تبادل المصالح يهيمن على اختيار الأفلام المغربية في المهرجانات الكبرى

تتحكم العلاقات بكثرة في الوسط السينمائي المغربي، وهي من تمنح جواز السفر للأفلام للمشاركة في المهرجانات الدولية، لذلك يتكرر المشهد منذ سنوات لنجد الوجوه والأسماء ذاتها هي من تمثل السينما المغربية دون أن يلتزم بعضها بالجودة الفنية، في حين تشكو التجارب الجادة وأصحابها من التجاهل ويبدون عاجزين عن إيجاد فرصة لتقديم أفلام مغربية جادة ومهمة.
الرباط - تمثل العروض الأولى للأفلام المغربية في المهرجانات الوطنية والعالمية نافذة مهمة تعكس تطور الصناعة المحلية ومدى قدرتها على المنافسة والإبداع، فهي مناسبات لعرض الإنتاج الجديد ومنصة لاكتشاف المواهب وتقديم صورة تعبر عن هوية السينما المغربية، غير أن هذه العروض كثيرا ما تثير تساؤلات حول المعايير التي تعتمدها لجان الاختيار، فبينما يُفترض أن يتم تقييم الأعمال بناء على الجودة الفنية، يتم اختيارها بناء على هوية صانعها أو نفوذه وعلاقاته في الوسط السينمائي، فهل يتم فعلا تكريس المعايير الفنية الحقيقية لتقديم صورة مشرّفة للسينما المغربية أم أن المحسوبية والاعتبارات الشخصية هي السائدة؟
تبرز بعض العلاقات بين صناع الأفلام المغاربة ومديري المهرجانات السينمائية العربية والعالمية صورة معقدة مشبوهة تكشف عن وجود شبكة من المصالح التي تؤثر بشكل كبير على اختيار الأفلام، ففي الكثير من الأحيان لا يُنظر إلى جودة العمل الفني أو مستوى الإبداع كمعيار أساسي للقبول في هذه المهرجانات، بل نجد العلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة جزءا لا يتجزأ من عملية الاختيار، فبعض صناع الأفلام المغاربة يمتلكون علاقات وثيقة مع مديري المهرجانات، وهو ما يجعل قبول أفلامهم في المهرجانات العربية والعالمية أكثر سهولة، حتى لو كانت هذه الأفلام تفتقر إلى المستوى الفني المطلوب أو لا تضيف جديدا إلى المشهد السينمائي.
وتتجسد هذه العلاقات في سلسلة من المصالح المشتركة التي تتيح لبعض الأفلام أن تجد مكانها في المهرجانات الكبيرة، بينما تُستبعد أعمال أخرى ربما تكون أكثر ابتكارا وجدّة ولكن تفتقر إلى الدعم الشبكي اللازم. وهذه الممارسات تساهم في تكريس نوع من الهيمنة لأسماء معينة، بينما تجد السينما المغربية نفسها في دوامة من الأعمال التي تتكرر وتحظى بالمكانة فقط بناء على العلاقات الشخصية، وهو ما يؤدي إلى إضعاف قدرة المهرجانات على تقديم صورة حقيقية وموضوعية عن السينما المغربية والمغاربية على الساحة الدولية، والكارثة العظمى هي حتى لو قبلت أفلامهم بالواسطة تكون عبارة عن سباق أرانب أو تحظى بتتويجات رمزية لحفظ ماء الوجه.
الوسط السينمائي المحكوم بالولاءات لا يترك مكانا للإبداع الملتزم بقضايا المجتمع بل يُكرس لفئة محدودة تحتكر الفرص
وتستمر السينما المغربية في مواجهة العديد من الأساليب الغامضة التي تهدد مستقبلها، وأبرزها تفشي المحسوبية في اختيار الأفلام المشاركة في المهرجانات، إذ أصبحت هذه الفعاليات مسرحا للاعتبارات الشخصية والعلاقات الخاصة التي تحكم عملية اختيار الأفلام، وهذا الواقع المدمر لا يعكس سوى فشل السوق السينمائي المغربي في تحقيق العدالة والشفافية بين صناع الأفلام. وهناك العديد من الأفلام التي تُختار ليس بناء على قوتها الفنية أو الإبداعية، بل بسبب العلاقات التي يقيمها مخرجها أو منتجها، فأصبحنا نرى أفلاما لا تمتّ للإبداع بصلة تحظى بمكانة مرموقة إعلاميا فقط، لأن القائمين عليها ينتمون إلى دائرة علاقات معينة، وهذا التوجه يُظهر مدى التدهور الذي يعصف بنزاهة المهرجانات السينمائية.
ولن يكون مفاجئا أن نرى مبدعين شبابا ومخرجين مستقلين يُحرمون من فرصة المشاركة في المهرجانات الكبرى، بينما نجد أن أفلاما لم تحقق النجاح الفني أو الجماهيري تحظى بمساحة واسعة فقط لأنها تتماشى مع الأجندات الشخصية لبعض الأشخاص المتنفذين في النظام السينمائي، وهذا الوسط الفني المحكوم بالولاءات الشخصية لا يترك مكانا للإبداع الجاد والملتزم بقضايا المجتمع، بل يُكرّس لفئة محدودة تحتكر الفرص في الوقت الذي يُستبعد فيه المبدعون الجدد الذين يملكون أفكارا جديدة ورؤى غير تقليدية، لذلك يُعاد تمثيل الأسماء نفسها والأعمال القديمة التي افتقدت منذ زمن إلى التجديد، وهذا الأمر يساهم في إعاقة تطور السينما المغربية ويغلق أمامها أبواب التغيير والنضوج.
