شح الإنتاج وغياب شركات خاصة يتلفزان أفلاما سينمائية مغربية

تكلفة الإنتاج الهزيلة تخلف أفلاما متشابهة الجودة.
الاثنين 2024/11/25
بعد آخر في مسألة الأفلام

لكل نوع من الأعمال التلفزيونية أو السينمائية أساليبه الخاصة في السرد والتصوير، ويشمل البنية الدرامية والتقنيات الفنية، ومع شح الإنتاج والميزانيات المتواضعة بات صناع الأفلام يتجهون لإنتاج أعمال أقرب للتلفزيون.

الرباط - تتجلى في الأفلام السينمائية المغربية مؤخرا إشكالية تتداخل فيها أساليب الإخراج السينمائي مع تقنيات العمل التلفزيوني، فتثير تساؤلات عميقة حول الفروق الجوهرية بين الفيلمين السينمائي والتلفزيوني، ومدى استيعاب هذه الفروق وتطبيقها في الإنتاجات السينمائية، فلماذا تفتقر بعض الأفلام إلى العمق السينمائي وتبدو وكأنها مجرد سرد مباشر أقرب إلى أسلوب التلفزيون؟ هل يرجع ذلك إلى محدودية الموارد والإمكانات المتاحة، أم إلى غياب الوعي الفني بالفوارق الفنية بين الشاشتين؟

وتزداد هذه الإشكالية تعقيداً حين نلاحظ أن بعض النقاد لا يميزون بوضوح بين الفيلمين، وهذا يكشف بعداً آخر في هذه المسألة، يتعلق بمدى إدراك النقاد أنفسهم لأسس ومعايير النقد السينمائي التي تميز الفن السابع عن الدراما التلفزيونية.

وتفتقر بعض الأفلام المغربية إلى العمق السينمائي وتبدو وكأنها مجرد سرد مباشر أقرب إلى أسلوب التلفزيون نتيجة لعدة عوامل متشابكة، تتراوح بين القيود الإنتاجية والافتقار إلى رؤية فنية مغايرة، لأن السينما تتطلب مقاربة فنية خاصة على عكس التلفزيون، فهي تحترم لغة الصورة والتصوير وتتجاوز السرد التقليدي البسيط نحو بناء فضاء معرفي يثير التأمل ويسمح للمشاهد بالغوص في أعماق الأحداث والشخصيات، ولكن حين يقتصر عمل المخرج على استخدام تقنيات التلفزيون التقليدية، فإن الفيلم يتحول إلى مجرد تسجيل للحوار والتفاعل البسيط بين الشخصيات، دون البحث في الأساليب السينمائية التي تدعو إلى استخدام الرمزية والتصوير الفني والصمت والعلاقة بين الزمان والمكان.

ويرجع هذا النقص في العمق السينمائي إلى محدودية الموارد والإمكانات المتاحة، حيث تعاني العديد من الإنتاجات المغربية من صعوبات في تأمين ميزانيات كافية تتيح لهم الاستفادة من أحدث تقنيات التصوير والإضاءة والمونتاج التي تعتبر أساسية في إحداث تأثيرات بصرية وحسية، وهنا يجد المخرجون أنفسهم مضطرين إلى الاعتماد على أساليب أكثر تقليدية وأقل تكلفة ويساهم في تبسيط العمل وتقليص تعبيراته الفنية، ولا تقتصر هذه الإشكالية على الإمكانيات المادية فقط، بل تشمل أيضًا قلة التكوين الفني الذي يمكن أن يوسع الأفق الإبداعي ويعزز القدرة على استثمار الجماليات السينمائية.

ويعد غياب الوعي الفني والافتقار إلى الفهم العميق للفوارق  بين الشاشتين من العوامل الأساسية في هذا التحول، فالتلفزيون بتركيبته السردية المباشرة يتعامل مع الجمهور بشكل أقرب إلى التوثيق والتفسير السهل، حيث تنحصر الوظيفة الأساسية في نقل الأحداث بسلاسة، وهذا يختلف عن السينما التي تتحلى بقدرتها على طرح الأسئلة المعقدة  عبر الصورة والرموز، وتتيح للمشاهد فسحة من التأمل، بينما صناع الأفلام الذين يقتصرون على الأسلوب التلفزيوني يغفلون عن هذه الفروق الجوهرية، ويعجزون عن تقديم فيلم سينمائي يرتكز على معايير عالمية، لكن مادام هناك غياب للإنتاج الخاص وشركات استثمارية كبرى لن يتغير الوضع، سيستفيد فقد أقرباء صناع الافلام من الوزارة وأصدقاء المصالح، والباقي سيضطر إلى تمويل فيلمه بنفسه أو البحث عن تمويلات خارجية، وفي هذه الحالة سنعود إلى الخلط الذي ذكرناه سابقا.

