العولمة تفقد صناعة السينما هويتها وتجعلها عابرة للحدود

بينما يمضي فن السينما إلى القرن الثاني من عمره يتجاوز صناع الأفلام الحدود القومية باتجاه نوع جديد من العالمية؛ فقد أصبحت الأفلام ذات طبيعة عالمية كما لم يحدث من قبل. ودفع هذا التغير الاقتصاد العالمي على نحو متزايد وشجعته التغيُّرات في السياسة العالمية وسهلته التقنيات الحديثة وشكّله وعي متزايد عابر للثقافات.
في كتابه “السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية”، يستخدم ويليام في كوستانزو الذي يَعملُ حاليا ضِمنَ لجنةِ التدريسِ بجَمعيةِ الدراساتِ السينمائيةِ، أفلامًا حديثة رائعة بدلًا من تتبع التاريخ الطويل للسينما دولةً دولةً أو منطقةً منطقة، ليكشف مدى تأثير العولمة والثورة الرقمية في صناعة السينما.
ويقوم الكتاب على فكرة تقسيم الأفلام إلى مجموعات حسب النوع السينمائي والفكرة الرئيسية. إذ هناك وحدة عن “أفلام البطل المحارب” تتضمن أفلام الكونغ فو من هونغ كونغ، وأفلام عن أبطال الفنون القتالية أو ما يسمى بأفلام الووشيا من بر الصين الرئيسي، وأفلام عن فرسان الساموراي من اليابان، وأفلام هوليوودية عن رعاة البقر. أما وحدة “أفلام الزفاف” الهندية، فتفحص أفلامًا مثل “مأدبة الزفاف” و”الزفاف الموسمي” و”زفافي اليوناني الكبير”؛ التي تجسد بنحو درامي المشكلات التي تميز العلاقات التي تجمع بين ثقافات مختلفة في سياق طقوس الزفاف العِرْقية.
هناك أيضا وحدتان أُخريان عن أفلام الرعب وأفلام الطريق، تستكشفان ما يجده الناس في أماكن أخرى من العالم مثيرًا للرعب، وما الذي يدفعهم للقيام بالرحلات البرِّية. بهذه الطريقة، يتعلم القرَّاء البحث عن الأسباب وراء عوامل التشابُه والاختلاف بين الأفلام، ويفهمون كيف أن أفلام اليوم هي جزء من ظاهرة عالمية ديناميكية تستخدم التقاليد المحلية وعوامل التأثير الأجنبية لإشباع احتياجات ورغبات جمهور ذي وعيٍ عالميٍّ يتزايد تنوُّعه الثقافي.
ويرى كوستانزو أن “فهم الأفلام يتطلب انتباهًا لعوامل ثلاثة رئيسية: إنتاجها أو جهة صناعتها، ومحتواها وشكلها الفني وأسلوبها السينمائي، وردُّ فعل الجمهور، وهي العوامل المتصلة بعضها بعضا بشكلٍ مُعقَّد، وبأمورٍ أخرى ثقافية وتاريخية. ولفهم تاريخ السينما ذاته وكيف تطورت الأفلام بمرور الوقت منذ ظهورها الأول في ثمانينات القرن التاسع عشر، يساعد تذكر أن السينما صناعة بنفس قدر كونها فنًّا واختراعًا تقنيًّا ومؤسسةً اجتماعية. هذه الجوانب الأربعة ـ الاقتصادية والجمالية والتقنية والمجتمعية ـ متضافرة في نسيج تاريخ السينما.”
ويؤكد الكاتب أنه “حديثا، أصبح مصطلح العولمة أحد مفردات حياتنا اليومية، واكتسبت الممارسات التجارية في صناعة السينما طابعًا عالميًّا أكثر وضوحًا. وإذا كانت أستوديوهات هوليوود في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين تدار مثل خطوط تجميع السيارات في مصانع فورد، فإن هوليوود هذه الأيام تعمل مثل صناعة السيارات الحديثة حيث تعهد بجزء من عملية الإنتاج إلى أماكن أخرى في العالم (كالتصوير في بودابست وإجراء المونتاج في بريطانيا) وأحيانًا تسند إلى دولة أخرى مهمة تنفيذ العملية بكاملها. اليوم، أصبحت هوليوود نظامًا للتجميع المتكامل، وهو ملائم أكثر لعقد الصفقات من صناعة الأفلام.”