وبدلا من أن تكون المهرجانات السينمائية محكّما حقيقيا لجودة الأفلام تتحول إلى مجرد مناسبات اجتماعية تستعرض فيها الشخصيات البارزة والأسماء اللامعة التي تهيمن على المشهد السينمائي، فيتم فيها تكريم الأشخاص الذين ينتمون إلى دوائر مغلقة، في مشهد يشبه أكثر حفلات التهنئة والتسويق الشخصي، بدلا من أن تكون ساحة للمنافسة الفنية. وما يحدث اليوم هو أن المهرجانات تساهم في تكريس وضع غير عادل، حيث يتم تفضيل الأعمال التي ترفع شعار “باك صاحبي” وتستفيد من الشبكات الشخصية على حساب تلك التي تعكس أصالة الثقافة المغربية ورؤى المبدعين الجادين، الأمر الذي يقودنا إلى واقع يتسم بالركود ويقتل حيوية السينما ويحدّ من تأثيرها الثقافي.
المهرجانات السينمائية تتحول إلى مجرد مناسبات اجتماعية تستعرض فيها الشخصيات والأسماء اللامعة التي تهيمن على المشهد السينمائي
ومن المؤسف أن تظل المهرجانات السينمائية في المغرب تمثل مجالا للتهليل للأسماء الكبيرة التي غالبا ما تكون محط إعجاب البعض بسبب علاقاتهم ونفوذهم، فبينما تغيب عن هذه المهرجانات معايير حقيقية لتقييم الأعمال السينمائية كالابتكار والجودة الفنية والتأثير الثقافي، فمعيار النجاح اليوم لم يعد متعلقا بقيمة الفيلم نفسه أو بمدى قدرته على نقل رسالة قوية، بل بقدرة المنتجين أو المخرجين على النفاذ عبر القنوات الخاصة والمصالح الشخصية، وهذه المنظومة تقتل الطموحات الحقيقية للمبدعين وتزيد من الإحباط في صفوف الجيل الجديد الذي يُحرَم من فرص التميز والظهور على الساحة، إذ أصبحت اليوم ساحة مغلقة تهيمن عليها المصالح الشخصية والمساومات البعيدة عن الفن، بينما إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإننا سنكون أمام جيل من المبدعين المغاربة سيكتشف في المستقبل القريب أن كل جهوده لن تكون مجدية أمام جبروت المحسوبيات التي تسيطر على الإنتاج السينمائي.
وتتأثر اختيارات الأفلام في المهرجانات السينمائية العالمية بتداخل معقد من العوامل السياسية والاقتصادية، التي في بعض الأحيان تغلب على معايير الإبداع والجودة الفنية. ففي المغرب مثلا نجد أن بعض الأفلام يتم تفضيلها ليس بناء على محتواها الفني أو الروائي، بل بناء على علاقات صناعها السياسية أو الاقتصادية مع الدول المستضيفة للمهرجان أو مع مؤسسات تدعم السينما، وهذا التوجه يساهم في تحجيم فرص الأفلام التي تمثل تجربة فنية رائدة لم تحظ بعد بالدعم السياسي الكافي.
ويمكن القول إن تبادل المصالح سواء كان على مستوى الدولة أو المؤسسات السينمائية، يضحّي بالإبداع السينمائي في سبيل تقوية العلاقات الخارجية أو تأكيد الوجود السياسي داخل محافل ثقافية عالمية، بينما ينبغي أن تكون اختيارات المهرجانات محكومة بمعايير فنية صرفة تضمن إبراز الأفلام التي تتسم بالإبداع وتواكب تطور لغة السينما، بعيدا عن أيّ حسابات أخرى قد تضر بسمعة الصناعة السينمائية المغربية على الصعيد الدولي.
ويظهر في العديد من المهرجانات الدولية التي تشارك فيها الأفلام المغربية، غياب واضح لمعايير الإبداع والجودة الفنية في عملية التقييم، فنجد أن بعض الأفلام التي تفتقر إلى الجودة التقنية أو الفكرية تجد طريقها إلى الاختيارات الرسمية للمهرجان فقط لأن صناعها لهم اسم، وذلك بفضل شبكة من العلاقات السياسية والتجارية التي تساهم في تسهيل وصولها إلى هذه الفعاليات. ومازالت هذه الظاهرة تثير تساؤلات حول نزاهة العملية التقييمية، وتفتح المجال للنقد حول أسلوب إدارة هذه المهرجانات التي يفترض أن تكون معاييرها الفنية هي الأساس في اتخاذ قرارات الاختيار، وهذا يعني أن الكثير من الأفلام التي تحمل طابعا إبداعيا جديدا ومختلفا قد تُستبعد لصالح أخرى تفتقر إلى الجدّة، لكنها ترتبط بعلاقات تجارية أو سياسية تؤثر في نتائج هذه التقييمات، وبينما يصبح على القائمين على هذه المهرجانات التفكير في إعادة تقييم آلية الاختيار، بما يضمن أن تكون الأفلام التي تبرز هي تلك التي تميزت بالإبداع والجودة الفنية.