◙ الفيلم الذي يُصوَّر بمعايير التلفزيون، إما بسبب ضغوط الإنتاج أو مخرج أسير لشاشة التلفاز، لا يستطيع أن يفهم لغة السينما

وتتعمق إشكالية التداخل بين الفيلمين السينمائي والتلفزيوني عندما نلاحظ أن بعض النقاد لا يميزون بين النوعين، وهذا أيضا يعكس خللاً في فهم أسس ومعايير النقد السينمائي الذي يتطلب أدوات تحليلية تعتمد على فهم عميق للغة السينما التي تجمع بين الصورة والصوت والإيقاع الزمني لتخلق تجربة سينمائية متكاملة، بينما يتعامل النقد التلفزيوني مع أسلوب سردي أبسط يعتمد بالأساس على الحوار المباشر والتسلسل الزمني البسيط، دون أن يكون هناك تركيز على الفضاءات البصرية أو البنية السينمائية المعقدة.

فلا يعقل أن يتهم فيلم سينمائي بأنه تلفزيوني دون إدراك الخلفية التي أُنتج فيها الفيلم أو الأسباب التي جعلته يبدو أقرب إلى الإنتاج التلفزيوني، ففي الكثير من الأحيان تكون العوامل مادية ولوجستية، مثل محدودية الميزانية أو الظروف الإنتاجية الخاصة، وهي التي تحد من استخدام الأساليب السينمائية التقليدية مثل التصوير والإضاءة المعقدة والمونتاج المتقدم، وهذا يساهم في إعطاء الفيلم طابعاً أقرب إلى العمل التلفزيوني، ولكن من غير المنطقي أن يتم الحكم على الفيلم من خلال هذه العوامل دون النظر إلى السياق الذي أُنتج فيه.

القول إن هذا الفيلم تلفزيوني يجب أن يكون مدعما بالحجج الدقيقة والمقنعة وليس مجرد اتهام عابر، فلكل نوع من الأعمال أساليبه الخاصة في السرد والتصوير، ولكل منه السرد والتصوير طريقة نقد وتحليل متميزة، بينما النقد السينمائي لا يتوقف عند الشكل البصري فقط، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ليشمل البنية الدرامية والتقنيات الفنية التي تميز السينما، وهنا لا يمكن مقارنة هذا العمل بالتلفزيون دون تحديد خصائص العمل التلفزيوني، من حيث تنوع الموضوعات وأسلوب السرد ومدة العرض، والتي تختلف بشكل جذري عن تلك التي نجدها في أفلام الشاشات الكبرى.

ومن الواضح أن الفارق الأول بين الفيلم السينمائي والفيلم التلفزيوني يكمن في تقنيات التصوير واستخدام الكاميرات، فالسينما تتطلب كاميرات عالية الدقة مثل كي4 التي تلتقط صوراً دقيقة جداً وتوفر أبعادا أكبر، لتكون مناسبة للعرض على الشاشات الكبيرة في صالات السينما، وهذا يتيح استخدام لقطات واسعة ومتوسطة تعكس المشهد بشكل كامل، بحيث يكون المشاهد قادراً على الانغماس في تفاصيل البيئة والمحيط الشاسع.

ويختلف الوضع في التلفزيون، حيث تستخدم كاميرات بدقة أقل مثل “فل.اتش.دي”، ويعرض العمل على شاشات أصغر ليفرض ضرورة استخدام لقطات قريبة ومحدودة لتناسب المساحة الضيقة للعرض، وهذا الاختلاف ليس محصوراً فقط في نوعية الكاميرا، بل يمتد إلى الإنتاج نفسه، إذ تنتَج الأعمال السينمائية عادة باستخدام تقنيات مكلفة وأماكن تصوير مخصصة، بينما تركز الأعمال التلفزيونية على توفير تكلفة الإنتاج من خلال تقنيات أقل تكلفة، ولعل إحدى النقاط المحورية التي تميز السينما عن التلفزيون هي طريقة استخدام الحوار وأسلوب السرد، حيث يعتبر الحوار في السينما عنصراً ثانوياً مقارنة بالصور والمشاهد البصرية، إذ يتم التركيز على الإيحاء البصري الذي يصل إلى المشاهد بشكل مباشر عبر الكاميرا، والموسيقى التصويرية والتأثير البصري وتلعب الصورة دوراً كبيراً في نقل المعاني والمشاعر، وهذا يجعل الحوار مقتضبا ولا يعتبر أساسيا في نقل القصة.

ويعكس هذا ما نجده في الأعمال التلفزيونية، إذ يتخذ الحوار دورا رئيسيا في تطوير الحبكة والشخصيات، ويتم استخدام الحوار اللفظي بشكل مكثف لضمان تطور الأحداث بشكل منطقي ودائم، حيث يعتمد السرد التلفزيوني على تتابع الأحداث في زمان ومكان محدوديْ المدة في الشريط لتوضيح حبكة القصة، ثم إن ميزانية الفيلم التلفزيوني ليست هي ميزانية الفيلم السينمائي الضخمة، وفي المغرب إذا ما شاهدت عملا في قاعة السينما وبدا لك كعمل تلفزيوني، فاعلم أن ميزانيته تكفي لتشييع جنازة ميت.

15