ويشير إلى أن “صناعة الأفلام الكبرى عمليةٌ باهظة التكلفة؛ فقد أخذت تكلفة إنتاج الفيلم المتوسط في هوليوود تزداد بانتظام من 11 مليون دولار في أوائل ثمانينات القرن العشرين إلى 50 مليون دولار في التسعينات من نفس القرن ثم إلى 64 مليون دولار عام 2005. وهذا الرقم يمثل فقط ‘صافي تكلفة الإنتاج‘ وهي نفقات صناعة الفيلم حتى صدور أول نسخة سالبة من الفيلم والتي ستصنَع منها نسخٌ عديدة. بالنسبة إلى العديد من جهات إنتاجات الأفلام، هناك مبالغُ كبيرةٌ قريبة من تلك التكلفة مطلوبة للدعاية والتوزيع، وهذا يعني أن أي أستوديو يجب أن يجني ثلاثة أضعاف تكلفة الإنتاج حتى يحقق فقط التعادل بين التكلفة والدخل. ورغم أن الأفلام غير الهوليوودية أقل تكلفة في صنعها عادة، فإن ميزانية أي فيلم فرنسي أو ياباني موجه لجمهورٍ نخبوي ربما تصل إلى 10 أو 15 مليون دولار. بوجود مثل هذه التكاليف، فإن التمويل غالبًا ما يكون التحدي الأكبر أمام أي صانع أفلام.”
ويوضح الكاتب أن “إحدى أهم إستراتيجيات التمويل في الاقتصاد العالمي هي الإنتاجات المشتركة. هذه الإنتاجات تجمع بين موارد شركتين أو أكثر من شركات إنتاج الأفلام والتي غالبًا ما تكون من دولٍ مختلفة وهو ما يزيد فرص التمويل وتوافر المواهب واجتذاب الجمهور. أحيانًا تكون هذه الشراكة مالية في المقام الأول؛ فقد صُنِعت تحفة سيلفان شوميه في الرسوم المتحركة ‘ثلاثي بيلفيل‘ 2003، بتمويلٍ مشترك من مستثمرين من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وكندا، لكن شوميه ظل له تحكُّمٌ إبداعي كامل في صناعة الفيلم.”
وبحلول منتصف تسعينات القرن العشرين، كانت فرنسا تصدر بانتظامٍ إنتاجات مشتركة أكثر من الإنتاجات الوطنية بالكامل. فقد ظهرت أفلام كثيرة على غرار فيلم “البيت الروسي” 1990، وقد صُنِع هذا الفيلم بتمويلٍ أوروبيٍّ مشترك وأنتجته شركة مترو جولدن ماير – باتيه بالتعاون مع شركة ستار بارتنرز ثري، واقتُبس من رواية بريطانية لجون لو كاريه، وكتب السيناريو الكاتب التشيكي المولد توم ستوبارد بينما أخرجه الأسترالي فريد سكيبسي. أما طاقم التمثيل فكان من الطراز الأول وضمَّ ممثلين من بريطانيا والولايات المتحدة وأسكتلندا وألمانيا. وقد وَزَّع الفيلم في دور العرض وشرائط الفيديو وأقراص الفيديو الرقمية موزِّعون من الولايات المتحدة وألمانيا والأرجنتين والبرازيل.
ومنذ عام 1995 بدأت منظمة التجارة العالمية في دعم أشكال التعاون العابرة للحدود هذه؛ حيث قلَّلت من عقبات التجارة وعزَّزت من قوانين حماية الملكية الفكرية والفنية وسهلت بشكلٍ عام تدفق رأس المال.
