اختزال تحصين الأمن الفكري في الفتاوى يعمق التشدد في مصر

سلّط مؤتمر "الفتوى والأمن الفكري" الذي عقد بالقاهرة مؤخرا الضوء على فوضى الفتاوى وتأثيرها في تشكيل الوعي المجتمعي وتوجهاته. ورغم خطورة الظاهرة لا تزال الحلول الواقعية غائبة.
القاهرة - حمل مؤتمر “الفتوى والأمن الفكري” الذي نظمته دار الإفتاء المصرية قبل أيام، جملة من الرسائل حول استمرار عشوائية الفتاوى وعلاقتها باتساع دائرة التطرف والتشدد وتهديد الأمن الفكري للمجتمعات، في ظل عدم وجود تشريعات صارمة تحدد هوية المنوط بهم إصدار الفتاوى، وتسلل غير المختصين إلى الصدارة.
وبينما خلصت محاور كلمات المشاركين في المؤتمر من دول عربية وإسلامية مختلفة إلى حتمية سن تشريعات لضبط الفتاوى، لم تتطرق الجلسات والنقاشات إلى خطورة استسهال الفتاوى وتدخل رجال الدين في حياة الناس وتداعيات ذلك على المجتمعات واستقرارها الأمني بزيادة حدة الاستقطاب والانقسام.
وركز عدد كبير من كلمات الحضور على أهمية الفتاوى المنضبطة كمدخل لتكريس الأمن الفكري، وسط إصرار بعض الجماعات والعناصر المتشددة على مزاحمة المؤسسات الدينية في هذا الدور، ومحاولة تقديم أنفسهم للناس على أنهم الأصل في الفتوى، بما يخلق صراعا يؤثر على فهم المواطنين لما هو مباح، وما هو محرّم.
وغاب عن مؤتمر دار الإفتاء المصرية أن استسهال إصدار الفتاوى يقود إلى استسلام المواطنين لرؤى رجال الدين ويفضي إلى أزمات تصل إلى حد تقسيم المجتمع ونشر التطرف الفكري، لأن النقاشات لم تتطرق إلى خطورة وجود رجال دين لديهم رؤى فقهية متشددة داخل بعض المؤسسات الرسمية نفسها.
وركزت النقاشات على مجموعة من المحاور، تمثلت في الفتوى ودورها في تحقيق الاستقرار وأسلوب الإفتاء، ووضع آلية للإجابة عن الأسئلة المستحدثة، وأثر الفتاوى الشاذة على استقرار الدول، ودورها في مواجهة الإرهاب الفكري وتفنيد خطاب المتطرفين، وكيفية تحصين الناس من فتاوى الجماعات الإرهابية.
وتزامن مؤتمر الإفتاء، الذي عقد الأحد الماضي، مع اتساع دائرة الفتاوى المتشددة التي تضرب بعض المجتمعات العربية بلا استثناء، وعدم قدرة المؤسسات الدينية الرسمية على التصدي لها أو تحجيمها، أو حتى استقطاب الشرائح المجتمعية الباحثة عن الفتوى، ما كان له تأثير على الأمن الفكري والمجتمعي.
وخلت كلمات رجال الدين المشاركين في المؤتمر من التطرق إلى بعض المنتسبين إلى المؤسسات الدينية أنفسهم، ولديهم تشدد أكثر من الذين يفتون بغير علم أو حُجّة، لكن ذلك لم يحدث، في ظل غياب الشجاعة والإرادة لتطهير هذه المؤسسات من تلك العناصر.
وأكدت نقاشات المؤتمر أن المجتمعات ستظل تواجه أزمة مرتبطة بفوضى الفتاوى لأن المؤسسات الدينية تختزل الحل فقط في إصدار تشريعات تعاقب غير المختصين في الدين والشريعة إذا مارسوا الفتوى بغير وجه حق، دون إدراك أن تكريس الأمن الفكري يتطلب التوازن بين الفتوى الملحة وعدم التدخل في حياة الناس.
ويبدو أن رجال الفتوى لم يقتنعوا بأن الأغلبية لديها من الوعي ما يكفي للعيش في سلام ومحبة شريطة توقف الفتاوى التي تنغص حياتها من المتطرفين أو المؤسسة الرسمية نفسها لأنها لفظت المتشددين وسبق أن تمردت ضد أفكارهم بإسقاط حكم الإخوان.
ومهما حاول المسؤولون عن الفتوى تسويق تدخلهم في حياة المجتمع بصد هجمات المتطرفين لتعزيز الوعي والفهم والأمن الفكري، لا يُدركون أن تلك التدخلات تمنح المتطرفين فرصة للتشكيك في الفتاوى الرسمية، وهناك نسبة كبيرة من الناس قليلي الوعي من السهل انزلاقهم خلف خطاب التشدد.
وتكفي مطالعة عشرات المواقع الإسلامية في مصر للتأكد من أنها صارت بديلة عن الفتوى الرسمية، وتعج بآراء في كل التخصصات كي لا يحتاج الناس إلى جهات دينية رسمية، وتنشر الفتاوى مدعومة بأدلة وبراهين من التراث القديم لتثبت حجتها، وبعضها يستند إلى آراء علماء دين من رجال الأزهر ومؤسسة الفتوى.
