"حادة وكريمو".. حكايات كوميدية ودرامية من دور الصفيح

هشام الجباري يقدم معالجة عميقة للتهميش الاجتماعي والاقتصادي.
الأربعاء 2024/12/04
مجتمع يعيش على الهامش

الواقع مليء بالأحداث والقصص الكوميدية والدرامية في آن واحد، خاصة في حياة الطبقات الشعبية والمهمشة، وهو ما حاول تصويره المخرج المغربي هشام الجباري، الذي أراد تصوير حكاية سينمائية من دور الصفيح في المغرب، تتعمق في مشاكل هذه الطبقة من المجتمع وأحلامها وصراعاتها الفكرية والاقتصادية والأيديولوجية.

الرباط - قدّم مطلع ديسمبر الجاري العرض ما قبل الأول للفيلم السينمائي "حادة وكريمو" للمخرج هشام الجباري في قاعة سينما “ميغاراما” في الدار البيضاء، ومن المنتظر أن يُعرض الفيلم، الذي تولت إنتاجه شركة “سبيكتوب” تحت إشراف المنتجة فاطمة بنكيران، ابتداء من الأربعاء في مختلف قاعات العرض السينمائية.

تدور أحداث فيلم “حادة وكريمو” حول أخوين يكافحان من أجل حياة أفضل في مدينة لا تشفق على سكانها، وحي لا يرحم أبناءه. ويسلط الضوء على قضايا اجتماعية متنوعة في قالب فكاهي.

ت

العمل بطولة دنيا بوطازوت في دور حادة، وربيع القاطي في دور كريمو، بالإضافة إلى فتاح الغرباوي، وأسماء القرطوبي، وإسماعيل بابويه، وأنس البسبوسي، وطارق البوخاري، وصديق مكوار، وطارق بادر، وسعاد الوزاني، ونعيمة بوحمالة، وسعاد العلوي.

ويطرح سيناريو  الفيلم صورة حية لمجتمع يعاني من التهميش الاجتماعي والاقتصادي، تتجسد أحداثها في صراع الأخوين حادة وكريمو في حي فقير تحكمه الظروف القاسية، إذ تبرز البيئة الحاضنة للأحداث كعنصر حاسم في تشكيل ملامح القصة، حيث تدور أحداثه في دور الصفيح  التي تمثل الفقر بكل ملامحه الاجتماعية والنفسية، وتبرز المشاهد الحياة اليومية لهذه الطبقات المهمشة بكل ما تعيشه من معاناة وضغوط نفسية، كاشفة عن التحديات التي يواجهها الأفراد في بيئة لا توفر لهم حتى الأمان.

تُعبِّر حادة الفتاة المصابة بإعاقة بكماء، عن إحدى هذه الفئات المهمشة التي لا تجد الرعاية أو الدعم الكافي من المجتمع، بينما يمثل كريمو الأخ الذي يسعى جاهدا لحمايتها والنجاة بها من أيدي المتسلطين.

وتُضاف إلى حبكة السيناريو المعاناة والتوترات النفسية التي تمر بها الشخصيات، خصوصا شخصية كريمو الذي يتحمل عبء حماية شقيقته في مواجهة بيئة مليئة بالمخاطر والتهديدات التي تبين هشاشة النظام الاجتماعي الذي يفاقم من معاناة الفقراء ويشجع على الاستغلال والفساد، فصراع كريمو مع عون السلطة الذي يستغل منصبه للتلاعب بحياته وحياة شقيقته يبرز الفجوة الكبيرة بين الطبقة الحاكمة والمواطنين البسطاء الذين يفتقرون إلى وسائل الدفاع عن حقوقهم. هذه الصورة تؤكد على أن الأزمة الاجتماعية في المغرب تتطلب معالجة جذرية تشمل تحسين ظروف الحياة في الأحياء الفقيرة ومكافحة الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية.