ويرى كوستانزو أن “الثورة الرقمية غيرت عملية صناعة الأفلام بالكامل من البداية وحتى النهاية، بل والصناعة نفسها من أعلى إلى أسفل. وأصبحت أجهزة الكمبيوتر تُستخدَم في كتابة النص السينمائي والتصوير والمونتاج بل والإنتاج والتوزيع وعرض الأفلام. وغيَّرت التطورات التي حدثت في الصور المنشأة بالكمبيوتر وجه صناعة أفلام الرسوم المتحركة، وسمحت لشخصياتٍ رقمية بالتعامل مع ممثلين حقيقيين؛ مما جعل الفروقات بين الممثلين الواقعيين والمتخيَّلين، وبين الأفعال الحقيقية والافتراضية، تصبح مبهَمة وغير واضحة. وينتج قدر كبير من السحر في أفلام هاري بوتر من هذا الدمج بين التقنيات. وهذا مجرد جزء من اتجاهٍ أكبر للدمج الرقمي وهو اتجاهٌ يدمج بين أنواعٍ كانت منفصلة في ما سبق من النصوص والأنواع الفنية وأنظمة العرض. والثورة الرقمية في دفع اتجاهٍ آخر كذلك، ألا وهو الاتجاه نحو اقتصادٍ عالمي بشكلٍ متزايد. فكِّر في التكتلات الإعلامية الدولية التي تتحكم في شركات تلفزيون الكابل وأستوديوهات صنع الأفلام ودور النشر والمدن الترفيهية؛ إنه انتشار عالمي سهلته التكنولوجيا.”
ويلفت إلى أنه “إذا كانت السينما تجارة وتقنية، فهي كذلك نوع من اللغة؛ بمعنى أنها توصل المعاني من خلال نظام من الشفرات والأساليب التي يجب أن تُعرف. على الرغم من أن مشاهدة أيّ فيلم ربما تبدو أمرا هينا كمشاهدة الحياة وهي تمر بنا، فهي أمرٌ يحتاج قدرا معينا من التفسير؛ فكيف يمكننا أن ندرك أن الفم الضخم الذي يشغل الشاشة في فيلم ‘المواطن كين‘ يمثل لقطة مقربة من شفاه كين وهو ينطق كلمته الأخيرة وليست شفاه مارد عملاق؟ كيف نعرف أن قصة كين تسير للخلف في الزمن عندما تذوب صفحةٌ بيضاء من دفتر اليوميات تدريجيًّا لتصبح مشهدًا يملؤه الثلج في كولورادو؟ مشاهد الاسترجاع واللقطات المقرَّبة وحالات التلاشي التدريجي تُعتبر أساليب أو أجزاءً من الشفرة التي تساعدنا في فهم الفيلم.”
ويوضح أن “معظمنا يدرك معنى هذه الشفرات بمرور الوقت عن طريق مشاهدة الكثير من الأفلام وتركيز معظم انتباهنا على الشخصيات وعلاقاتها والعواطف الموجودة في كل مشهد. ربما ننخرط بشدة في القصص حتى أننا نفقد إدراكنا بكيفية رواية القصة. وربما لا نلاحظ وضع الكاميرا أو إضاءة المشهد أو أين تنتهي لقطة وأين تبدأ أخرى، لكننا عندما تثير قصة غير تقليدية حيرتنا، وعندما يُشتِّت انتباهنا أسلوبٌ غير معتاد لفيلمٍ تجريبي أو أسلوب غريب لفيلم من الصين، ربما نبدأ في التركيز على الخطاب السينمائي، متذكِّرين أن الأفلام هي تركيبات.”
ويلاحظ كوستانزو أن “الأفلام لها تاريخ متجذِّر في سياسات وأيديولوجيات العالم. ويمكن تحليل الأفلام على نحوٍ فردي، مشهدًا بمشهد أو على نحوٍ جماعي كأنواعٍ فنية، وحتى كمستودع للأساطير المعاصرة. وبتحوُّل الحياة المعاصرة إلى العولمة على نحوٍ أكبر، في ظل التقاء وتداخل آليات صناعة السينما وتنافس بعضها مع البعض الآخر، من المهم أكثر من أي وقتٍ مضى فهم موقعنا داخل الصورة الكبرى. وبامتلاك هذه المناظير والأدوات المفاهيمية، سنكون مستعدِّين لمدِّ الخريطة وبدء استكشاف الأنواع السينمائية حول العالم.”
