في سوريا.. للاحتفال وقت وللبناء وقت

السوريون الذين استطاعوا تحقيق نجاحات في مصر وتركيا وألمانيا وغيرها من دول دخلوها لاجئين يستطيعون الآن العودة إلى سوريا حاملين معهم نجاحاتهم وخبراتهم الجديدة.
الثلاثاء 2024/12/17
يوم كان الحصول على ربطة خبز انتصارا

كيف تعيش أسرة سورية مؤلفة من خمسة أفراد بمبلغ 15 دولارًا شهريًا؟ يبدو الأمر مستحيلًا، لكن هذا هو الحال الذي ترك عليه النظام السوري السابق الناس في سوريا.

عندما استلم الرئيس الأسبق حافظ الأسد السلطة كانت قيمة الدولار بالنسبة إلى الليرة السورية 3.65، وكانت قبل فرار الأسد الابن بيوم واحد تتراوح بين 15 و18 ألف ليرة.

كيف قاوم السوريون زمن الخصاصة هذا، معجزة سيتم الحديث والكتابة عنها كثيرًا. ستكون هناك روايات وأفلام ومسلسلات وأشرطة وثائقية تتحدث عن الجحيم الذي عاشه السوريون خلال ستة عقود.

وسائل إعلام دولية وعربية عديدة تابعت ما حصل من مآس وجرائم ارتكبت بحق عشرات الآلاف، حتى لا نقول مئات الآلاف من المعتقلين في السجون السورية. ولم يتم التركيز كثيرًا على السجن الأكبر.

◄ كل ما يحتاج إليه السوريون الآن هو تجاوز الماضي، والعمل على إقناع الجهات الخارجية برفع العقوبات المفروضة على سوريا وتقديم مساعدات للشعب السوري، وهذا لن يكون أمرًا صعبًا

هذه الإساءات لم تقتصر على الجانب الأمني والسياسي، بل كان للاقتصاد النصيب الأكبر. قد يربط البعض الأزمة الاقتصادية بنزاع مسلح اندلع عام 2011، وهذا إن ساهم في تعميق الأزمة، إلا أنه لم يكن سببًا في بدايتها.

لا أعرف بالضبط عدد الساعات والأيام والأشهر التي خسرتها من طفولتي ومن مرحلة المراهقة الأولى، وأنا أقف بيأس أمام المخابز للحصول على ربطة خبز أعود بها إلى البيت منتصرًا. لا أتحدث عن الأعوام التي تلت اندلاع النزاع في سوريا، عام 2011، بل عن السنين التي تلت استلام حزب البعث للسلطة في سوريا، أي ستينات القرن الماضي.

قد تكون هذه المعلومة صادمة خارج سوريا، فالمعلومات التي يعرفها الجميع أن سوريا كانت تنتج ما يفوق حاجتها من القمح بكثير، وكانت تصدّر الفائض. ما ينطبق على الخبز ينطبق أيضًا على مشتقات النفط والغاز، التي كان الحصول عليها هي الأخرى مناسبة تستحق الاحتفال.

اختلاق الأزمات في سوريا سياسة تبنتها حكومة البعث منذ أول يوم استلمت فيه السلطة في 8 آذار – مارس 1963، وحولت حياة السوريين إلى صراع لتأمين احتياجاتهم اليومية. حتى خدمات الماء والكهرباء كانت تقطع عن الأهالي يوميًا لساعات طويلة دون تقديم أي تفسير. وهنا أتحدث عن فترة لم يكن العالم فيها قد عانى بعد من الجفاف بسبب التغيرات المناخية. وسوريا تخترقها أنهر وبحيرات عديدة.

إذا كان هناك ما نجح فيه نظام البعث في سوريا، فهو تحويلها إلى سجن كبير، وتجويع شعبها الذي تؤكد المصادر أن 90 في المئة من أفراده يعيشون حالة فقر.

هذا هو إرث حزب البعث وإرث الأسد الأب والأسد الابن، الذي فرّ من سوريا وتركها خلفه تواجه عقوبات وتحديات اقتصادية كبيرة. ويأبى التاريخ إلّا أن يكرر نفسه حتى إن كان ذلك في تفاصيل صغيرة، حيث بدأت محنة السوريين مع عام 1963 يوم 8 آذار – مارس لتنتهي يوم 8 ديسمبر – كانون الأول 2024.

◄ الحكومة المؤقتة لن تتسرع في اتخاذ أي قرار قد يوحي بأنها تخطط للانفراد بالحكم بعد الفترة الانتقالية، أو تفرض ممارسات تسيء للحريات الفردية وحقوق الأقليات

البيانات الحالية تشير إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 85 في المئة بين عاميْ 2011 و2023، إلى 9 مليارات دولار، منخفضًا من 46 مليار دولار. التفسيرات التي تقدم تعزو ذلك إلى انخفاض إنتاج الطاقة على الرغم من امتلاك البلاد موارد كبيرة، حيث انخفض إنتاج النفط اليومي من 383 ألف برميل قبل الحرب الأهلية إلى 90 ألف برميل في العام الماضي. وتحولت سوريا، التي كانت ذات يوم أكبر مصدر للنفط في شرق البحر الأبيض المتوسط، إلى مستورد له.

