الفتاوى التطوعية في خدمة سياسات الحكومة المصرية

تواجه سياسات الحكومة المصرية الاقتصادية والاجتماعية انتقادات حادة من قبل المواطنين والمعارضين السياسيين، ما يولد حالة من الاحتقان قد تستغلها بعض التيارات المتشددة. وأدى ذلك إلى انخراط "طوعي" لدار الإفتاء المصرية في معاضدة رؤى الحكومة.
القاهرة - تجندت دار الإفتاء المصرية خلف الحكومة، مع عودة استهدافها من جانب جماعة الإخوان ومنابرها الإعلامية، وأطلقت فتاوى مرتبطة بدعم سياساتها لإضفاء مشروعية دينية عليها، في مواجهة محاولات تشويه صورتها في الشارع.
وأطلقت مؤسسة الفتوى حملة إلكترونية لدعم مبادرة “بداية جديدة”، والتي أطلقتها الحكومة مؤخرا لتعزيز ثقة الشارع في توجهاتها التنموية، معتبرة أنها تهدف إلى إعادة بناء الإنسان وتوفير متطلباته الحياتية، وهي مبادرة تعول عليها بعض دوائر السلطة لتقريب المسافات بينها وبين المواطنين عبر تقديم خدمات فريدة.
وأصدرت دار الإفتاء جُملة من الفتاوى التي تُحرم كل تحايل مجتمعي يُخالف سياسة الدعم، أو الحصول على مساعدات من الدولة دون وجه حق، بالتوازي مع فتاوى أخرى بتحريم سرقات الكهرباء مع إطلاق الحكومة حملة موسعة ضد مئات الآلاف من المواطنين الذين دأبوا على سرقة التيار االكهربائي والتنصل من حقوق الدولة.
وكانت الحملة الدينية الأخيرة ضد الشائعات والمعلومات التي تثير البلبلة دون توثيقها من أولي الأمر (المسؤولين المختصين)، وهو ما حرمته مؤسسة الفتوى، مؤكدة أن كل من يروّج شائعة يرتكب إثما عظيما، لأنه يثير البلبلة في الوطن وينشر الاضطراب والتأثير السلبي على السلم المجتمعي، وذلك من كبائر الذنوب.
وتعرضت الحكومة المصرية لسيل من الشائعات حول ملفات جماهيرية وسياسية تحمل قدرا من الحساسية، واكتشفت أعدادا كبيرة من المواطنين يسرقون الدعم والكهرباء ويحصلون على امتيازات مخصصة للبسطاء بلا وجه حق، ما دفع المؤسسة الدينية إلى الدخول على خط المواجهة بدعم توجهات السلطة.
واستبعدت دوائر سياسية أن يكون موقف مؤسسة الفتوى من دعم توجهات الحكومة، جاء بطلب من جهات فاعلة داخل
السلطة، في ظل تمسك رأس الدولة بتكريس مدنيتها وإبعاد الفتوى وكل ما هو ديني عن التدخل في حياة الناس، مقابل تركيز كل مؤسسة دينية على تقديم خطاب مستنير لتجفيف منابع التشدد.
وتظل الحكومة المستفيد الأول من الفتاوى الداعمة لتوجهاتها التشريعية والاقتصادية، لكن المؤسسة الدينية اعتادت التبرع بالدفاع عن بعض السياسات التي تخلق حالة من الجدل والغضب عند شريحة من المصريين، بدعوى أنها جزء من المؤسسات الوطنية التي يفترض أن تشارك في مواجهة التحديات التي تواجهها الدولة.
وجاء تقديم فتاوى داعمة للحكومة في توقيت سياسي حرج يرتبط باتساع دائرة التململ الشعبي مع تزايد الأزمات، حيث تستنفر الحكومة قواها لإحداث تطور إيجابي في علاقتها مع الشارع على أمل ترميم جدار الثقة الذي تهاوى جراء تبعات القرارات الاقتصادية التي عمقت سوء الأوضاع المعيشية.
دار الإفتاء أصدرت جُملة من الفتاوى التي تُحرم كل تحايل مجتمعي يُخالف سياسة الدعم، أو الحصول على مساعدات من الدولة دون وجه حق
وتستهدف الفتاوى السياسية تعبئة الشارع خلف الحكومة بتبرير كل إجراء أو قرار مرتبط بالأوضاع الاجتماعية، ما يجعل الفتوى تُواجَه باعتراض شعبي، ويخرج الطرفان (المؤسسة الدينية والحكومة) خاسرين، لأن التوقيت نفسه خاطئ ولا تتقبل شريحة كبيرة من الناس الدفاع عن توجهات حكومية خباياها غير معلومة.