ويتساءل “ما الذي يجعل أيّ فيلم صينيًّا؟ هل يتعلق الأمر بمكان صناعة الفيلم أم من يصنعه أم بما يتحدث عنه؟ هل الأمر يتعلق بالثقافة أم اللغة؟ وإلى أيّ حدٍّ يُعتَبر فيلم ‘النمر الرابض والتنين الخفي‘ لآنج لي فيلمًا صينيًّا إذا كان مخرجه قد عاش نصف حياته في أميركا الشمالية وأشبع قصته بالعناصر الغربية؟ حتى فيلم ‘بطل‘ الذي صُنِع في الصين عام 2002 وأخرجه جانج ييمو الذي ينتمي للجيل الخامس من مخرجي الصين، اتُّهم بأنه ليس صينيًّا؛ بسبب تمويله العالمي وطاقم عمله متعدد الجنسيات وجاذبيته الخاصة للجمهور الغربي. إذا، في صناعة يتزايد اتسامها بالإنتاجات المشتركة والمخرجين الذين يعبرون الحدود الوطنية والتسويق العالمي، كيف يمكن للمرء التحدُّث عن سينما صينيةٍ وطنية؟”
وفي مجموعة من الدراسات الخاصة بتاريخ وسياسات وسينما الصين، يقترح شيلدون لو وإميلي يويي يو ييه أن يُستبدَل بمصطلح السينما الصينية بمصطلح السينما الناطقة باللغة الصينية. وبإعادة رسم الخارطة السينمائية بمحاذاة الخطوط اللغوية بدلا من الجغرافية، بهدف توسيع نطاق فكرة الوعي والثقافة الوطنية، ويغطي تعريفهما لها كل صناعات السينما المرتبطة باللغة الصينية.
ويؤكد الكاتب أن “صناع سينمات أميركا اللاتينية سلكوا مسارًا خاصًّا بهم منذ زمن طويل.. حيث أعادوا على نحو مستمر صياغة لغات السينما لمناقشة أكثر القضايا إلحاحًا التي تهم سكان أميركا اللاتينية. وحتى في أفلام الطريق الخاصة بهم، وفي عصر العولمة، فإن أدواتهم تظل لاتينية بنحو مميز.”
بعض الباحثين والنقاد قلقون من هذا الاتجاه الجديد. فعندما نظر بول شرودر رودريجيز في مستقبل السينما اللاتينية، عبّر عن قلقه من أن جيلًا جديدًا من صناع السينما نجح في إعادة إدخال سينما أميركا اللاتينية داخل السوق السينمائية العالمية بملاءمة بعض الأساليب التي رفضتها حركة السينما اللاتينية الجديدة من حيث المبدأ. وكذلك فعلت خوانا سواريز، وهي باحثة أخرى رائدة في السينما الكولومبية رأت أنه لكي تصبح السينما الكولومبية صناعة قوية وتكون جزءًا من النظام العالمي العابر للحدود القومية، فإنها تحتاج إلى الدخول بنحو أكبر في عالم الخيال معتمدة بنحو أقل على الصيغ السهلة باعتبارها جواز مرور للنطاق العالمي المتجاوز للحدود القومية.
لكن كوستانزو يؤكد أنه “مهما كان الرأي، فمن المهم فهم السبب الذي يجعل نوعًا سينمائيًّا مثل أفلام الطريق أو أفلام الرعب نوعًا شهيرًا وكيف يعبر الحدود حاملًا الإرث الثقافي معه وممتزجا مع رؤًى أخرى. لا يجب على المسارات التي يسلكها صناع الأفلام المعاصرون أن تمتزج لتكون طريقا واحدا متجانسا أو تمنح التحكم الذاتي للطيار الآلي. إن تاريخ سينمات أميركا اللاتينية الطويل لوحة فسيفساء تقوم على التنوع والالتزام والخيال وهي ما زالت قيد الصنع. وربما يكون ما هو مختلف اليوم هو وجود فهم أعمق لكيفية تلاقي كل الطرق.”