لم يغب الطابع الفكاهي عن الفيلم رغم عمق المواضيع التي يعالجها العمل دراميا، وهذا يضيف إليه بعدا إنسانيا يجعله أكثر قربا إلى الجمهور، وقد استطاع المخرج أن يوازن بين الكوميديا والدراما، حيث تساهم الكوميديا في تخفيف وطأة الواقع القاسي، وتخلق مساحة للتفاعل الإيجابي مع المشاهدين. في هذا المزج بين الضحك والتأثر، يقدم الجباري تجربة سينمائية ذات طابع شعبي تنجح في جذب الجمهور وفتح النقاش حول القضايا الاجتماعية المهمة.

الفيلم يطرح صورة حية لمجتمع يعاني من التهميش الاجتماعي والاقتصادي تتجسد أحداثها في صراع الأخوين حادة وكريمو

ويعد أداء الممثلة دنيا بوطازوت في دور حادة من أبرز ملامح العمل، فقد تمكنت من تجسيد شخصية الفتاة البكماء بأسلوب مؤثر وقوي، واستطاعت أن تبرز المعاناة النفسية لشخصيتها من خلال تفاصيل دقيقة في تعابير وجهها وحركات جسدها، جعلت المشاهدين يشعرون بصدق المشاعر التي تعيشها حادة، كونها فتاة شرسة ومليئة بالعزيمة رغم إعاقتها، فهي تتعامل مع العالم من حولها بقوة مقاومة تفرضها الظروف القاسية التي تعيشها، وهنا أظهرت بوطازوت كيف يعاني المعاق من التهميش الاجتماعي والاقتصادي، حيث تعيش في بيئة مليئة بالفقر والتنمُّر، إذ يُنظر إليها كضحية ليس فقط بسبب إعاقتها، ولكن أيضا بسبب وضعها الاجتماعي المتدني، فقدرتها على تجسيد التوترات النفسية لهذا الدور كانت مدهشة، وقدمت صورة حية للمعاناة اليومية للطبقات المهمشة، وحوَّلت الشخصية إلى رمز للرفض والتمرد على الظروف التي تحيط بها.

ويعتبر أداء ربيع القاطي في دور كريمو معقولا، حيث جسد شخصية الأخ الذي يعاني من صراع داخلي بين حبه لأخته حادة ومسؤولياته الشخصية، لكنه نجح في نقل المشاعر الإنسانية العميقة كأخ مليئا بالعاطفة ويتصرف كدرع حماية لأخته المريضة بالصم، في عالم قاسٍ يتنمر على ضعفه الاجتماعي والفكري، وجعل الجمهور يشعر بتضحياته المتواصلة من أجل رعاية أخته في ظل الظروف القاسية التي يعيشها.

 فشخصية كريمو هي صورة حية للأخ الذي يضع عائلته أولا، ويضحي بسعادته الشخصية في سبيل رفاهية أحبائه، وكيف يواجه ضغوط المجتمع ورفضه لكل ما هو مختلف، خصوصا عندما يضطر للتخلي عن حلمه في الزواج من أجل الحفاظ على استقرار أخته وحمايتها، فمن خلال هذا الدور استطاع ربيع القاطي أن يُبرز الجانب الإنساني العميق لشخصية كريمو وكيف أن الحب العائلي يمكن أن يتحدى أصعب الظروف.

وقع الفيلم في فخ تقليد السينما الهندية المبالغ فيه وتحديدا في المشهد الذي تسللت فيه حادة إلى حفل زواج، وقامت بمساعدة عروس لا تعرفها كي تهرب من أجل رجل تحبه، المشهد الذي تضمن هروب الحبيبين من العرس، وهذا المشهد الذي يحمل طابعا دراميا مبالغا فيه لا يتناسب مع السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمع المغربي، فقد بدت الفكرة مكررة، إذ غالبا ما تُشاهد مثل هذه المشاهد في الأفلام الهندية، ما يجعلها تبدو غريبة وغير واقعية في سياق يعالج قضايا اجتماعية حقيقية، بينما كان من الأفضل للمخرج أن يتجنب هذا الأسلوب السطحي ويبحث عن طرق أكثر أصالة وارتباطا بالواقع المغربي، حتى تكون الأحداث أكثر مصداقية وتعكس طابع الحياة المغربية بشكل أدق.

