفا ومرات قوة في جمال هذه الشخصيات وإتقان تفاصيلها.
من خلال العمل بدرجات الرمادي، يرتب ماينال مواضيعه بدقة احترافية، مثيرة للإعجاب بالتفاصيل الدقيقة بالغموض الواضح، فأعماله مشبعة بالهدوء الذي يحده القلق، إنه مثل النظر إلى الانعكاس الفضي لبحيرة هادئة، مع العلم أن أدنى حركة ستكسر السطح وتشوه الصورة.
غالبا ما تسير لوحات ماينال على خط الخيال مقابل الواقعية وتتأثر بشدة بلوحة الألوان الناعمة الخافتة جنبا إلى جنب مع كمية مكثفة من التفاصيل والتطبيق الفني.
تتميز المشاهد الطبيعية التي يقدمها بجودة تحتوي الأبعاد المختلفة في احتواء المشهد وتملك عين المتلقي بطريقة فريدة لها، حيث تبدو مؤثرة كمشهد يشبه الحلم.
إثارة المشاعر
بدلا من رؤية الصورة بالكامل، يبدو الأمر كما لو كنت تشاهد لحظة معينة، صُممت بعناية لإثارة المشاعر بذهنية تترنح بين الوعي وبين عدم اليقين في أن تلك المشاهد لها دافع واقعي حقيقي، إذ يُعرف ماينال بلوحاته الكبيرة مع الشكل كنقطة محورية وسط منظر طبيعي غامض مثير للفضول في التتبع والاكتشاف، تفرض تجربته ذاتها من خلاله بكل ما يحمل من بحث وذكاء بصري استطاع أن ينفلت من عتمة الواقع إلى عمق الوجود وتساؤلاته واحتمالاته التي تكرس دوافع البحث عن أجوبة لما بعد العنف والدمار وما بعد الحروب والقتال.
ولد ماينال في برمنغهام بإنجلترا، لكنه نشأ في ديترويت بولاية ميتشيغان، تشبع بالرؤى البصرية الإنجليزية والجرأة التجريبية الأميركية وبين البيئتين اختار أن يتحمل رؤاه ويحملها على محامل الإنسانية كدافع أولي لخلق لغة بصرية متفردة، حصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة في كلية الدراسات الإبداعية في ديترويت، أكمل تعليمه في أكاديمية سان فرانسيسكو للفنون وحصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة.
في ديترويت، وجد آرون ماينال الإلهام في الألوان الخافتة للمصانع الفارغة وناطحات السحاب التي كانت تملأ المدينة، كان منبهرا بصناعة السيارات، ولكنه اكتشف وعندما كان طفلا، أن زوايا الغابات المحيطة بالمدينة التي أحبها، كانت مقبرة من حديد تحمل تلك الآلات والسيارات المتروكة والمكسورة، من هنا تحولت الصورة في حلمه وانعكست على نضجه الواعي في تلك المقاربة اللامتوازنة بين الإنساني الكامل والآلي الجامد.