بانوراما الفن التشكيلي الجزائري.. رحلة في 400 عمل فني

أعمال فنية مثل مرايا تعكس الحكايات وتجسد علاقة الفن بالأرض والأفكار.
الأحد 2024/11/17
أبعد من الرؤية.. أعمق من العرض

في قصر الثقافة مفدي زكريا بالجزائر وبمناسبة إحياء الذكرى 70 لاندلاع الثورة الجزائرية، عرضت أكثر من 400 لوحة فنيّة لقرابة 200 فنان تشكيلي جزائري أثّروا على الحركة التشكيلية على مدار 70 سنة بما تحمله من تطور ونضج وعمل وتقنيات وأساليب وتجريب في معرض بانوراما الفن التشكيلي الجزائري.

وبشكل أنيق ملموس حسّيا وحركيا، كثيف ومتداخل بصريا وفكريا، تمكّنت الأعمال من أن تراوغ التاريخ ليحاكي العمق البصري والتنوع التجريبي والروح التي ذهبت بعيدا بالمفاهيم من خلال الانتماء للذات للأرض للفكرة/”الحرية” والتراث الرمز والعلامة، لتتكامل التجارب مع المراحل والأزمنة علما أن التقريب الكرونولوجي لفكرة عرض التجارب التشكيلية لمرحلة الثورة قد يظلم تاريخ المسار التشكيلي الجزائري الذي بدأ قبلها بسنين بتمازج وعمق وتميّز بصري منذ ما قبل عشرينات القرن الماضي وتبلور في الحضور والمعنى.

بين اللوحات والتجارب

المعرض كانت فيه الأعمال الفنية مثل مرايا تعكس حكايات بحركة وفعل فرض تفاعل المتلقي مع ما تحمل في ذاتيّتها من الحضور الإبداعي والصنعة الفنية والاحتراف الخاص بكل فنان وبمنطقه البصري وتوجّهه المنطلق أبعد في الشمولية التعبيرية ذات المقياس العالمي والتفرّد الجزائري الخاص ببيئته ورموزه.

للوهلة الأولى ينتاب المتلقي شتات مفعم بالجمال والحيرة بالتنقّل بين التجارب بالتمازج مع الحكايات بمعايشة اللون واستنباط المفهوم، كل تلك الكثافة تجبر المتلقّي على أن يغمض عيني وعيه وينقاد إلى الفضول حتى لا يسحق التلقي الأوّل لكل تلك الأعمال بين البحث والسفر عبرها ومداه وحكاياته التي تحتاج بدورها أكثر من زيارة لكي تفسّر وتُرى بعين مفتوحة على الجمال المُشتهى والمُنتظر في منطقه أمام تاريخه وفلسفته وحقيقته الحرّة وتفاصيله وأعلامه في تصوّرات المتلقي التي تُحاول أن تستوعب استقبال 400 عمل فني من تاريخ الفن التشكيلي الجزائري.

المعرض انعكاس لحوار فني بصري إنساني نضالي قدم التوافق الحسي والذهني بين الأجيال واستلهامها من الثقافة الجزائرية

قال عنها التشكيليون المعاصرون إنها لمسة وفاء حسيّة لها معانيها الراسخة في عمق الفن التشكيلي الجزائري الذي قدّم نضالاته الواعية والراقية على مراحل ميّزت فترة هامة من تاريخ الجزائر.

من بين الفنانين المشاركين التشكيلي مراد عبداللاوي حيث قال إن مشاركته تعتبر فرصة للتلاقي مع الأجيال وإثبات مدى تأثّره بهذا الزخم البصري الجزائري المتنوع حسب المناطق وحسب الرؤى، التي تبدأ من الجزائر كفكرة حرّية وتأثيرها العميق على الفلسفة البصرية. واعتبر أيضا أن المعرض انعكاس لحوار فني بصري إنساني نضالي قدم التوافق الحسي والذهني بين الأجيال واستلهامها من كل التفاصيل الفكرية والثقافية التي ميّزت الجزائر.