التراجع أصاب أيضًا الإنتاج الزراعي؛ إذ تراجعت الأراضي المزروعة في البلاد بنسبة 25 في المئة مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب الأهلية. وانخفضت صادرات البلاد بنسبة 89 في المئة مقارنة بما كانت عليه قبل الصراعات، لتبلغ أقل من مليار دولار.

على غرار معظم السوريين الذين ينتظرون فرجًا، ينتظر رجال الأعمال معرفة كيف ستدير الحكومة المؤقتة البلاد وما إذا كانت هيئة تحرير الشام، التي تتولى مهام حكومة تسيير أعمال مؤقتة، ستحقق هذا الهدف.

باسل الحموي، رئيس غرفة تجارة دمشق، قال في مقابلة مع رويترز إن الحكومة السورية الجديدة أبلغت رجال الأعمال أنها ستتبنى نموذج السوق الحرة وتدمج البلاد في الاقتصاد العالمي، في تحول كبير عن سيطرة الدولة على الاقتصاد لعقود، مؤكدا أنه “انطلاقًا من اليوم” سيكون في سوريا نظام تجاري حر مبني على التنافسية.

تصريحات الحموي جاءت غداة اجتماعه مع وفد حكومي برئاسة وزير الاقتصاد في حكومة الإنقاذ السورية باسل عبدالعزيز. الرسالة التي بعثت بها السلطات الجديدة مشجعة، وبعيدة كل البعد عن ممارسات النظام السابق الذي هيمنت عليه مجموعة من رجال الأعمال المقربين.

ما نقله الحموي عن لسان الوفد الحكومي ليس المؤشر الوحيد على أن الشأن الاقتصادي سيسير جنبًا إلى جنب مع المؤشر الأمني، هناك مؤشرات عديدة تثبت أن الحكومة جادة في هذا الطريق. ويمكن تفسير التأكيدات التي تكررت أكثر من مرة على لسان مسؤولين بأن سوريا لن تتورط في أي صراع أو قتال جانبي، حتى مع تكرار الضربات الجوية الإسرائيلية لمواقع مختلفة داخل الأراضي السورية. وهو ما سمعناه من القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، عندما أكد أنه ليس مهتما بالانخراط في صراعات جديدة في الوقت الذي تركز فيه البلاد على إعادة الإعمار.

باستطاعة سوريا أيضًا أن تراهن على الجالية السورية التي لجأت إلى دول الجوار والدول الأوروبية، والتي لم تتوقف عن إرسال مساعدات إلى من تركتهم خلفها في سوريا. وهو ما أكده الحموي الذي قال إنه يتلقى مكالمات مستمرة من رجال الأعمال السوريين في الخارج يريدون معرفة كيف ستتعامل الحكومة الجديدة مع التجارة. هؤلاء سيشكلون الرافد الأهم لإعادة بناء سوريا والمساهمة في التنمية.

◄ اختلاق الأزمات سياسة تبنتها حكومة البعث منذ أول يوم استلمت فيه السلطة في 8 آذار – مارس 1963 عن طريق انقلاب عسكري وحولت حياة السوريين إلى صراع لتأمين احتياجاتهم اليومية

وتفرض سوريا منذ فترة طويلة ضوابط صارمة على الواردات والصادرات. وكان  تداول العملات الأجنبية بصورة مستقلة يودي بصاحبه إلى السجن، وكان البعض يخشى ذكر كلمة دولار. لكن الدولار أصبح يتداول علنا في المعاملات اليومية منذ الإطاحة بالأسد.

لن تتسرع الحكومة المؤقتة في اتخاذ أي قرار قد يوحي بأنها تخطط للانفراد بالحكم بعد الفترة الانتقالية، أو تفرض ممارسات تسيء للحريات الفردية وحقوق الأقليات. وشكل افتتاح البارات والمطاعم اختبارًا حقيقيًا للحكومة المؤقتة التي امتنعت عن التدخل.

عدا ذلك، النهوض بسوريا من قلب الدمار الذي لحق بها لن يكون مستحيلا. السوريون الذين استطاعوا تحقيق نجاحات في مصر وتركيا وألمانيا، وهي دول دخلوها لاجئين، يستطيعون العودة إلى سوريا حاملين معهم نجاحاتهم وخبراتهم الجديدة، للبناء عليها.

سوريا بعاصمتها الصناعية حلب، وعاصمتها التجارية دمشق، وبسلة غذائها في سهل الغاب، وبمنطقة الجزيرة، وبإنتاجها من زيت الزيتون والغلال والفاكهة على جبال الساحل، وبموقعها الإستراتيجي بين ثلاث قارات، لا يمكن أن تفشل.

كل ما يحتاج إليه السوريون الآن هو تجاوز الماضي، والعمل على إقناع الجهات الخارجية برفع العقوبات المفروضة على سوريا وتقديم مساعدات للشعب السوري، وهذا لن يكون أمرًا صعبًا، خاصة أن التطورات العالمية، سواء الأمنية أو الاقتصادية، مهيأة لمثل هذه القفزة.

 

اقرأ ايضا:

       • الدولة العميقة لنظام الأسد.. كيف انتهت

       • البراغماتية السياسية الجولانية

9