وأخفقت المؤسسات الدينية في مصر، الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء، في تقديم خطاب ديني لا تظهر عليه علامات سياسية، أو يُفهم أنه موجه لخدمة أهداف حكومية مباشرة أو غير مباشرة، ما جعل كل دعم للسلطة محل شك وريبة، وهي ثغرة يستفيد منها خصوم السلطة لتحقيق مآرب سياسية.
ويتحفظ مؤيدون للحكومة على دخول أي مؤسسة دينية في جدل سياسي، ولو كان يستهدف مساندة توجهات السلطة، لأن ما تم رفضه خلال فترة حكم الإخوان من توظيف الدين لأغراض سياسية لا تجب إعادة إنتاجه بالتسويق لدعم الحكومة في مواجهة التحديات وإضفاء المشروعية على الصرامة في مواجهة الفساد.
وقال الكاتب المصري خالد منتصر إن دعم جهة الفتوى للحكومة ليس وليد اللحظة، وإنما هو وليد فلسفة الاتكاء والاعتماد على الفتوى في تمرير قوانين وإجراءات مدنية، ومنذ فترة طويلة تعتمد الحكومة على الفتاوى لتبرير الكثير من التحركات والسياسات مع أن ذلك يتعارض مع أبسط قيم الدولة المدنية.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن فتاوى دعم الحكومة باتت عادة وإن لم تُطلب من المؤسسة الدينية، حتى اقتنعت بأن ذلك جزء من دورها، في ما يُعرف بـ”الإباحة التطوعية”، مع أن الدولة ليست في حاجة إلى إقناع الناس بسياساتها من خلال الاحتماء بالدين، والمفترض أنها تعتمد على قوانين مدنية في إدارة قراراتها.
الحكومة تظل المستفيد الأول من الفتاوى الداعمة لتوجهاتها التشريعية والاقتصادية
كما أن الدعم الديني للحكومة، مهما كانت نوايا القائمين عليه حسنة، يُظهر مؤسسات الدولة على خلاف الحقيقة، وكأنها عاجزة عن إيجاد حلول لتمرير قراراتها وتفسير توجهاتها التنموية، أو تلك التي تستهدف محاربة التحايل على القوانين لتبرير السرقات، مع أن الدولة قوية ولديها من الأدوات ما يكفي لتكريس هيبتها.
وهناك قضايا دينية قد تلامس السياسة بشكل غير مباشر وتتطلب دعما للحكومة وقت الأزمات، لكن هذا لا يبرر لدار الإفتاء -أو غيرها من المؤسسات الدينية- إضفاءها قدسية على خطط السلطة لعبور الأزمة، لأنها لا تتحرك وقت التحديات وفق أهواء شعبية بل بالطريقة التي ترى أنها تحفظ أمنها الداخلي.
ويوجد فريق مؤيد لإضفاء المشروعية الدينية على بعض توجهات الحكومة، إذا كانت الأزمة متعلقة بشق أخلاقي كسرقة الدعم أو المساعدات والخدمات المخصصة لشريحة معينة، أو أن تكون هناك دعوات للتخريب وتعمد إنهاك الدولة، وهنا مطلوب حشد الناس وتوعيتهم وتجييشهم لدعم الحفاظ على الوطن وأمنه.
وتكمن المعضلة االرئيسية في أن المؤسسة الدينية، وهي تسعى لترميم صورة الحكومة، تعاني من تراجع مصداقيتها عند مواطنين يرونها غير مستقلة وتتماهى مع السلطة بطريقة فجة أحيانا، وهو ما أثر على حضورها في الشارع وفجر شكوكا حول خطابها، لأن هناك من يضعها في خانة واحدة مع الحكومة.
وقد لا تُدرك مؤسسة الفتوى أنها عندما تتبارى في تقديم خطاب داعم للحكومة، ولو كانت تستحق، تقدم خدمة مجانية لجماعات متشددة تسعى لضرب ثقة الناس فيها كجهة دينية، لتحل مكانها وتصبح مصدرا مستقلا للفتوى يلجأ إليه الناس عند الاستفسارات الدينية، وبدلا من إقصائهم من المشهد تتم مذهبة السياسة لهم.
ومهما كان الدعم الديني المقدم للحكومة مدفوعا بمسؤولية وطنية وقت الأزمات والتحديات، إلا أنه يوحي بأن السلطة عاجزة عن إيجاد حلول وتستسهل اللجوء إلى الفتوى لترهيب الناس واللعب على وتر التدين المجتمعي، ما يفرض على النظام تحييد المؤسسات الدينية عن السياسة، إذا أراد إثبات قوة مؤسسات الدولة وصلابتها.