كما اعتبر أيضا التشكيلي عبدالرحمن بختي أن جيل الاستقلال تأثر بالمرحلة المبنية على الانتماء للثورة والتحرير، وانطلق منها للحفاظ على البصمة التي تموقعه في وطنه ثقافيا وجغرافيا، وتدفع بالفنان لتكثيف حضوره بالعمل الفني البصري الشامل.

اللون وانعكاسه

لوحات تتجاوز حدود التواصل الحسي
لوحات تتجاوز حدود التواصل الحسي

رغم أن المعرض قد قسّم التجارب على مرحلتين تشكيليتين، رواد مثّلوا جيل الثورة 1954-1962، والمرحلة المعاصرة ما بعد الاستقلال إلى الفترة الحالية 1962 – 2024، إلا أن المرحلتين في حدّ ذاتهما تعكسان مراحل وتطوّرات تفصيلية داخلية لكل منطلق تجريبي.

والمتأمل الحقيقي للمرحلتين لا يمكن أن يقف في حدود الأزمنة لأن الامتداد استمرّ في تأثيراته بشكل آخر في انعكاسه وبتطوّر ناضج لما بعد النضج البصري بين التأثر والتأثير، خاصة وأن الجزائر كانت في مراحلها مفتوحة على حضارات عميقة وتاريخ غارق في التعبير الفني حتى لما قبل التاريخ، وكهوف التاسيلي تشهد على تلك التفاصيل البصرية المدهشة.

الجزائري استلهم من كل الأزمنة تفاصيله الحرّة مفتوحة على الجوانب البصرية للتشكيل الأوروبي الفرنسي وتجارب المستشرقين وتوافدهم المستمر، وهي نقاط تحتاج التفكيك من حيث التقنية والجرأة والتعبير والطرح والندية والمحاكاة والتنافس بفلسفة حرّة ونضج تفصيلي استفاد فيه التشكيليون الجزائريون من الزخم المعرفي بالتجارب الغربية والحركة الاستشراقية ولمس الأبعاد التقنية والحضور الثقافي والمحاورة البصرية بين الشرق والغرب والحرية كمفهوم وحق الشعوب في تقرير مصيرها والعدالة التي تجلّت، بل توثّقت في كل ذلك التراث البصري التعبيري التجريدي الواقعي الرمزي الحروفي الإسلامي الشكلي الحرفي والزخرفة والتأثر بالخامة بالعناصر التشكيلية وهو ما منح الأعمال تجذيرا إنسانيا عميقا ولمسة عالمية استطاعت وفقها أجيال ما بعد التحرير أن تحملها في مسارها بنضج ووعي.

على خطى الرواد

فنانو المرحلة الأولى في الجزائر خلقوا مواضيعهم وتمثيلاتهم انطلاقا من المحمل الفني الغربي بأساليب جزائرية خاصة

تُظهر مسارات الفنانين الرواد الأوائل أن الفن لم يكن مجرد اكتساب المهارات والبراعة الفنية بمعزل عن الواقع الجزائري بل كان معه الموقف أيضا ينضج ويتكامل، خاصة في ما يتعلق أيضًا بالهجرة الحقيقية للبصر والارتحال نحو الفكرة بكامل الحضور الفلسفي لها من خصوصية المصدر الأساسي لها، مع ضرورة إتقان واستخدام الفن خدمة للوطن أولا وتوجه للإنسانية بدرجة أساسية كلغة تعبير شاملة وكونية.

 وبهذا المعنى خلق فنانو المرحلة الأولى مواضيعهم وتمثيلاتهم انطلاقا من المحمل الفني الغربي بأساليب جزائرية خاصة، حيث تكشف مسارات الرحلات عن أماكن كانت بمثابة علامات ثقافية حاسمة، وتسلط اللوحات المعروضة الضوء على التجارب مما سمح بالتعرف على فنانين استطاعوا تأكيد أنفسهم وتأسيس تجربتهم وتجاوز الصعوبات والعقبات الكامنة في النظام الاستعماري.

