لسعد المطوي يؤسس لفلسفة حقيقية وشكل من أشكال التأمل

فنان يخوض رحلته الخاصة بين الغرب والشرق في "ثمالة الحبر".
الأحد 2024/12/08
لسعد المطوي فنان يدمج الثقافات

الفن الحروفي في تونس له امتداد مختلف عن نظيره في العالم العربي، حيث ذهب مبكرا إلى تجديد ملامح الخط وتحريره من كتابة الخطاطين إلى فن متكامل ومتمازج مع فنون خط أخرى في الغرب والشرق، مقدما تجارب مختلفة في التصورات والأفكار والتشكّل واللون وغيرها. ومن أبرز الفنانين الذين استلهموا سحر الحروف العربية التونسي لسعد المطوي.

كان اللقاء في باريس، صحبة عالم اللغة الفرنسي الراحل آلان رايْ (1928 – 2020)، المشرف على منشورات معاجم “لو روبير”، الذي تجمعه بالفنان التونسي لسعد المطوي علاقة صداقة وإبداع. فقد أصدر الرجلان مجموعة من الكتب القيمة تتحاور فيها الحروف والكلمات مع الأشكال والألوان. من بينها: “رحلة الكلمات: من الشرق العربي والفارسي إلى اللغة الفرنسية” (2013)، و”رحلة الأشكال: الفن، مادة وسحرا” (2014)، و”قل لي هو السكْرُ: من الكحول إلى النشوة، رحلة عبر الفنون والآداب” (2015).

تتجلى قيمة هذه الكتب في طبيعة علاقة الخط العربي بلغات وثقافات أخرى كالفرنسية حيثُ تصير هذه الكتابة فنا كاملا يتجاوز لغته الأم ليرتقي إلى مرتبة أعلى وأرفع وهي جمالية الفن بالأساس. ربما لهذا السبب يعيش فن لسعد المطوي اعترافا حقيقيا جميلا لا بصفته خطاطا عربيا، بل لأنه فنان كامل ومتكامل يفرض عمله على الأشكال والألوان والفضاء احتراما وتفاعلا.

فن المطوي يعيش اعترافا حقيقيا لا بصفته خطاطا بل فنانا متكاملا يفرض عمله على الأشكال والألوان والفضاء التفاعل

مؤخرا نظم قصر دوقات بريطانيا، وهو متحف تاريخ مدينة نانت الفرنسية، معرضا امتد بين 6 يوليو و22 سبتمبر 2024، تحت عنوان “ثمالة الحبر”، خُصص له عدد خاص لمجلة “الفنون الجميلة” الشهيرة، مع نصوص لصحافيين ونقاد فنيين مشهورين مثل كلود بومرو ولويس جيفارت وديبوراه بيرتول ورافائيل توركات ومارتينا ماسويولو المتخصصة في النقوش الإسلامية والعاملة بقسم الدراسات الإسلامية بمتحف اللوفر.

وقد كتبت في تلك المناسبة ما يلي “يستمد لسعد المطوي إلهامه من الخط العربي، الذي تعلمه في سن مبكرة جدا في تونس. ومنذ ذلك الحين، استمر في إعادة اختراع هذا الشكل الفني، مستمدا من الثقافات الأخرى ودامجا الكثير من التأثيرات المعاصرة. وفي معرضه ‘ثمالة الحبر’ اختار أن يوجه نظره نحو الشرق. نشأ هذا الإلهام في رحلة إلى فلورنسا، حيث أمضى أسبوعا يفكرُ في اليابان، وملء دفاتر ملاحظاته بمساحات سوداء كبيرة. كل ‘فن الحبر’ (‘سومي’ باليابانية) الذي يُمارس في آسيا هو في الواقع وليد هذا اللون. يستعير لسعد في أعماله ورق الخط الصيني – الياباني المصنوع من ألياف التوت (كوزو)، وكذلك الحبر النقي الذي يمتص كل الضوء. ومن خلال ‘فن الحبر’ هذا، وهو فلسفة حقيقية وشكل من أشكال التأمل، فإنه يحافظ بالتالي على العنصر الأساسي المتمثل في أحادية اللون.”

تحويل المادة الخام إلى طاقة إبداعية فذة
تحويل المادة الخام إلى طاقة إبداعية فذة

بهذه الطريقة يتجاوز لسعد المطوي حدود العالم العربي ليسافر عبر الأوراق والألوان إلى أقاصي الشرق، مجددا فنه ومكتشفا ذاته عبر الآخر. هذا ما يتجلى بالفعل من خلال العدد الخاص لمجلة “الفنون الجميلة” التي تهدينا أيكونوغرافيا كاملة من خلالها ندخل إلى عالم الفنان وهو يعمل في مرسمه، وهو يلون العالم بأقلامه وريشاته وفرشاته. والجميل في كل ذلك ولوجنا إلى مخياله الفني عبر كراريسه ودفاتره الشخصية، وهي بالفعل لحظة فنية فريدة من نوعها حيث يمتزج الرسم بالتفكير والترجمة.

ربما ذلك هو معنى “ثمالة الحبر”: تضافر المقومات الإنسانية والفنية لتحويل المادة الخام إلى طاقة إبداعية فذة. ويبدو ذلك من خلال الكتاب الجميل، وهو جنس أدبي قائم الذات يجمع بين الرسوم والنصوص، الورق الفخم وتقنيات الطبع الأصيلة والجميلة في نفس الوقت. هذا العمل سهرت عليه منشورات غاليمار من خلال كاتالوغ المعرض وقد كتب مقدمته الروائي الفرنسي الشهير دافيد فينكينوس، وهو صاحب نص روائي تقع أحداثه في متحف.

كما تشارك في هذا العمل القيم فنيا ونقديا وبصريا مجموعة من النقاد المشهورين من بينهم برينو ديبورجيل، وهو جامعي وكاتب شهير خصص أعمالا هامة لفنانين كبار أمثال بيير سولاج، وكذلك لويس جيفارت ومارين رو وجوديكائيل لفرادور.

الفنان يستمد إلهامه من الخط العربي الذي تعلمه في سن مبكرة في تونس واستمر في إعادة اختراع هذا الشكل الفني

بقطع النظر عن الاعتراف الذي يحظى به لسعد المطوي من قبل هذه الأسماء المعروفة التي يشهد لها في الحقل الفني أكاديميا ومرجعيا، فإن عمله الإبداعي شديد الأهمية لأنه كتلك الشجرة التي تضرب عروقها عميقا في الأرض من خلال تمسكها وتحكمها في فنها الأصلي أي الخط العربي، لكنها تذهب بجذعها وبأغصانها بعيدا جدا في السماء حيث لا تخاف مخاطبة الهواء والشمس والمطر، وتكشف نفسها أمام العالم كي تكتشف نفسها والعالم سويا.

خصوصيات لسعد المطوي كثيرة وجميلة. مرجعياته كذلك متعددة وعميقة، فهي تجمع بين أصول الخط العربي والفنون الجميلة الغربية والفكر والفلسفة القديمة والحديثة مع تعلق كبير بالشعر والشعرية العربية من الجاهلية إلى جبران خليل جبران مرورا بالصوفية. تلك هي “ثمالة الحبر”: زواج سعيد بين مرجعيات وثقافات وأحاسيس يترجمها الفنان عبر ألوان وخطوط ولوحات نيرة ومضيئة.

Thumbnail
10