ويرى متابعون أن تحقيق الأمن الفكري داخل المجتمعات لا يكون بإقصاء غير المتخصصين في الفتوى فقط، بقدر ما يرتبط الأمر بتغير نظرة الناس لرأي رجال الدين، والكف عن التعامل مع الفتاوى باعتبارها الدستور الذي يسيرون عليهم ولا يحيدون عنه، حتى أصبح هناك مدمنون لها من شرائح مختلفة.
ويعد مؤتمر دار الإفتاء المصرية الرابع من نوعه خلال عامين، في محاولة للبحث عن آلية محددة تتشارك في وضعها المؤسسات الدينية لمواجهة عشوائية وفوضى الفتوى، دون جدوى، ما يعكس غياب الحلول الواقعية لتلك الأزمة.
وتستقبل مؤسسة الفتوى في مصر بشكل يومي آلاف الاستفسارات التي تخص تعاملات الناس، لكن دار الإفتاء سوّقت ذلك إعلاميا على أنه انعكاس لحجم الإيمان والثقة فيها، بلا اكتراث بالخطورة على الأمن الفكري الذي تحاول حمايته.
وتتدخل الفتاوى في أدق خصوصيات العلاقات الاجتماعية بين الرجل وزوجته، ولا يكف رجال الفتوى عن التجاوب مع الاستفسارات مهما كانت طبيعتها، ويصعب رفض الرد عليها، والفتوى تكون دائما جاهزة وتصدر بشكل علني دون اختصاص صاحبها بالإجابة ما يوحي بأنها تصلح لعموم الناس.
وبمرور الوقت أصبحت علاقة الناس بالفتوى قائمة على القدسية بشكل غيّب عقولهم، وصاروا يتعاملون معها باعتبارها الملاذ الآمن، سواء أكانوا أميين أم متعلمين، لكنهم يتساوون في تسليم عقولهم لرجال الدين كي يرشدوهم إلى الصواب، وهي إشكالية يراها البعض أكثر خطرا على الأمن الفكري من إصدار فتاوى متشددة أحيانا.
وأكد الباحث في شؤون الأديان محمد أبوحامد أن تسيير حياة الناس بالفتوى لا بالعقل خطر على الأمن الفكري، لأن تلك الحالة تجعل البعض أسرى لتوجهات فقهية دون التأكد من هوية أصحابها، هل هم وسطيون أم متشددون، وتكريس الأمن الفكري ينطلق من إعلاء مدنية الدولة، وما يترتب عليه من مدنية المجتمعات.
◙ الفشل في مواجهة عشوائية وفوضى الفتوى في مصر يعكس غياب الحلول الواقعية لتلك الأزمة المستفحلة
وأضاف لـ”العرب” أن ضبط الفتوى وإقصاء غير المتخصصين أولوية، وهذا يحتاج إلى تشريعات صارمة، لكن مهم أن يراجع بعض رجال الدين مواقفهم من التماهي مع استفسارات الناس في كل كبيرة وصغيرة ليتعود المجتمع على إعمال العقل والمنطق والتمييز بين الصواب والخطأ من دون الاحتماء بفتوى.
أما إذا استمرت السيولة غير المنضبطة في إصدار الفتاوى، ولو كانت رسمية وصادرة عن جهة موثوق بها، وتتمتع بمصداقية ونزاهة، فذلك يقود إلى تغذية الجهل في المجتمع، ويؤدي إلى حالة من اللاوعي وتغييب العقول والتعامل مع الفتاوى بقدسية تقود إلى ارتفاع مستوى التشدد الديني.
كما أن تحلي المؤسسات الدينية الرسمية بشجاعة الاعتراف بأنها جزء من أزمة تهديد الأمن الفكري، ضرورة حيوية لأن كثافة المؤتمرات والفعاليات التي تناقش تلك المشكلة لن تقود إلى حلول ناجزة، ما لم تكف تلك الجهات عن تقديم نفسها للناس كهيئات مسؤولة عن حياة البشر.
وطالما باتت الفتوى أقوى من القانون، من الطبيعي أن يتم تغييب العقل والمنطق بما يخدم المتشددين الذين يجدون في تلك الحالة فرصة ثمينة للوصول إلى مبتغاهم وتكوين شعبية مجتمعية قائمة على الفتوى، لتصبح الساحة عبارة عن معركة بين الفتوى الرسمية والعشوائية لينهار الأمن الفكري.
ومن الصعب الوصول إلى مرحلة الأمان الفكري في ظل اقتناع جهات الفتوى بأن مواجهة غياب الوعي تكون بطرح المزيد من الرؤى الدينية، لأن الاستمرار على نفس الوتيرة يشوه الشخصية بزيادة جرعة التطرف وتقييد كل محاولة للتحرر وإعمال العقل، أمام عدم وجود سقف من الفتاوى تلتزم به أي مؤسسة.
ولئن كانت الفتاوى مطلوبة في أمور مصيرية، فإن ذلك لا يبرر تحول رجال الدين إلى مرشدين للمجتمع، وتبرير ذلك بأنه حصانة للأمن الفكري، مع أن الدين الإسلامي شجع على استقلالية العقل وقال “أنتم أعلم بشؤون دنياكم،” لكن رجال الفتوى يتمسكون بأنهم أعلم بكل شيء، وما دونهم مغيّبون.