ساعد التكامل مع خصوصيات الفن الأوروبي في الاحتكاك بالنموذج الفرنسي حيث ساهم اتصال التشكيليين الرواد بالعاصمة الجزائر التي كانت مجهزة بشكل أفضل بالمؤسسات والفنانين والمشرفين، في تطوير ونضج التجربة التشكيلية عند الفنان الجزائري التي انطلقت بشكل واثق وبندية مع غيرها من التجارب الغربية، نذكر معمري والإخوة راسم، وبوكرش، وقد أنجبت مراكز ثقافية أخرى في قسنطينة ووهران وتلمسان فنانين مثل همش، غرماز ويلس.

ارتباط بالأرض وعمقها (لوحة للفنان محمد خدة(
ارتباط بالأرض وعمقها (لوحة للفنان محمد خدة)

مثلا مسار محمد راسم اعتبر فترة مميّزة أسّست لتشكيل فن المنمنمات (1896 – 1975) كان لها دور في تسليط الضوء على أهمية دور البيئة الأصلية، قصبة الجزائر العاصمة، خصوصياتها الزخرفية، الحرفيين، العمارة، حيث لم يكن راسم تشكيليا اعتياديا بل حمل الرؤى الجديدة التي تأثرت بالفنون الإسلامية واستطاع أن يوقعها عليها بصمة وحضورا، ففي مجلة “العالم” الصادرة من بيروت سنة 1953 والتي تحدّثت عن تجربته نقرأ “إن محمد راسم ينتقي مواضيعه الفنية، من تاريخ الجزائر وما رسومه إلا قصائد تتغنى بمجد بلاده، فهو إذن رسام وطني، يخلد ذكرى الوطن العزيز، ورسام عالمي ستبقي صوره ورسومه اسمه خالدا في التاريخ.”

التاريخ أيضا يذكر أزووا معمري (1886 – 1954)، ابن منطقة القبائل، الذي أثبت جدارته الفنية في باريس عاصمة الفنون، كان أول جزائري يصبح رسامًا للحامل قدّم أعماله عام 1917 في معرض جماعي في باريس، فقد كانت له مسيرة مهنية مثالية في المدرسة الثانوية ثم في مدرسة المعلمين في بوزريعة، حيث اجتاز ما كان يسمّى آنذاك، نظرا إلى الانقسام الاستعماري، امتحان القبول في “الدورة العادية الأصلية”، وفي مدرسة المعلمين العادية أكد ذوقه وموهبته في الرسم والتلوين، كما يذكر ذلك في مذكراته. كان المسار المستقل للفنان الجزائري في حد ذاته انتصارا وقد تم تسهيل هذا الابتعاد عن القوالب المسبقة من خلال عمل ناصر دينيه، وهو نفسه شخصية لها حضورها البارز في التشكيل الجزائري.

كان لناصر دينييه الفنان الفرنسي المولد الجزائري التوجه المسلم روحا وتعبيرا تأثير على حركة وتاريخ التشكيل الجزائري قال عنه محمد راسم “فنان أصيل ومتقن تمام الإتقان لمهنته، وكان من ذوي العواطف النبيلة والفكر النير، كان مدفوعا بإيمان صادق، كما كان يتمتع بشخصية جذابة ومهما حاولنا، فلن نوفيه حقه من التنويه بشجاعته، حيث كشف الأخطاء الفادحة التي ارتكبها بعض المستشرقين في تفسيرهم، وفي ترجمتهم لبعض النصوص العربية، وكذلك ندد بظلم السلطات الاستعمارية، ونجح أحيانا في إدانتها.”

في سنة 1947 كانت باية محي الدين أكثر من لفت الأنظار في باريس، طفلة تلتقي بيكاسو وتقيم معرضا وهي لا تبلغ 15 عاما من عمرها وبتكوينات مميّزة وزخارف مدهشة جعلتها ظاهرة تشكيلية.

اسياخم والحقد المقدّس

زخم لرؤى مختلفة في ظروفها
زخم لرؤى مختلفة في ظروفها

يقول الرسام ومصمم الجرافيك الجزائري محمد اسياخم “الحقد مقدس، إنه التعبير عن رفض القلوب القوية والقادرة، الكره يعني الحب، إنه الإحساس بحرارة الروح وكرمها، إنه يخفف القلق، ويصنع العدالة إنه يجعل الإنسان أكبر من الأشياء التافهة والحقيرة.”