أما بالنسبة إلى شخصية الضو التي جسدها أنس البسبوسي، فكانت صادمة لعدد من المشاهدين بسبب المبالغة الشديدة في أدائه، إذ خرج الضو من السجن وكأنه شخصية خارقة أو نجم هوليوودي، وهو ما لا يتناسب مع سياق الفيلم الدرامي والكوميدي، وكانت المبالغة في تعبيراته وحركاته تزيد من انفصال الشخصية عن الواقع وجعلها تبدو غير منسجمة مع الطبيعة الواقعية لبقية الشخصيات والأحداث، وكان من الأفضل أن يُقدَّم هذا الدور بشكل أكثر توازنا يراعي الخفة الكوميدية المطلوبة في الفيلم دون الإضرار بالمصداقية أو طابع الشخصية.

الطابع الفكاهي لم يغب عن الفيلم رغم عمق المواضيع التي يعالجها دراميا وهذا يضيف إليه بعدا إنسانيا يقربه إلى الجمهور

وفي ما يخص اختيار إسماعيل بابويه في دور عون السلطة، فقد كان أداؤه بعيدا عن التوازن المطلوب بين الكوميديا والدراما، وبدلا من أن يضيف لمسة فكاهية خفيفة أو درامية معبرة، بالغ في أداء الشخصية بشكل جعله يبدو مبتذلا ومصطنعا، إذ طغت المبالغة في تعبيراته على الجانب الكوميدي من الدور، وهذا أفقد المشهد توازنه وأثره، وكان من الأجدر أن يعطى الدور المزيد من النضج ويُقدَّم بأسلوب أكثر احترافية، بحيث يبين تناقضات الشخصية بين الكوميديا والدراما بشكل أكثر دقة.

ويستحق الممثل الشاب صلاح الدين مجود بلا شك أدوارا رئيسية تناسب موهبته الكبيرة ومظهره البطولي المميز، فهو خريج الدراسات المسرحية، ويتمتع بوجه قوي وحضور لافت أمام الكاميرا، يجعله قادرا على تجسيد أدوار ذات طابع مركب ومعقد، ويبرز فيها براعة الأداء وعمق الشخصية، بينما الأدوار الصغيرة التي يقوم بها حاليا لا تليق بحجمه الفني، إذ لا تعكس إمكانياته الواسعة ولا تمنحه الفرصة للتألق في أدوار أكثر تحديا، لذا كان من الأجدر أن يتم تقديمه في أدوار رئيسية تليق بكفاءته، حيث يمكنه من خلالها إبراز قدراته في تنوع الشخصيات وجذب الانتباه بشكل أكبر.

تطور أسلوب المخرج هشام الجباري في اختيار الزوايا وترتيب اللقطات والمشاهد فأصبح أكثر دقة وتعقيدا مع مرور الوقت، إذ يبدي قدرة متزايدة على استخدام الزوايا بما يخدم عمق الشخصية والبيئة المحيطة بها، فالزوايا المنخفضة والعالية تُظهر الفجوة بين الشخصيات وواقعهم القاسي، بينما تأتي اللقطات المقربة لتسليط الضوء على مشاعر المعاناة والتوتر خاصة تلك اللقطات القريبة جدا التي يأخذها المخرج لوجه البطلين حادة وكريمو، كما تميز ترتيب المشاهد بسلاسة التنقل بين الكوميديا والدراما، وهو ما يمنح العمل إيقاعا متوازنا يعكس التوتر الداخلي للشخصيات.

14