في الخمسينات أخذت التحوّلات الفكرية تتماهى وتتمازج وتتبلور معا في تكوينات الموقف البصري الذي سطع مع محمد اسياخم، محمد خدّة، البشير يلس، الذين انطلقوا بأساليبهم نحو التجريد والحداثة المدمج مع التراث مع الفلسفة مع الفكر.

 محمد اسياخم شكّل علامة مضيئة في استثنائية تجريبه وأسلوبه وحكايته مع الفن ونضاله الفني، الذي رآه كلحظة ألم تتجاوز ذراعه المبتورة ومشاهد الموت التي كانت تحيط به، تراجيديا ومعاناة وصبرا ومواقف ورغبة شديدة في توجيه الوجع إلى الفن كرحلة من العتمة إلى النور بالفن الضوء أو النور، لوحته “ماسح الأحذية”، عكس فيها رغبته في انعتاق جزائره المقهورة وحقها في الفرح في الحياة كانت علاماته بارزة في رمزية الأمّ والمرأة كحياة والجماليات، يستمدها من الموجع المخيف في تدريجات الألوان الترابية والباردة هاجس الحواس والعاطفة وخيال الفرح والرغبة من محاكاة تراثه الشعبي.

التقريب الكرونولوجي لفكرة عرض التجارب التشكيلية لمرحلة الثورة قد يظلم تاريخ المسار التشكيلي الجزائري الذي بدأ قبلها

تكامل محمد خدة مع اسياخم في الكثافة البصرية والروح النضالية التي كانت مؤثرة عربيا ودوليا كحركة تحديث تجريدية بخصوصية جزائرية، غير أن خدّة كان مروّضا للون بلغة تشكيلية مكتنزة بالغنائية وظف معها الحرف العربي وهنا كان التفرّد بين الأسلوبين الغربي في التجريد والعربي في الحروفية ما أضفى على التجريد معنى.

المعرض بانوراما حقيقية في جمع الفن وفق موزاييك الجمال ليحاكي الفكرة بالمفهوم أمام فلسفتها البصرية زخم رهيب لرؤى مختلفة في ظروفها وفي تطوّراتها في تأثراتها وتأثير بيئتها ووقائعها وأحداثها وشخصياتها ورمزياتها، تؤرّخ فترات تمازجت فيها وسائل النضال وأساليبه أدبا فنا، تجذّرا لثقافة منعت عن ذاتها الطمس وتشبّثت أكثر بالحضور في هويّتها المحلية والعربية والأفريقية والعالمية.

من خلال تحفيز المقاومة الميدانية كانت تلك المحاكاة الثقافية، خاصة تلك التي اجتمعت في اللوحات حتى تستدرج المتأمل إليها بشغف، وتدفع به إلى زيارات متكرّرة لمعايشة التاريخ واستلهام التجربة وتفعيل الحضور الحسيّ للتجارب التي عايشت بدورها اللحظة وعبّرت عنها ووثّقتها وحفّزتها للتجارب التي استمرّت أيضا ما بعد التحرير والاستقلال، واندفعت مع الأجيال التي لحقتها أبعد في تفصيل شمولية التعبير في الانطلاق بفكرة الهوية والحرية إلى عوالم راسخة في الإبداع والتفرّد.

 70 عاما كما بدت في اللوحات الرابضة على مشارف الفكر لا تحاكي اندلاع الثورة الجزائرية بتفاصيلها المندمجة، ولكنها تحاكي تأثّر كل فنان برؤية “الجزائر” وتمازجها مع الرؤى الجمالية والخلق الإبداعي لفلسفة الفنان التشكيلي واندماجه مع سيمياء الصور، وما وراء الصورة التي خلّدت الأعمال حتى اللحظة، لأنها ليست مجرّد تواصل حسيّ وتمجيد اعتياديا لثورة الجزائر ولكن تفكيك بصري لقدرة الفن على التماهي مع الواقع والسمو أكثر بالإنسانية.

11